"البحث عن أصدقاء":

دوافع تغير السياسة الخارجية التركية نحو التهدئة

25 March 2021


شهدت السياسة الخارجية لتركيا تغيرات منذ وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في عام 2002، ففي البداية تبنت تركيا سياسة "صفر المشاكل" مع دول الجوار وحل مشكلات المنطقة بالآليات الدبلوماسية، وهو ما أدى لتحسن علاقات تركيا مع دول المنطقة. غير أنه بعد اندلاع الانتفاضات العربية في أواخر عام 2010 وسقوط عدد من الأنظمة العربية الرئيسية وما خلفه من فراغ في القيادة الإقليمية، وجدت أنقرة في ذلك فرصة لتعزيز نفوذها وهيمنتها في المنطقة، فتخلت عن سياسة "صفر المشاكل" وانخرطت عسكريًا في صراعات المنطقة بدعم طرف على حساب آخر، وقدمت الدعم لتنظيم الإخوان المسلمين لتمكينه من الوصول للحكم في عدد من الدول العربية. 

وأدت هذه السياسات إلى توتر علاقات تركيا مع العديد من دول المنطقة وصلت لحد القطيعة الدبلوماسية في بعض الحالات، كما حدث مع مصر وسوريا، كما توترت علاقاتها مع دول كانت تعد حليفًا تقليديًا لها، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وهو ما جعل تركيا "وحيدة" في المنطقة وبات لديها "صفر أصدقاء". وخرج المسؤولون الأتراك للدفاع عن سياسات بلادهم بإطلاق مصطلح "الوحدة الثمينة"، الذي عرفه متحدث الرئاسة التركية وكبير مستشاري الرئيس التركي "إبراهيم قالين"، بأن "سياسة تركيا الخارجية تستند لمجموعة من القيم والمبادئ التي تحقق مصالحها الوطنية، وأنه في بعض الأحيان قد تضطر للوقوف بمفردك للدفاع عن القيم التي تجدها صحيحة، ولا يمكن أن تتخلى عن مبادئك وقيمك لأن حلفاءك والدول الأخرى لا تقف إلى جانبك"، مضيفًا: "إذا وصف هذا الموقف بأنه وحدة، فسيكون ذلك وحدة ثمينة".

غير أنه منذ أواخر عام 2020، شهدت السياسة الخارجية لتركيا تغيرًا باتجاه التهدئة والسعي لإصلاح العلاقات مع العديد من الدول، حيث أطلق المسؤولون الأتراك عددًا من التصريحات الإيجابية التي تشير لرغبتهم في تحسين العلاقات مع دول المنطقة والقوى الأوروبية والولايات المتحدة، وحل المشكلات معهم. لعل من أبرزها دعوة الرئيس التركي "أردوغان"، في نوفمبر 2020، إلى "فتح القنوات الدبلوماسية والمصالحة على مصراعيها مع كافة دول المنطقة، لحل نزاعاتنا بسرعة". وقال: "ليس لدينا تحيزات خفية أو معلنة، أو عداوات وحسابات غامضة ضد أي أحد، وبكل صدق ومودة، ندعو الجميع للعمل سوية من أجل بناء مرحلة جديدة في إطار الاستقرار والأمان والعدل والاحترام".

وقد أثار هذا التغير تساؤلات حول الهدف الحقيقي لأنقرة ومدى صدق نواياها، وهل هي جادة في تحسين علاقاتها الخارجية، أم أنها تسعى لتعويض بعض خسائرها جراء سياساتها الإقليمية وتخفيف الضغوط عليها واختراق المحاور التي تشكلت للتصدي لدورها السلبي في المنطقة. 

سياسات خفض التصعيد:

اتخذت تركيا عددًا من الإجراءات الهادفة لإصلاح علاقاتها مع دول المنطقة وبعض القوى الأوروبية والولايات المتحدة، والتي تتمثل في الآتي:

1- تحسين العلاقات مع السعودية والإمارات: أجرى الرئيس التركي "أردوغان"، في نوفمبر 2020، اتصالًا هاتفيًا بالعاهل السعودي الملك سلمان، اتفقا خلاله على إبقاء قنوات الحوار مفتوحة لتحسين العلاقات الثنائية وتسوية المشكلات. وفي يناير 2021، ذكرت مصادر لبنانية أن الزيارة غير المعلنة التي قام بها رئيس الحكومة المكلف "سعد الحريري" إلى تركيا، جاءت بهدف التوسط بين تركيا من جهة ودولة الإمارات والسعودية من جهة أخرى. والتقى "الحريري" خلال زيارته بالرئيس "أردوغان"، وبحث معه القضايا الإقليمية. وفي 12 مارس 2021، صرح وزير الخارجية التركي "تشاووش أوغلو"، بأنه لا يوجد لدى أنقرة أي سبب يمنع تحسين العلاقات مع السعودية، مضيفًا: "في حال أقدمت السعودية على خطوات إيجابية فسنقابلها بالمثل، والأمر ذاته ينطبق على دولة الإمارات".

2- إصلاح العلاقات مع مصر: قال متحدث الرئاسة التركية "إبراهيم قالين"، في مقابلة مع "بلومبرج" 6 مارس 2021، إنه يمكن فتح صفحة جديدة في علاقاتنا مع مصر. ثم أعلن وزير الخارجية التركي، في 12 مارس 2021، أن "تركيا تجري اتصالات مع مصر على مستوى المخابرات ووزارة الخارجية، مؤكدًا "بدء الاتصالات على المستوى الدبلوماسي". وفي أعقاب ذلك، أقدمت أنقرة على خطوة مبدئية باتجاه تخفيف حدة التوتر مع القاهرة، حيث طلبت السلطات التركية، في 19 مارس، من القنوات المصرية التابعة لتنظيم الإخوان المسلمين، التي تبث من إسطنبول، تعديل خطابها بما يتسق مع مواثيق الشرف الإعلامية وتقليل التجاوزات. ومن المعروف أن هذه القنوات توجه إساءات بالغة للدولة المصرية، وتسعى لإثارة الرأي العام الداخلي في مصر ضد القيادة السياسية. 

3- تخفيف التوتر مع القوى الأوروبية: فبعد فترة من الشد والجذب في العلاقات التركية-الأوروبية بسبب الخلافات في شرق المتوسط وليبيا والنزاع في إقليم كاراباخ الأذربيجاني، أبدى الرئيس "أردوغان"، في يناير 2021، خلال لقاء متلفز مع سفراء الاتحاد الأوروبي في أنقرة، استعداد بلاده لتحسين علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، مؤكدًا أن أنقرة تريد إنقاذ علاقاتها مع فرنسا من التوترات. وعقد "أردوغان" عدة مباحثات مع قادة الاتحاد الأوروبي لتسوية الخلافات كان آخرها في 19 مارس 2021، حينما بحث "أردوغان" مع رئيسة المفوضية الأوروبية ورئيس المجلس الأوروبي عددًا من القضايا الإقليمية محل الخلاف، على رأسها شرق المتوسط وتسوية النزاع في قبرص والتطورات في ليبيا.

كما استأنفت تركيا المحادثات الاستكشافية مع اليونان لبحث الخلافات في بحر إيجه وشرق المتوسط، حيث تم عقد الجولة الـ61 من المحادثات، في يناير 2021، بعد توقفها في مارس 2016. وأعلن وزير الخارجية التركي، في 17 مارس 2021، أنه سيستقبل نظيره اليوناني، في تركيا في 14 أبريل المقبل. وبعد فترة من التصعيد المتبادل بين تركيا وفرنسا وصلت لحد توجيه "أردوغان" إساءات لنظيره الفرنسي "ماكرون"، عقد الرئيسان مباحثات عبر الاتصال المرئي، في 2 مارس 2021، تناولت العلاقات الثنائية وقضايا إقليمية. وأعرب "أردوغان" عن سعادته للتباحث مع "ماكرون" مجددًا بعد انقطاع لفترة طويلة، وأكد على أنه "يمكن لبلاده وفرنسا بصفتهما حليفين قويين في الناتو، تقديم مساهمات مهمة لجهود الأمن والاستقرار في المنطقة".

4- السعي لمعالجة ملفات الخلاف مع واشنطن: والتي يأتي على رأسها الدعم الأمريكي للمقاتلين الأكراد في شمال سوريا وشراء أنقرة منظومة الدفاع "إس-400" من روسيا. فقد قال الرئيس "أردوغان"، في فبراير 2021، إن تركيا تعتقد أن مصالحها المشتركة مع الولايات المتحدة أكثر من الاختلاف في وجهات النظر، مؤكدًا: "نرغب في تعزيز التعاون أكثر مع الإدارة الأمريكية الجديدة على أساس رابح-رابح وبمنظور طويل الأمد". واقترح وزير الدفاع التركي "خلوصي أكار"، لحل مسألة "إس-400" التفاوض مع واشنطن بشأن نموذج مشابه لذلك المعمول به بالنسبة لصواريخ "إس-300" الموجودة في جزيرة كريت في اليونان، قائلًا إن أنقرة ليست مضطرة لاستخدام نظام "إس-400" طوال الوقت، وهو ما يعني عدم استخدام هذه الصواريخ من الناحية العملية.

محدِّدات التهدئة:

يرجع اتجاه تركيا نحو خفض التصعيد في سياساتها الخارجية إلى مجموعة من العوامل، من أبرزها:

1- معاناة الاقتصاد التركي: تشهد الأوضاع الاقتصادية في تركيا تدهورًا في السنوات الأخيرة فاقمته جائحة كورونا، حيث يواصل معدل التضخم ارتفاعه مسجلًا 15.6% في فبراير 2021، كما تواصل الليرة التركية تراجعها أمام الدولار مسجلة 7.8 مقابل الدولار في 22 مارس 2021، فيما سجل الناتج المحلي الإجمالي نموًا ضعيفًا في 2020 بنسبة 1.8%، وبلغ معدل البطالة 13.2%، بحسب معهد الإحصاء التركي.

وفاقم تدهور علاقات أنقرة مع دول المنطقة من معاناة الاقتصاد التركي، حيث تراجع حجم التبادل التجاري بين تركيا ودول المنطقة في 2020 إلى 51.6 مليار دولار مقارنة بـ63.8 مليار دولار في 2012، بحسب معهد الإحصاء التركي. وتم تدشين "الحملة الشعبية لمقاطعة تركيا" في السعودية، في سبتمبر 2020، ردًا على عداء أنقرة للمملكة، وقد أدى ذلك لانخفاض قياسي في الواردات السعودية من تركيا في ديسمبر 2020، حيث بلغت 50.6 مليون ريال سعودي مقارنة بـ1.06 مليار ريال في ديسمبر 2019، بحسب الهيئة العامة للإحصاء السعودية.

وقد أدى تدهور الاقتصاد التركي إلى تراجع قدرة أنقرة على تمويل انخراطها في صراعات المنطقة في سوريا وليبيا وجنوب القوقاز (إقليم كاراباخ)، فضلًا عن تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية في الداخل وتنامي الأصوات المعارضة لسياسة الحكومة الخارجية التي كلفت البلاد كثيرًا، خاصة وأن العديد من رجال الأعمال الأتراك حمّلوا الحكومة التركية مسؤولية عدم قدرتهم على تصدير منتجاتهم للسوق السعودية.

2- تبلور محاور لمواجهة سياسات أنقرة: ففي منطقة شرق المتوسط تم تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط من 6 دول هي (مصر، فلسطين، الأردن، قبرص، إسرائيل اليونان) مستبعدة تركيا. وفي 9 مارس 2021، تم الموافقة على انضمام فرنسا للمنتدى بصفة عضو، والولايات المتحدة بصفة مراقب. كما فرض الاتحاد الأوروبي حزمة من العقوبات على تركيا لمواصلتها أنشطة التنقيب غير المشروعة عن النفط والغاز في شرق المتوسط، كان آخرها في ديسمبر 2020.

وبالإضافة لما سبق، تنسق كل من فرنسا واليونان ودولة الإمارات ومصر والسعودية فيما بينها لمواجهة السياسات العدائية لأنقرة في المنطقة. ففي ليبيا، على سبيل المثال، تدعم فرنسا والإمارات ومصر الجيش الوطني الليبي لمكافحة الإرهاب ومواجهة المليشيات المتطرفة المدعومة من تركيا في الغرب الليبي، وترفض التدخل العسكري التركي هناك وإرسالها المرتزقة لقتال الجيش الليبي. وتقدم فرنسا دعمًا عسكريًا لليونان في مواجهة التصعيد التركي، ووقعت الدولتان في يناير 2021، عقدًا بقيمة 2.5 مليار يورو لشراء 18 طائرة مقاتلة من طراز "رافال" من فرنسا وصواريخ عابرة وأخرى مضادة للسفن. وفي 17 مارس 2021، انطلقت مناورات "عين الصقر" بين القوات الجوية السعودية ونظيرتها اليونانية، في سماء البحر الأبيض المتوسط، من قاعدة "سودا" اليونانية. وأعربت تركيا عن استيائها من هذه المناورات، وقال وزير دفاعها: "عليهم أن يعلموا أنهم لا يمكنهم تحقيق شيء بهذا ولا قيمة عسكرية لهذا أمام تركيا وقواتها المسلحة".

3- اتجاه واشنطن لتحجيم تمدد أنقرة: بدأت الولايات المتحدة منذ أواخر ولاية الرئيس السابق "ترامب" في تبني مجموعة من السياسات الهادفة لتحجيم سياسات تركيا في المنطقة. ففي سبتمبر 2020، أجرى وزير الخارجية الأمريكي السابق "بومبيو" زيارة للقاعدة البحرية لحلف الناتو في خليج "سودا" بجزيرة "كريت" اليونانية، وبحث مع رئيس الوزراء اليوناني تعزيز التعاون العسكري في إطار اتفاق التعاون الدفاعي الذي يتيح للقوات الأمريكية استخدام منشآت عسكرية يونانية. وقالت مصادر إن "بومبيو" بحث نقل واشنطن وسائلها الحربية من قاعدة "إنجرليك" التركية إلى جزيرة كريت اليونانية، لمعاقبة "أردوغان" على تصرفاته. وفي ديسمبر 2020، فرضت واشنطن عقوبات على مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية ورئيسها لحيازة أنقرة منظومة "إس-400" الروسية، ورفضها التخلي عنها.

ويبدو أن إدارة الرئيس الأمريكي الجديد "جو بايدن ستكون أكثر تشددًا إزاء سياسات تركيا في المنطقة، فقد دعا "بايدن" في أكتوبر 2020، خلال حملته الانتخابية للرئاسة الأمريكية، إلى تعزيز الضغوط على تركيا بسبب تصعيدها التوتر في شرق المتوسط، ويرفض "بايدن" سياسة أنقرة ضد الأكراد في شمال شرق سوريا، فضلًا عن انتقاده سابقًا لنظام حكم "أردوغان" ووصفه بـ"الاستبدادي".

4- تعثر المشروع التركي في المنطقة: ففي أعقاب اندلاع الانتفاضات العربية عام 2011 قدمت أنقرة دعمًا سياسيًا وإعلاميًا وماليًا لجماعة الإخوان المسلمين لتمكينها من الوصول إلى الحكم في الدول العربية بهدف إيجاد أنظمة حليفة لها في المنطقة، وذلك في إطار مشروعها "استعادة الخلافة العثمانية". غير أن سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر في يوليو 2013 وفشل أنقرة في توظيف قيادات الإخوان على أراضيها لتغيير نظام الحكم هناك، ثم سقوط نظام حكم البشير في السودان في أبريل 2019، وعجز "حركة النهضة" في تونس عن الانفراد بالحكم في ظل المقاومة الشديدة من الأحزاب المدنية؛ شكل ضربة كبيرة للمشروع التركي في المنطقة.

مستقبل التهدئة:

يتضح مما سبق أن تغير السياسة الخارجية لتركيا باتجاه خفض التصعيد يرتبط بمجموعة من العوامل التي يأتي على رأسها تدهور الاقتصاد التركي، وتبلور اتجاهات إقليمية ودولية لتحجيم الدور السلبي لأنقرة في الإقليم، فضلًا عن تعثر مشروعها الإقليمي، ومن ثم فإن مضيّ تركيا قدمًا في التهدئة يرتبط باستمرار الضغوط الإقليمية والدولية عليها، بما يجعل صانع القرار التركي يدرك أن استمرار أنقرة في سياساتها العدائية ستكون تكلفته عالية.

غير أنه طالما كان الهدف الرئيسي لحزب العدالة والتنمية منذ وصوله للحكم في عام 2002 هو بسط الهيمنة وتعزيز النفوذ في المناطق التي كانت تابعة تاريخيًا لـ"الدولة العثمانية"، سواء كان ذلك عبر أدوات القوة الناعمة في فترة ما قبل الانتفاضات العربية، أو عبر توظيف عناصر القوة الصلبة ما بعد اندلاعها. ومن ثم يشكك البعض في نوايا تركيا من تغيير سياساتها الخارجية، فمن المحتمل وفقاً لبعض الباحثين أن يكون ذلك مجرد تغيير في الأدوات التي تستخدمها أنقرة لتحقيق أهدافها في المنطقة بما يتناسب مع الظروف والمستجدات التي تشهدها.