شواغل فيينا:

توجهات السياسة النمساوية إزاء تهديدات الشرق الأوسط

16 March 2020


تتمثل التوجهات الحاكمة للسياسة الخارجية النمساوية إزاء التهديدات القادمة إليها من منطقة الشرق الأوسط، على نحو ما عكسته تصريحات وزيارات مسئوليها في سياقات زمنية مختلفة، في محاربة الإرهاب العابر للحدود الوطنية، وإنشاء منطقة سلام شمال سوريا، ورفض إرسال قوات أوروبية برية إلى ليبيا، وعدم إعادة اللاجئين إلى الأخيرة، ومكافحة الهجرة غير النظامية، والتصدي للجريمة المنظمة، وإزالة الألغام في سوريا، ودعم عودة الشركات النمساوية للعمل في بؤر الصراعات المسلحة، وتوجيه المساعدات الإنسانية للسكان المدنيين المتضررين من الحرب في اليمن.

التدخل المحسوب:

تقوم الصورة الذهنية عن النمسا كدولة أوروبية في الإقليم على تجنب التدخلات في شئون الدول، خاصة التي تشهد أزمات داخلية أو صراعات مسلحة. غير أن ما شهده الشرق الأوسط من تحولات زلزالية على مدى ما يقرب من عقد كامل، فرض على فيينا التدخل المحسوب، بما يقلص التهديدات التي تؤثر على أمنها الوطني، وهو ما تشير إليه مواقف حكومة النمسا الاتحادية على النحو التالي:

1- محاربة الإرهاب العابر للحدود الوطنية: يمثل ذلك الشاغل الرئيسي للحكومة النمساوية من تعاونها مع الحكومات في الشرق الأوسط، لأن خطر الإرهاب صار متعدياً للحدود الرخوة لاسيما في ظل تعاظم تهديدات المقاتلين الأجانب القادمين من بؤر الصراعات المسلحة. وهنا أكد المستشار النمساوي سيباستيان كورتز، في 14 يناير 2020، على رغبة النمسا في مواصلة دفع التعاون المشترك على مختلف المستويات للتصدي للتحديات التي تواجه منطقة المتوسط، مشيداً بجهود مصر في مكافحة الإرهاب.

كما أشار رئيس البرلمان النمساوي فولفجانج سوبوتكا، خلال زيارته لمصر في 2 مارس 2020، إلى أهمية وقوف المجتمع الدولي صفاً واحداً للقضاء على ظاهرتى الإرهاب والفكر المتطرف، مشيداً بالدور الفاعل لمصر في هذا الصدد كركيزة للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.   

2- إنشاء منطقة سلام شمال سوريا: تدعم السياسة النمساوية قيام الاتحاد الأوروبي بدور فاعل في التخفيف من حدة الأزمة في شمال سوريا. إذ قدم المستشار النمساوي سيباستيان كورتز، في 6 مارس الجاري، اقتراحاً بإنشاء منطقة سلام شمال سوريا كحل لأزمة طالبي اللجوء في هذا البلد، مؤكداً ضرورة أن يؤدي الاتحاد الأوروبي دوراً أكثر فعالية في الملف السوري، وشدد على أهمية أن تبحث الأمم المتحدة موضوع المنطقة المذكورة، لافتاً إلى أنه "يوجد حوالي 6 ملايين سوري نازح داخل البلاد يستحقون العيش في منطقة محمية كهذه".

3- رفض إرسال قوات أوروبية برية إلى ليبيا: تنشغل أوروبا بمجريات الصراع الليبي لاسيما بعد التوجه التركي المتمثل في إرسال مرتزقة سوريين إلى ليبيا، بالإضافة إلى توجيه السفن التركية المحملة بالأسلحة إلى طرابلس لدعم الميلشيات المسلحة المساندة لحكومة الوفاق. وهنا، تسعى دول الاتحاد الأوروبي للاتفاق على بدء مهمة محددة في البحر المتوسط، لمراقبة تطبيق حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا ويتم انتهاكه بشكل متكرر، وسط تلميحات بإمكانية إرسال قوات برية إلى ليبيا.

فقد قال وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو أن "الاتحاد الأوروبي ملتزم بمهمة جوية وبحرية، وهناك جزء منها على الأرض، لحظر دخول الأسلحة إلى ليبيا، وإذا استدعي الأمر سينشر قوات برية لحظر دخول الأسلحة إلى ليبيا"، مضيفاً: "إذا أدت المهمة إلى تدفق قوارب المهاجرين فسيتم تعليقها"، كما أكد نظيراه الألماني والنمساوي الأمر. وفي هذا السياق، فإن رفض النمسا إرسال قوات برية إلى ليبيا هدد بتعطيل الوصول إلى اتفاق أوروبي، لاستئناف عملية صوفيا البحرية لمراقبة تنفيذ الحظر الأممي على توريد الأسلحة إلى ليبيا.

فالنمسا تتخوف من تدفق المهاجرين خلال عمليات المراقبة البحرية لعملية إرسال الأسلحة إلى ليبيا، التي أضحت أكبر مخزون للأسلحة، وفقاً للتقارير الصادرة عن الأمم المتحدة، وهو ما تشاركها إيطاليا هذا الهاجس. وهنا تجدر الإشارة إلى تمديد عملية صوفيا البحرية إلى 31 مارس 2020، لكنها لم تعد نشطة بعد سحب الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي سفنها. وجاء ذلك بسبب رفض إيطاليا السماح بإنزال المهاجرين الذين يتم إنقاذهم على أراضيها نظراً لعدم وجود اتفاق بين دول الاتحاد الأوروبي حول التكفل بهم. ومن هذا المنطلق، قال وزير الخارجية النمساوي ألكسندر شالينبرج: "إن النمسا تخلت عن رفضها لأن المهمة الجديدة عسكرية تماماً وليست إنسانية".

4- عدم إعادة اللاجئين إلى ليبيا: قال رئيس النمسا ألكسندر فان دير بيلين خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء سيباستيان كورتز ورئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية فايز السراج، في 26 يناير 2019: "إن التقارير الصادرة عن المفوضية العليا لشئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة والعديد من الهيئات الدولية الأخرى تشير إلى أن الأوضاع في مخيمات اللاجئين في ليبيا تجعل من الواجب عدم إعادة اللاجئين إليها، نتيجة عدم وصول الأمن والاستقرار إلى المستوى المطلوب"، مضيفاً: "إن النمسا والاتحاد الأوروبي يوليان اهتماماً كبيراً بإرساء الأمن والاستقرار في ليبيا، وإعادة الهيئات الديمقراطية إلى العمل".

غير أن ذلك يثير التساؤل بشأن ضبابية الموقف النمساوي للتعامل مع مشكلة اللاجئين، إذ سبق أن انطلقت رؤية الحكومة النمساوية من التعاون مع ليبيا للحد من تدفق اللاجئين لأوروبا، حيث قال وزير الخارجية السابق سيباستيان كورتز (المستشار النمساوي فيما بعد): "إن هناك حاجة ماسة إلى التعاون مع ليبيا للحد من تدفق اللاجئين على أوروبا"، وذلك بحسب تصريحات نقلتها هيئة الإذاعة والتلفزيون النمساوية في 8 فبراير 2017، مضيفاً: "إتباع سياسة تختلف عن تلك المطبقة حالياً يمكن أن يوقف أو يحد من وصول اللاجئين إلى أوروبا".

وذكر: "يجب اعتماد قاعدة في التعامل مع اللاجئين تقضي بأن من يتوجه إلى أوروبا بصورة غير شرعية سيتم إيقافه على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي ثم يعاد إلى البلد الذي قدم منه"، مؤكداً على "أن الحكومة الليبية بحاجة إلى أن تكون شريكاً مع الاتحاد الأوروبي"، وأضاف: "اللاجئين ليسوا مواطنين ليبيين بل يستغلون الأراضي والسواحل الليبية كمكان للعبور إلى أوروبا عبر البحر المتوسط"، وأوضح أن "إغلاق طريق البلقان بوجه اللاجئين والتعاون مع تركيا أدى إلى تقليص تدفق المهاجرين بنسبة 98% بينما زاد عدد الوافدين من اللاجئين إلى إيطاليا ومعظمهم من الأفارقة بنسبة 20%".  

5- مكافحة الهجرة غير النظامية والتصدي للجريمة المنظمة: يمثل ذلك أحد الشواغل الرئيسية لفيينا. وفي هذا السياق، تطرقت مباحثات المستشار سيباستيان كورتز ورئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية فايز السراج، في 26 يناير 2019، إلى مكافحة الهجرة غير النظامية، واعتبر كورتز أن خفر السواحل الليبي يقوم بعمل ناجح في هذا الإطار حيث نجح خلال عام 2018 في إنقاذ 20 ألف شخص من البحر المتوسط وإعادتهم إلى الأراضي الليبية، وأكد على أهمية تقديم الدعم التقني والعسكري على الحدود الجنوبية.

6- إزالة الألغام في سوريا: تحرص فيينا على دعم الجهود المكثفة لإزالة الألغام من سوريا من أجل تسهيل عودة اللاجئين والمشردين في الداخل إلى مناطقهم، وهو ما أشارت إليه تصريحات وزيرة خارجية النمسا السابقة كارين كنايسل عقب لقائها وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير لاين في 19 يناير 2019، مؤكدة أن بلادها ستكثف جهودها في هذا الصدد لأغراض إنسانية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الحكومة النمساوية أعلنت في فترة سابقة عن تقديم مساعدة مالية بمليونى يورو (2.27 مليون دولار) للمساهمة في إزالة الألغام. ووفقاً للإحصاءات الصادرة عن الأمم المتحدة لعام 2019، فإن خطر الموت الناجم عن تفجير الألغام يهدد حياة 6.4 مليون شخص في مختلف المناطق السورية.

7- دعم عودة الشركات النمساوية للعمل في بؤر الصراعات المسلحة: وبصفة خاصة في ليبيا واليمن، وقد انعكس ذلك التوجه في زيارة وزير الخارجية النمساوي السابق سيباستيان كورتز (المستشار فيما بعد) للعاصمة الليبية طرابلس، في 1 مايو 2017، على رأس وفد رفيع المستوى ضم سفير النمسا لدى تونس وممثلين لشركات نمساوية كبرى، وهو ما يعبر عن دعم النمسا لحكومة الوفاق الوطني، الأمر الذي بدا جلياً في البيان الصادر عن الأخيرة الذي قال أن سيباستيان عبر عن تطلع بلاده إلى تطوير العلاقات الثنائية مع ليبيا، والتعاون في مجالات النفط والصحة، وأعرب عن أمله في عودة قريبة للبعثة الدبلوماسية النمساوية إلى طرابلس، وتخفيف إجراءات التأشيرة وعودة رحلات الطيران مباشرة بين البلدين وعودة الشركات النمساوية للعمل في ليبيا.

 كما كانت الشركة النمساوية OMV أول شركة أجنبية تعود لاستئناف عملها المتعلق بإنتاج النفط في جنوب اليمن في إبريل 2018، بعد أن شهد الوضع الأمني تحسناً حينذاك في محافظة شبوة، التي تم تحريرها من السيطرة الحوثية.

8- توجيه المساعدات الإنسانية للسكان المدنيين المتضررين من الصراع في اليمن وسوريا: وافقت حكومة النمسا الاتحادية، بقرار صادر في 4 يوليو 2018، على تمويل اليمن بمليون يورو من صندوق الكوارث الخارجية لتخفيف معاناة السكان المدنيين. بالإضافة إلى ذلك سيتم دعم النازحين اليمنيين داخلياً من خلال برامج "النقد مقابل العمل" حتى يتمكنوا من إعالة نفسهم. وتتواصل المساعدات التي تقدمها النمسا لدعم سوريا، حيث ذكر بيان صادر عن وزارة الخارجية النمساوية، في 19 سبتمبر 2019، أن "مساهمة النمسا في المساعدات الإنسانية لسوريا في عام 2019 ارتفعت إلى 17.5 مليون يورو"، لافتاً إلى أن النمسا تعتبر ثالث أكبر مانح للصندوق بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

وأكد بيان الخارجية النمساوية على أن "فيينا مصممة على مساعدة لاجئي الصراع السوري والدول المضيفة لهم.. حيث يحتاج ملايين الأشخاص إلى فرص للعودة بالإضافة إلى توفير فرص العمل والتدريب في المنطقة، وهو ما يفسر أن النمسا قدمت مساهمة إضافية قدرها 4 ملايين لدعم اللاجئين السوريين المحليين"، ويتم ذلك بواسطة الوكالة النمساوية للتنمية التي تقرر مساهمة النمسا في صندوق الاتحاد الأوروبي، والذي تبلغ قيمته 1.8 مليار يورو، بما يلبي الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية للاجئين في الصراع السوري. 

مسارات متوازية:

خلاصة القول، إن هناك توجهاً نمساوياً لتعزيز التعاون مع دول الإقليم، وخاصة التي تشهد صراعات مسلحة، عبر دعم جهود التسوية السلمية لتلك الصراعات ومكافحة الإرهاب والتصدي لاقتصاديات الجريمة المنظمة وتدريب قوات خفر السواحل وتعزيز القدرات في تأمين الحدود لمواجهة ظاهرة الهجرة غير النظامية، وهو ما يتوازى مع توسيع نطاق التعاون مع الدول المأزومة في المجالات الخدمية، وخاصة التعليم والصحة، وإزالة خطر الألغام في الدول المنهارة والتخفيف عن معاناة السكان المدنيين عبر "صندوق الكوارث الخارجية".