خيارات مُؤجَّلة:

لماذا ترفض "طالبان" وقف هجماتها رغم التفاوض مع واشنطن؟

02 September 2019


في الوقت الذي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تعزيز فرص إنجاح المفاوضات التي تجري مع حركة "طالبان" الأفغانية، في سياق الاتجاه نحو سحب القوات الأمريكية من أفغانستان، في مقابل التزام "طالبان" بعدم السماح للتنظيمات الإرهابية، على غرار تنظيم "القاعدة" وغيره، باستخدام الأراضي الأفغانية للانطلاق منها لشن هجمات خارجية، تعمدت الحركة توجيه رسائل، في 26 أغسطس 2019، بأن أى اتفاق محتمل مع واشنطن لا يعني وقف المواجهات ضد الحكومة الأفغانية، وهو ما يطرح تساؤلات حول الأسباب التي تدفع الحركة إلى تبني هذا التوجه والإصرار عليه رغم الضغوط التي تتعرض لها، لا سيما وأنه لا يتفق مع مبدأ التفاوض ولا يحقق أهداف القوى المعنية بالملف الأفغاني والتي تسعى إلى منع تحول أفغانستان إلى نقطة انطلاق للتنظيمات الإرهابية. 

هجمات متصاعدة:

رغم استمرار المحادثات التي تجرى بين المبعوث الأمريكي الخاص إلى أفغانستان زالماى خليل زاد وبعض قيادات الحركة، خلال أغسطس الجاري، إلا أنه كان لافتًا أن الحركة حرصت في التوقيت نفسه على تصعيد عملياتها ومواصلة تحركاتها على الأرض، والتي كان من أبرزها سيطرتها على قاعدة استراتيجية في ولاية فارياب الشمالية، في 14 أغسطس، عقب استسلام من كان فيها من القوات الحكومية، ومقتل أكثر من 40 جندي وإصابة 17 آخرين، إلى جانب اقتحامها قاعدة عسكرية كبيرة في مديرية تشلغازي بعد انسحاب القوات الحكومية منها ومن 7 مراكز أمنية محيطة بها.

وقبل ذلك، شنت الحركة، في 7 من الشهر نفسه، هجومًا انتحاريًا بسيارة ملغومة على مركز للشرطة في العاصمة كابول أسفر عن مقتل 14 وإصابة 145 آخرين، ونفذ مقاتلوها هجومًا على القوات الحكومية في ولاية هلمند الجنوبية، في 24 أغسطس، أدى إلى مقتل وإصابة 13 من القوات الحكومية.

اعتبارات متعددة:

يمكن تفسير إصرار "طالبان" على تصعيد حدة هجماتها الإرهابية خلال المرحلة الحالية، وعدم وقفها رغم استمرار المفاوضات مع واشنطن، في ضوء عدة اعتبارات تتمثل في:

1- تحسين شروط التفاوض: تحاول الحركة عبر توسيع نطاق العمليات الإرهابية التي تقوم بشنها ضد القوات الحكومية، بالتوازي مع الإشارة إلى أنها لن تتراجع عن مواجهاتها مع الأخيرة خلال الفترة التالية على أى اتفاق محتمل، تعزيز موقعها التفاوضي مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يبدو أنها تهدف من خلال ذلك إلى رفع سقف مطالبها من الأخيرة، ودعم قدرتها على انتزاع مكاسب سياسية. 

ومن هنا، يمكن تفسير أسباب حرص الحركة على فتح قنوات تواصل مع القوى الإقليمية والدولية المعنية بالتطورات السياسية والميدانية في أفغانستان، على غرار الصين وروسيا وإيران وباكستان، وغيرها، حيث تسعى من خلال ذلك إلى توجيه إشارات لواشنطن وكابول بأن لديها القدرة على الوصول لتفاهمات مع بعض القوى الأخرى، مثل إيران، التي أجرت مفاوضات عديدة مع قادة من الحركة خلال الأعوام الأخيرة، في إطار محاولاتها الاستناد إلى نفوذها الإقليمي في التعامل مع السياسة التي تتبناها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاهها.

2- تكريس النفوذ: تحرص "طالبان" من خلال مواصلة التصعيد وشن العمليات الإرهابية على توجيه رسائل حتى إلى التنظيمات الإرهابية الأخرى التي تسعى إلى توسيع نطاق انتشارها على الساحة الأفغانية، وفي مقدمتها تنظيم "ولاية خراسان"، الذي يمثل ذراع تنظيم "داعش" في أفغانستان، بأن انخراطها في مفاوضات مع واشنطن لا يعني أنها سوف تتخلى عن توجهاتها المتشددة وموقفها من الحكومة الأفغانية، وهو أحد المعايير التي تحاول تلك التنظيمات الاستناد إليها لتكريس توازن جديد على الأرض فيما بينها. وبعبارة أخرى، فإن الحركة تحاول الإشارة عبر ذلك إلى أنها لن تتخلى عن جناحها العسكري، الذي تعتمد عليه في السيطرة على مناطق عديدة داخل أفغانستان، وفي تقليص قدرة التنظيمات الإرهابية الأخرى على تعزيز نفوذها فيها.

وقد كان لافتًا أن إصرار الحركة على توجيه هذه الرسائل جاء بالتوازي مع الهجوم الذي استهدف من خلاله تنظيم "ولاية خرسان" حفل زفاف، في 17 أغسطس الجاري، وتسبب في مقتل 63 شخصًا وإصابة 182 آخرين، وهو الهجوم الذي سعى التنظيم الأخير عبره إلى توسيع نطاق انتشاره جغرافيًا داخل أفغانستان وتعزيز قدرته على استقطاب عدد أكبر من الإرهابيين والمتعاطفين معه.

3- تجنب الانشقاقات: تعتمد "طالبان" في تعزيز تماسكها التنظيمي على استمرارها في تنفيذ عمليات إرهابية وشن ضربات ضد القوات الحكومية، بما يعني أن خيار التخلي عن تلك العمليات قد يدفع بعض قياداتها وكوادرها إلى الانشقاق عنها والانضمام إلى التنظيمات الإرهابية المنافسة. ويبدو أن قيادة الحركة تنبهت إلى أن الرفض الذي أبداه بعض الكوادر للتفاوض مع واشنطن يمكن أن يؤدي إلى توسيع نطاق الخلافات الداخلية وبروز تيارات متنافسة، بما قد يساهم في إضعاف الحركة على المديين المتوسط والبعيد. ومن هنا، سارعت القيادة إلى تأكيد حرصها على استمرار تلك العمليات.

وقد أشارت صحيفة "تايمز" البريطانية، في 27 أغسطس الجاري، بالفعل إلى أن ثمة بوادر حقيقية لحدوث انشقاقات بارزة داخل الحركة مع استمرار مفاوضاتها مع واشنطن، التي يعتبرها بعض الكوادر، وفقًا للصحيفة، بمثابة "تنازل عن المبادئ". بل إن هذه الخلافات قد تؤدي إلى اندلاع مواجهات دموية داخل الحركة، خاصة بعد أن حاولت إحدى المجموعات التابعة لها اغتيال قائدها مولوي هيبة الله اخوندزاده في بداية الشهر الحالي.

4- ممارسة ضغوط على الحكومة: ترى بعض الاتجاهات داخل الحركة أن وصول المفاوضات الحالية إلى إبرام تسوية سوف يدفع الحكومة الأفغانية، في مرحلة لاحقة، إلى محاولة فتح قنوات تواصل معها، للوصول إلى تفاهمات حول التطورات السياسية التي تجري على الساحة الأفغانية، وهو ما جعل الحركة تتجه إلى استخدام العمليات الإرهابية كآلية لممارسة قدر أكبر من الضغوط على الحكومة خلال المرحلة القادمة، التي قد تعقب انسحاب القوات الأمريكية في حالة الوصول إلى اتفاق بين الحركة وواشنطن.

إن ما سبق في مجمله يشير إلى أن أفغانستان تبدو مقبلة على مرحلة جديدة سوف تعاد فيها صياغة الترتيبات السياسية والأمنية بناءً على المعطيات التي سوف تفرضها نتائج المفاوضات الحالية التي تجري بين واشنطن و"طالبان"، والتي سوف تؤثر بشكل عام على المسارات المحتملة التي يمكن أن تتجه إليها الأزمة في أفغانستان خلال الفترة القادمة.