الصراع المميت:

أزمات التطرف الديني بعد الثورات العربية

05 March 2015


إعداد: باسم راشد

ماتزال الثورات العربية وما تبعها من تداعيات محل دراسة ونقاش من جانب العديد من الباحثين والمحللين، مع اختلاف المداخل والمنظورات، ففي الوقت الذي يراها البعض خلقت حالة من الحرية لشعوب الشرق الأوسط التي عانت على مدار عقود من الاستبداد السياسي والاجتماعي، يرى آخرون أنها أتاحت الفرصة لظهور الجماعات الدينية المتطرفة في الإقليم، والتي استفادت من هذا الوضع وخلقت لنفسها مكاناً داخل بلدان هذا الإقليم المتفجر.

في هذا السياق، أصدر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) كتاباً حمل عنوان (التطرف الديني بعد ثورات الربيع العربي)، والذي ساهم فيه عدد من الكُتَّاب، وحرَّره نائب رئيس المركز ومدير برنامج الشرق الأوسط "جون ألترمان" Jon B. Alterman.

ويقع الكتاب في خمسة فصول رئيسية، يناقش من خلالها الباحثون تحديات هذا التطرف الديني الذي انتشر بعد الثورات ومؤشراته، من أجل إيجاد أفضل السُبل التي يجب على الحكومات اتباعها لمواجهته.

الثورات العربية وتغير المشهد الجيوسياسي

في بداية الكتاب، يحاول "ألترمان" رسم طبيعة المشهد السياسي في دول الإقليم التي شهدت ثورات، وإلى أي مدى ساهمت تداعيات وإفرازات الحالة الثورية في إفساح المجال بشكل كبير لظهور التيارات الدينية المتطرفة التي امتدت على طول الإقليم، مما أنتج تغيرات جيوسياسية يجب فهمها وأخذها بعين الاعتبار من جانب الحكومات من أجل إمكانية التعامل معها بشكل فعال.

وعلى سبيل المثال، مثَّل غياب قوات الأمن في العديد من الدول، إلى جانب تنامي العنف ضد الدولة نفسها في كل من سوريا وليبيا والعراق، عاملاً مساعداً في خلق فرص جديدة لظهور المتطرفين والجهاديين؛ فبصرف النظر عن أصولهم وخلفياتهم، فإنهم وجدوا بيئات وظروف وأسباب كافية للتجمع والقتال على الأرض.

ويشير "ألترمان" إلى أن عام 2014 قد شهد غياب سيطرة المتطرفين سياسياً على دول الإقليم من ناحية، كما أن معظم الحكومات استعادت سيطرتها القديمة على مفاصل الدول من ناحية أخرى؛ وهو ما سيدفع إلى استمرار تمدد الإرهاب، وتعدد آلياته الدينامية والابتكارية، بما يجعل الحكومات في حاجة إلى تطوير أساليبها في التعامل معه.

الجهادية السلفية وأزمة السلطة

في هذا الفصل من الكتاب، يؤكد "هايم مالكا" Haim malka، وهو كبير الباحثين في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، على أن الجماعات السلفية الجهادية تواجه أزمة سلطة ناتجة عن تمرد تنظيم "داعش" على قيادات "القاعدة"؛ فكما مثَّل قرار أسامة بن لادن بالهجوم على الولايات المتحدة تغيراً درامياً في أهداف الجماعات السلفية الجهادية منذ أكثر من عقد مضى، فكذلك كان تجاهل "داعش" لقيادات "القاعدة"، ورفضهم لاستراتيجية الأخيرة، بالإضافة إلى إعلانهم الخلافة، بمثابة إعادة تشكيل للمشهد الجهادي السلفي حالياً.

ويرى "مالكا" أنه ليس من المرجح أن يُحَل الانقسام الحاد الذي شهدته التنظيمات الجهادية السلفية بطريقة نهائية، ولكن بدلاً عن ذلك، فإن الضغوط التي تواجه التابعين لتنظيم "القاعدة" وغيرهم من الجماعات الجهادية وضرورة اختيار أحد الجانبين (إما "القاعدة" أو "داعش") تساهم في زيادة حدة الاستقطاب، والذي سيكون هو السمة المميزة لتلك الجماعات حتى الجيل القادم.

تونس.. التطرف يهدد التجربة السياسية

يستمر "مالكا" في تحليل تحدي الإرهاب الديني الذي يواجه عملية التحول السياسي في تونس؛ إذ يشير إلى أن الجماعات الجهادية السلفية ظهرت بقوة بعد سقوط حكم زين العابدين بن على في يناير 2011. ومع نهاية عام 2012 برزت جبهتان من الجماعات الجهادية؛ الأولى تبَّنت أولوية النشاط الاجتماعي والتوعية الدينية لجذب الجمهور، أما الثانية فتبَّنت الفكر "القاعدي" القائم على حتمية المواجهة المباشرة مع قوات الأمن والدولة.

وقد ساعدت الجهود التي قامت بها الحكومة التونسية في مواجهة العنف والتطرف على الجبهتين، في الحفاظ على الاستقرار داخل الدولة في وقتِ تزايدت فيها الشكوك السياسية والاضطرابات داخل الإقليم.

غير أن التطرف، كما يؤكد الكاتب، سيستمر بقوة خلال الفترة القادمة ليحاول وأد التجربة التونسية، وإذا لم تجد الحكومة التونسية طريقة لإصلاح الجهاز الأمني، والعمل على دمج المقاتلين العائدين من سوريا، وتدعيم المشاركة السياسية السلمية، وإعادة بناء الثقة والمصداقية في مؤسسات الدولة الدينية، فإنها ستواجه تحديات جسيمة في المستقبل القريب.

مصر.. إشكالية البحث عن الاستقرار

في هذا الفصل، يُحلل كل من "ألترمان" وويليام مكانتس William McCants مدير مشروع العلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي في مؤسسة بروكنجز، تطور التطرف والإرهاب في مصر قبل وبعد إسقاط الرئيس الأسبق حسني مبارك، مؤكدَين أن مصر عانت من الإرهاب على مدار تاريخها، وقد ظنَّ البعض أنه بسقوط نظام مبارك، ستصل هذه الأزمة إلى نهايتها؛ إلا إنها بالفعل قد بدأت، وبصفة خاصة بعد إسقاط نظام الإخوان المسلمين.

وتواجه مصر في الوقت الحالي وجهين مختلفين من التطرف، أو كما يصفها البعض وجهين لنفس العملة؛ يتمثل الوجه الأول في جماعة الإخوان المسلمين التي لها جذور عميقة في أوصال المجتمع المصري، أما الوجه الثاني فيتمثل في التهديد الناجم عن الجماعات المسلحة العنيفة المنتشرة في العديد من النواحي، مثل جماعة "أنصار بيت المقدس" في سيناء، والتي لم تعد تحركاتها ضد الحكومة فحسب، بل أصبح لها أهداف داخل وادي النيل أيضاً.

وفي الوقت الحالي الذي يُسمَح فيه للنشطاء السياسيين المنتمين للجماعات السلفية السلمية مثل حزب النور بالتواجد في المشهد السياسي العام في مصر طالما أنهم لا يهددون الدولة، فإنه في المقابل تظهر تهديدات من جانب بعض الجماعات الجهادية العنيفة التي يتعامل معها النظام بشكل مباشر. ولذا فإنه يقع على عاتق الجماعات السلفية في مصر مسؤولية فرز وتنقيح الجذور الدينية والسياسية للعنف، ومحاولة فهم أي من تلك الجذور يمكن التعامل معها عن طريق وسائل الإقناع السلمية بدلاً من وسائل الإكراه الغاشمة، وهو الأمر الذي يؤكد الكاتبان أنه سيحتاج إلى مزيد من الوقت.

السعودية.. صعود وسقوط الإسلاميين

يشير الكاتبان "ألترمان" و"مكانتس" إلى أن الثورات العربية أفرزت تحديين أساسيين للمملكة العربية السعودية. ينبع التحدي الأول من النجاحات التي حققتها جماعة الإخوان المسلمين على طول الإقليم، والذي قد يدفع الإسلاميين السياسيين داخل المملكة إلى المطالبة بتغييرات مماثلة. ويتمثل التحدي الثاني في تزايد الجماعات المسلحة العاملة في سوريا ضد نظام "الأسد"، ومؤخراً في العراق.

وقد تعاملت السعودية مع هذين التحديين باعتبارهما تهديدات أمنية؛ فقامت من ناحية بحظر جماعة الإخوان المسلمين، ومن ناحية أخرى أسكتت الإسلاميين المنتقدين للمواقف السياسية التي اتخذتها المملكة، هذا إلى جانب سعي المملكة لوقف الدعم المادي والأيديولوجي للعناصر الأكثر تطرفاً في سوريا والعراق.

سبل مواجهة الإرهاب

يشير الكتاب إلى أن الإرهاب يثقل كاهل أي دولة، ويضر بكافة مناحي الحياة الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، خاصةً في ظل تزايد خطر التطرف وتناميه في دول الشرق الأوسط بعد ثورات الربيع العربي، مما جعله قضية عالمية تهدد الجميع دون استثناء.

في هذا الإطار يمكن الإشارة إلى بعض الخطوات التي يمكن اتخاذها لمواجهة تحديات وأخطار الإرهاب، ومنها:

1 ـ ضرورة تبني جهود جماعية بالتنسيق بين الدول لوقف ظاهرة تدفق المقاتلين الأجانب لتنظيم "داعش"، وهي ما يجب اعتباره أولوية أولى تسبق جميع الخطوات الأخرى، خاصةً في ظل المعرفة العميقة للقادة الأمريكيين العسكريين عن الإرهاب في المنطقة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001.

2 ـ العمل على استغلال نقاط الضعف الموجودة داخل تنظيم "داعش"، خاصة أنه أضحى يسيطر على أجزاء رئيسية وكبيرة في سوريا والعراق، وهو ما سينتج بالضرورة نقاط ضعف يمكن العمل عليها.

3 ـ ضرورة أن تعمل حكومات الدول على استخدام أدواتها المختلفة بإتقان، بل يجب عليها تحديد الأدوات التي لم تعد لها قيمة، وكذلك الأدوات الجديدة التي يمكن استخدامها لتحقيق أهدافها بكفاءة.

خُلاصة القول، يبدو أن ثورات الربيع العربي بقدر ما تمكنت من إسقاط أنظمة سلطوية، بقدر ما أنها أتاحت الفرصة لظهور الجماعات المتطرفة، والتي يوَّحِد رؤيتها قبول فكرة الصراع المميت الذي يمتد للمستقبل، عن طريق خوض معارك بقوات غير نظامية مع جيوش نظامية، بما ينهك قوة الأخيرة ويضعف سيطرتها على إقليمها. لذا فإن التحديات أصبحت أكثر تعقيداً وعمقاً، وما كان يظنه البعض، بعد الثورات، من انتهاء لهذا التطرف، فإنه قد ثبت أنه كان فقط مجرد بداية.

المصدر:

Jon B. Alterman (Editor), Religious Radicalism after the Arab Uprisings (Washington, Center for Strategic and International Studies, February 2015) PP 204.