ما قبل الانهيار:

هل يؤدى تدهور الليرة اللبنانية إلى تشكيل الحكومة؟

08 March 2021


تجاوز سعر صرف الدولار الواحد في لبنان عتبة 10 آلاف ليرة في 2 مارس 2021، مسجلًا أدنى مستوى لقيمة العملة اللبنانية، مما أثار موجة غضب شعبية عارمة أدت إلى عودة حركة الاحتجاجات إلى الشارع، وإلى قطع معظم الطرق الرئيسية في العاصمة بيروت وفي المدن الكبرى كطرابلس وجونية وصيدا وصور والنبطية ولعدة أيام متواصلة، في مشهد أتى ليفاقم من حالة الشلل العام التي يعاني منها لبنان سياسيًا واقتصاديًا، حيث يستمر تعثر عملية تشكيل حكومة جديدة للشهر السادس على التوالي، وتدهور الحد الأدنى الشهري للأجور (من 450 دولارًا في أكتوبر 2019 إلى 68 دولارًا في مارس 2021)، وتزايد مستوى البطالة الذي لامس حسب معطيات وزارة العمل 32% في نهاية عام 2020، مع ارتفاع غير مسبوق في أسعار السلع الأساسية، حيث بلغ معدل التضخم السنوي لعام 2020 نسبة 85% حسب إدارة الإحصاء المركزي الحكومية.

تدهور العملة:

أطاحت رمزية هذا الانخفاض الجديد في قيمة الليرة بقدرة المواطنين على التحمل، وأدت إلى كسر "الحاجز النفسي" الذي كان يدفعهم لملازمة منازلهم تخوفًا من تفشي أزمة كورونا التي كانت أحد أسباب انكفاء موجات التظاهرات السابقة، وانتشرت على الفور دعوات النزول إلى الشارع على شبكات التواصل الاجتماعي لإظهار الاستياء من الطبقة الحاكمة ولإعادة إطلاق "ثورة ١٧ تشرين" من جديد. ويعود تسجيل هذا المستوى من الانخفاض في قيمة العملة الوطنية إلى الأسباب التالية:

1- نهاية مهلة زيادة رأسمال المصارف: حيث تم الربط بين ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازية وبين نهاية المهلة التي حددها مصرف لبنان المركزي والموافقة لبداية شهر مارس ٢٠٢١، وفقًا للتعميم رقم ١٥٤ الصادر عنه، من أجل إلزام المصارف اللبنانية بزيادة رأسمالها بنسبة ٢٠%، في إجراء وصفته مجلة "الإيكونوميست" البريطانية بأنه إعادة لإنتاج هرم بونزي Ponzi scheme من جديد (أي توزيع ريوع غير ناتجة عن أرباح حقيقية، وإنما عن أموال مدخرين آخرين، في إشارة ضمنية إلى العودة إلى نفس طريقة العمل التي أدت إلى الانهيار السابق)، بالإضافة إلى الطلب من المصارف ذاتها تكوين سيولة لديها بالدولار بنسبة ٣% من قيمة ودائعها لا يتم المساس بها، ويتم وضعها ضمن حساب خارجي، مما أدى إلى زيادة الطلب على الدولار في السوق السوداء لتأمين حاجات بعض المصارف.

2- عودة النشاط التجاري: كانت خطة حكومة تصريف الأعمال تقضي برفع الإغلاق الشامل في الأول من مارس ٢٠٢١، حيث كان سيتم السماح لجميع المتاجر التي تبيع بالمفرق بمعاودة نشاطها التجاري من جديد، وبالتالي فقد ساهم هذا العامل أيضًا في زيادة الطلب على الدولار في السوق الموازية لتأمين مبالغ الاستيراد من الخارج لسد احتياجات سوق البيع بالمفرق، حيث إن السوق اللبنانية تستورد ٨٠% من حاجاتها من السلع، وتقدر قيمة الاستيراد السنوي غير المدعوم من قبل مصرف لبنان بـ٥ مليارات دولار يتم تأمينها من السوق السوداء.

3- الاتجار بالشيكات المصرفية: راجت عمليات الاتجار بالشيكات، حيث تم استغلال حاجة بعض المودعين لسيولة أكبر من تلك التي تسمح المصارف بسحبها شهريًا تطبيقًا لما يُعرف بالـcapital control من قبل بعض الشبكات المنظمة والتي كانت تقوم بشراء هذه الشيكات على أساس 3 آلاف ليرة لبنانية للدولار الواحد (أي تقريبًا بثلث قيمتها)، ثم تعود وتبيعها على أساس 3900 ليرة للدولار وتستخدم الأرباح المحققة لشراء الدولارات مجددًا من السوق السوداء.

3- طبع المزيد من العملة: سجل ارتفاع حجم الكتلة النقدية المتداولة بين نهاية ٢٠١٩ ونهاية ٢٠٢٠ بمعدل تريليوني ليرة لبنانية شهريًا، وهذه الزيادة ناتجة عن عملية طبع العملة التي يقوم بها مصرف لبنان بالاتفاق مع وزارة المال لتغطية العجز، علمًا بأن هذه الزيادة تزامنت مع انكماش الاقتصاد اللبناني بنسبة حوالي (- ٢٠%) خلال عام ٢٠٢٠، وهذا الفرق بين زيادة السيولة المتداولة وانكماش الاقتصاد أدى أيضًا إلى ضرب سعر صرف العملة الوطنية.

 التداعيات والسيناريوهات المحتملة:

يمكن حصر أهم التداعيات الناتجة عن استمرار عملية تآكل قيمة الليرة في المسارات التالية:

1- احتمالية رفع الدعم: قد لا تجد حكومة تصريف الأعمال، أمام ضآلة احتياطي العملة الأجنبية المتبقي لدى مصرف لبنان والذي ما زال بالإمكان التصرف به والمقدر بـ2 مليار دولار، مفرًّا من رفع الدعم عن السلع الأساسية والمحروقات في الأشهر القليلة المقبلة، مما سيؤدي إلى زيادة إضافية على الطلب الداخلي على الدولار في السوق السوداء من قبل المستوردين الذين كانوا يستفيدون من برنامج الدعم هذا لتأمين الدولارات بأسعار تفضيلية من قبل مصرف لبنان، وبالتالي ففي حال تحقق هذا السيناريو فإن سعر صرف الدولار مرشح للارتفاع أكثر، ولا يمكن توقع السقف الذي من الممكن أن يتوقف عنده، مما قد يساهم في انهيار القدرة الشرائية لجزء إضافي كبير من اللبنانيين، حيث تظهر أرقام البنك الدولي في نهاية ٢٠٢٠ توسع الشريحة المصنفة تحت خط "الفقر المدقع" في لبنان وبلوغها نسبة 23% من السكان (في بداية الأزمة الاقتصادية كانت هذه النسبة تقدر بـ8%)، وبالتالي فإن أي توسع إضافي لهذه الشريحة سيقود نحو انهيار اجتماعي واسع النطاق.

2- تزايد الرغبة في المغادرة: حيث سُجلت توجهات مرتفعة لدى شرائح واسعة من اللبنانيين (الشباب والطلاب والأطباء) بالرغبة في مغادرة لبنان، وهذه الرغبة يمكن استقراؤها من خلال تزايد أعداد المسافرين من مطار بيروت بعد انفجار مرفأ بيروت في ٤ أغسطس ٢٠٢٠ بنسبة ٣٦% حسب أرقام الدولية للمعلومات، كما قُدرت أعداد المهاجرين من لبنان خلال عام 2020 بـ٢٠ ألفًا (٧٠% منهم تحت سن الـ٣٥) وذلك على الرغم من صعوبة الحصول على طلبات للهجرة، وإغلاق المطارات في العالم نتيجة تفشي وباء كورونا، بالإضافة إلى محاولات المغادرة بطرق غير شرعية، حيث رصدت الأمم المتحدة خروج حوالي 30 قاربًا من الشواطئ اللبنانية باتجاه قبرص بين شهري أغسطس وأكتوبر 2020. ولا شك في أن هذه الرغبة في الهجرة ستتصاعد مع تزايد التدهور الاقتصادي وانسداد الأفق أمام تنفيذ المبادرة الفرنسية.

3- احتدام تصفية الحسابات الداخلية: تزامن انخفاض قيمة العملة اللبنانية الأخير مع ظهور تقرير لوكالة "بلومبيرغ" يتنبأ بإدراج اسم حاكم مصرف لبنان "رياض سلامة" على لائحة العقوبات الأمريكية، وتبين لاحقًا أن هذا التقرير مختلق، مما دفع "رياض سلامة" إلى التقدم بدعوى قضائية ضد "بلومبيرغ" ومراسلها في لبنان، وهذه الحادثة ليست سوى مؤشر صغير على الصدام الخفي المرشح للاستمرار والتصاعد بين "رياض سلامة" وخصومه، حيث يحمّله بعض السياسيين المحسوبين على خط رئيس الجمهورية "ميشال عون" وبعض قادة الحراك المدني في ثورة "١٧ تشرين" مسؤولية الانهيار الاقتصادي بسبب "الهندسات المالية" التي قام بها مصرف لبنان منذ 2016، والتي كانت تقضي بإغراء المصارف والبنوك التجارية اللبنانية بوضع أموال مودعيها بالدولار في حسابات خاصة في مصرف لبنان وبمعدلات فائدة بلغت 7%، بالإضافة إلى إعطائها قروضًا بالليرة اللبنانية، ومن ثم كان مصرف لبنان يقوم بتغطية عجز الدولة في مختلف القطاعات (في قطاع الكهرباء وحده حوالي ملياري دولار سنويًا) عبر الودائع المتراكمة لديه بالدولار من جراء هذه الهندسات المالية.

ولاحقًا تبين تبخر جزء كبير من هذه الودائع بعد أن عجزت الدولة اللبنانية عن تسديد مستحقاتها التي أخذتها من مصرف لبنان، ويدافع "رياض سلامة" عن نفسه معتبرًا أن هذا المخطط كان إجراء قصير الأمد تم اللجوء إليه بانتظار الإصلاحات المنتظرة التي فشل السياسيون المحسوبون على العهد وغيرهم من القيام بها لمنع انهيار الاقتصاد (فعلى سبيل المثال، وزارة الطاقة هي بعهدة التيار الوطني الحر منذ عام ٢٠٠٨ وفي مختلف الحكومات المتعاقبة)، هذا وتقدر خسائر القطاع المصرفي بـ83 مليار دولار حسب أرقام حكومة "حسان دياب"، فيما يعتبر فرقاء آخرون أن هذا الرقم مبالغ فيه ولا يتجاوز في حقيقة الأمر 60 مليار دولار، ولا يزال النقاش مستمرًا حول كيفية تعويض هذه الخسائر، حيث تتفاوت الطروحات بين تحميل المصارف وكبار المودعين الجزء الأكبر منها عبر تطبيق ما يُعرف بالـHair cut، بينما يتبنى آخرون طرح تحويل أموال المودعين المتبخرة إلى أسهم في المصارف، فيما يُصر آخرون من بينهم مصرفيون كبار وأحزاب سياسية على أن الحل يمر عبر بيع أصول الدولة كقطاعي الكهرباء والاتصالات.

4- تزايد الضغوط لتشكيل الحكومة الجديدة: تؤكد عدة وجهات نظر أن هناك ضرورة لعدم حصر أسباب تدهور العملة اللبنانية فقط بالعوامل الاقتصادية البحتة. فعلى سبيل المثال، وضعت جمعية مصارف لبنان في بيان صادر لها في 3 مارس 2021 "المناكفات والتجاذبات السياسية التي تمنع تأليف الحكومة الجديدة منذ 7 أشهر" على رأس لائحة العوامل التي أدت إلى ارتفاع سعر صرف الدولار، كما أرجع تقرير صادر عن البنك الدولي في ديسمبر 2020 استفحال الأزمة الاقتصادية في لبنان إلى "غياب حركة سياسية فعالة ومسؤولة من قبل السلطات اللبنانية"، فيما يلفت آخرون النظر إلى أن التراجعات القليلة التي سجلها سعر الدولار في منحاه التصاعدي منذ بداية الأزمة كانت مرتبطة بالفترات التي حصلت فيها انفراجات في موضوع تشكيل الحكومة كتلك التي ترافقت مع إعادة تكليف "سعد الحريري" في أكتوبر 2020 برئاسة الحكومة، وتشدد جميع المبادرات الدبلوماسية لمساعدة لبنان على ضرورة الإسراع في تشكيل الحكومة الجديدة، كالتصريحات المستمرة للرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" والتمنيات الصادرة عن الرئيس المصري "عبدالفتاح السيسي" وعن الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو غوتيريش" والتي تصبّ كلها في السياق نفسه، لأن تشكيل حكومة جديدة يمثّل الوسيلة الوحيدة لإطلاق مفاوضات مع صندوق النقد الدولي وللحصول من خلاله على المساعدات المالية الدولية للبدء بعملية الإنقاذ بعد التعهد بالقيام بالإصلاحات المطلوبة والمفصلة ضمن بنود المبادرة الفرنسية التي جرى الاتفاق عليها في قصر الصنوبر بين رؤساء الكتل البرلمانية في سبتمبر 2020.

ختاماً خلال عدة عقود تم تداول الدولار في لبنان على سعر ثابت موازٍ لـ١٥٠٠ ليرة (بين ١٩٩٢ و٢٠١٩)، ولكن في السنوات الأخيرة وبما حوته من تحولات عديدة كاندلاع الأزمة السورية، وتوسع دور "حزب الله" الإقليمي، ومحاولات الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" محاصرة أذرع إيران في المنطقة، وتأخر الإصلاحات الداخلية، وتراجع الودائع في النظام المصرفي اللبناني، وعدم تحقيق نمو في الاقتصاد اللبناني منذ عام ٢٠١١؛ كل ذلك ساهم بشكل رئيسي في تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية بالنسبة للدولار، حيث فقدت أكثر من ٨٠% من قيمتها، ويبدو أن الفترة المقبلة في لبنان سوف تشهد نقاشًا حول ما هو الأفضل: إعادة تثبيت سعر الصرف على عتبة جديدة أم القطع مع هذه السياسة والذهاب نحو تحرير سعر الصرف بشكل نهائي؟.