"اتفاقية إسطنبول":

لماذا يتعرض نظام "أردوغان" لانتقادات في ملف حقوق المرأة؟

26 July 2021


في مقابل تصاعد الحركات العالمية المهتمة بحقوق المرأة، خرجت مظاهرات نسائية في تركيا خلال شهر يوليو الجاري تندد بقرار انسحاب أنقرة من "اتفاقية إسطنبول" لمكافحة العنف ضد المرأة، والذي تم تنفيذه رسمياً في الأول من يوليو 2021، وذلك تطبيقاً لقرار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي أعلنه في مارس الماضي. وعلى الرغم من أن مكتب الرئيس التركي قد أصدر بياناً للمحكمة الإدارية يفيد بأن الانسحاب من الاتفاقية لن يؤدي إلى أي تقصير قانوني أو عملي في منع العنف ضد المرأة، إلا أن قرار الانسحاب كان صادماً للمرأة التركية، وأكدت النساء خلال تظاهراتهن مطالبهن بالحماية من العنف الممارس تجاههن.

تغير وضع المرأة التركية:

تاريخياً، سعى مصطفى كمال أتاتورك بعد إعلان الجمهورية التركية في عام 1923 إلى تحسين وضع المرأة من خلال وضع قوانين علمانية تعزز من المساواة بين المرأة والرجل في شؤون الزواج والطلاق والإرث. كما روج أتاتورك إلى أفكار تحرر المرأة، ودفع المجتمع إلى قبول وضعها الجديد، بعد أن دخلت ميدان السياسة، وخرجت من عزلتها السابقة، وبدأت تدخل الجامعات ودوائر الدولة التي كانت محرمة عليها، كما فُتحت المدارس والجامعات والوظائف والأعمال الحرة أمام المرأة التركية، فانطلقت تدرس الطب والهندسة والفنون والآداب.. إلخ.

ولكن لم يستمر هذا الوضع، وتعرضت المرأة التركية إلى هجمة شرسة وطالتها التغيرات الثقافية والمجتمعية والسياسية بعد رحيل أتاتورك، خاصة مع اتساع تأثير الحركات الإسلامية في المجتمع التركي. وفي منتصف الثمانينات، صعدت الحركات النسوية الإسلامية لانتقاد حكم أتاتورك العلماني والدعوة إلى العودة إلى الأصول الإسلامية من أجل الالتزام الديني والأخلاقي. وفي عام 2002، وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، معلناً ليس فقط انتهاء الحكم العلماني، بل وإعادة أوضاع المرأة للوراء، وتغير وضع المرأة التركية بشكل كبير.

وقد تبنى حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان، بعض السياسات التي تحفز المرأة على الإنجاب وتشجعها على لعب دورها بالأسرة باعتباره "الدور الأساسي" للمرأة وفقاً لمنظور الحزب، وفي المقابل تراجع ظهورها في المجال العام، وكأن المجتمع رجع إلى ثنائية المرأة لها المنزل، والرجل له لعمل. وتم السماح بارتداء الحجاب في البرلمان والجامعة والمدرسة وغيرها من الأماكن الرسمية، وفي المقابل كثر الاعتداء على المرأة في الآونة الأخيرة. 

وتعاني تركيا مؤخراً من انتشار ظاهرة العنف ضد المرأة، وتتعدد أشكاله، ومنه ما هو علني ومباشر، ومنه ما هو مستتر، ولهذا يوجد الآلاف من المنظمات التي تهتم بشؤون المرأة في تركيا، وهو ما يُعد مؤشراً على وجود مشكلات جذرية تعاني منها المرأة التركية وتحتاج لمن يتصدى لها.

الانسحاب من اتفاقية إسطنبول:

أطلق مجلس أوروبا اتفاقية مكافحة العنف ضد المرأة، في عام 2011، والتي تم التفاوض عليها في مدينة إسطنبول، التي حملت اسم الاتفاقية لاحقاً، حيث تُعرف باسم "اتفاقية إسطنبول"، ووقَّع على الاتفاقية 45 دولة. وتستهدف الاتفاقية مكافحة كل أنواع العنف ضد المرأة والعنف الأسري، وتتضمن تشريعات متعددة ضد العنف، وختان الإناث. وتعتبر هذه الاتفاقية أول أداة قانونية ملزمة "تطبق إطاراً ونهجاً قانونياً شاملاً لمكافحة العنف ضد المرأة"، وتركز على حماية الضحايا، ومحاكمة المتهمين.

والجدير بالذكر أن تركيا كانت أول دولة صدقت على اتفاقية إسطنبول التي أُبرمت في عام 2011، ودخلت حيز التنفيذ في عام 2014، وهي أيضاً أول دولة تنسحب منها. ويمثل خروج تركيا من هذه الاتفاقية، التي تم صياغتها للتعامل مع العنف ضد النساء، المرة الأولى التي تقرر فيها دولة الانسحاب من اتفاق أوروبي بعد التصديق عليه. لكن أنقرة ليست الوحيدة التي لها اعتراضات على تلك الاتفاقية، فهناك دول أخرى جمدت أو رفضت التصديق أو ترغب في الانسحاب من الاتفاقية، ومن بينها بلغاريا والمجر وبولندا وسلوفاكيا. 

وتستند الحكومة التركية في قانونية المرسوم الصادر بقرار الانسحاب من اتفاقية إسطنبول، على أن الدستور ينص على أن رئيس الجمهورية ينظم هذه النوعية من الإجراءات، وتستند أيضاً إلى المادة 80 من الاتفاقية ذاتها، والتي تنص على أن أي طرف من أطراف الاتفاقية يمكن أن ينسحب بمجرد إخطار الأمين العام للمجلس الأوروبي بذلك، ومن ثم ترى الحكومة التركية أن خطوتها قانونية.

ودعّم بيان الرئاسة التركية موقفه بالقول إن 6 دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهي بلغاريا والمجر والتشيك ولاتفيا وليتوانيا وسلوفاكيا، لم تصدق حتى الآن على اتفاقية إسطنبول. كما رصد البيان التركي أيضاً أن بولندا اتخذت خطوات للانسحاب من الاتفاقية. 

دلالات الانسحاب:

أثار انسحاب تركيا رسمياً من اتفاقية إسطنبول لمنع العنف ضد المرأة، في مطلع يوليو 2021، العديد من الدلالات المختلفة، ومن أبرزها الآتي:

1- تصاعد العنف ضد المرأة التركية: تأتي خطوة الانسحاب من اتفاقية إسطنبول في ظل ارتفاع الاحصاءات التي تشير إلى ارتفاع نسب أعمال العنف ضد المرأة في تركيا، حيث تم إحصاء مقتل 300 امرأة في عام 2020 على أيدي أزواجهن وأقاربهن، ومنذ مطلع العام الجاري تم إحصاء 189 حالة قتل للنساء، وذلك وفقاً لإحصاءات المجموعة الحقوقية We Will Stop Femicide. كما أوضحت منظمة الصحة العالمية أن حوالي 38% من النساء في تركيا تعرضن مرة واحدة على الأقل للعنف الأسري. وتعتبر جرائم قتل للنساء في تركيا من أخطر الجرائم، خاصة وأنه في بعض المناطق ثمة عدم مبالة مجتمعية للعنف الممارس ضد المرأة. 

وترجع أسباب تصاعد العنف ضد المرأة في تركيا إلى عدة أسباب، أهمها حدوث تغيرات جذرية في المجتمع ذاته مع قدوم الكثير من سكان المناطق الريفية "المحافظين" إلى المدن الكبرى ذات التوجهات القيمية والمعيشية المختلفة، ما أدى إلى وقوع بعض الحوادث العنيفة التي دفعت المرأة ثمنها. كما ساعد ضعف العقوبات والأحكام المتعلقة بجرائم العنف ضد المرأة، بحجة أن الجاني ارتكبها بدافع الحب، على عدم حماية المرأة من تكرار هذه الممارسات. يُضاف إلى ذلك، اتساع الهوة بين التيار المحافظ والتيار العلماني، واعتبار تولي التيار المحافظ للحكم أنه قد أعطى الضوء الأخضر للتطرف ضد المرأة. 

2- زيادة مخاوف المرأة التركية: يرى الحقوقيون أن الحكم ذو الوجهة المحافظ في تركيا، يريد سلب ما حققته المرأة من نجاحات، وأن اتفاقية إسطنبول كانت تقف حائلاً أمام نظام أردوغان وتحد من ممارسة انتهاكات ضد المرأة. 

وأياً كانت الأسباب، فانسحاب أنقرة من هذه الاتفاقية يزيد من مخاوف المرأة التركية، خاصة وأنه قد يمنح الرجال حق ممارسة العنف ضد المرأة، بالإضافة إلى السماح بتهرب المرتكبين للعنف، وتخفيف العقوبات على الرجال. وهذا من شأنه أن يزيد من جرائم العنف والقتل ضد النساء في تركيا، ناهيك عن عدم تطبيق القوانين التي تنص على حماية المرأة وحقوقها.

3- استمالة المحافظين سياسياً: يحمل الانسحاب التركي من اتفاقية إسطنبول دلالات أخرى أبعد من ملف المرأة، وترجع لاعتبارات سياسية، أهمها محاولة الرئيس أردوغان استعادة شعبيته التي تراجعت في السنوات الأخيرة بسبب سياسات حزب العدالة والتنمية الحاكم، والأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد؛ وذلك من خلال توظيف البعد الديني، ومن ثم استمالة الطبقة المحافظة في تركيا والتي قد يكون لها مواقف مختلفة حول حدود حقوق المرآة.

وينسحب ذلك على المستوى الحزبي أيضاً، حيث تتراجع جماهيرية حزب التنمية والعدالة على مستوى الشارع التركي، وذلك قبل نحو عامين من انتخابات الرئاسة المقبلة في عام 2023. وتأتي خطوة الانسحاب من الاتفاقية كمحاولة لتعزيز صورة الحزب الحاكم حالياً باعتباره حزباً ما زال متمسكاً بالقيم المحافظة التركية، وأن أجندة الحزب تجاه الاتحاد الأوروبي لم تدفعه إلى التخلي عن مبادئه. 

4- الابتعاد عن الاتحاد الأوروبي: أثار الانسحاب التركي من هذه الاتفاقية غضب المدافعين عن حقوق المرأة، واعتبروه مخالفة من قِبل أنقرة لقيم الاتحاد الأوروبي التي ترغب في الانضمام إليه. وبالتالي فإن انسحاب تركيا من الاتفاقية هو تقويض لحقوق المرأة ويشجع ضمنياً على التمادي في ممارسة العنف ضدها، ولا يردع المرتكبين لهذه الجرائم، وهو ما سيزيد من مشكلات أنقرة مع الاتحاد الأوروبي، خاصة أن الأولى كانت قد وافقت على الانضمام لهذه الاتفاقية في وقت سابق على أمل أن يؤدي ذلك إلى تقربها من الاتحاد الأوروبي، ولكنها فشلت في ذلك.

انتقادات دولية:

بعد أن اعتبر أردوغان وحزبه الحاكم أن اتفاقية إسطنبول تقوض الهياكل الأسرية التي تحمي المجتمع التركي، وأنها تروج لما يتناقض مع قيم الأسرة التقليدية؛ فقد أثار قرار انسحابه من الاتفاقية الكثير من الانتقادات الدولية سواء من جانب الدول أو المؤسسات الدولية. إذ حذرت منظمة العفو الدولية من أن العنف ضد المرأة يسير بشكل تصاعدي في تركيا، بالإضافة إلى الانتقادات التي وجهها الاتحاد الأوروبي وألمانيا وفرنسا والمفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة. 

وسبق أن أعرب الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في مارس الماضي، عن استيائه لانسحاب تركيا من اتفاقية إسطنبول، قائلاً: "على الدول أن تعمل على تعزيز وتجديد التزاماتها بإنهاء العنف ضد المرأة، وليس رفض المعاهدات الدولية الهادفة لحماية النساء ومحاسبة المنتهكين"، معتبراً أن "هذه خطوة محبطة إلى الوراء". ومن جانبه، قال المتحدث باسم الأمين العام لمجلس أوروبا، دانيال هولتغين: "قمنا دوماً بالتأكيد على أن هذا الاتفاق له مهمة واحدة فقط وهي الحد من العنف ضد المرأة والعنف الأسري، الاتفاق ليس له أجندة أخرى".