قوة الابتكار:

الحاجز الشمسي وأزمة المناخ .. مدخل للحل أم للصراع العالمي

31 July 2019


عرض: سارة عبدالعزيز سالم - باحثة في العلوم السياسية

يتمثل الدور الأسمى للعلم والتطور التكنولوجي في تلبية احتياجات المجتمعات، حيث يتآلف العلم مع التكنولوجيا للعمل معًا كسلاح تستخدمه دول العالم منذ قديم الأزل في مواجهة التحديات المعقدة والمتسارعة، والتي تأتي -هي الأخرى- نتيجة للإفراط في الاستخدام غير العادل وغير الرشيد لمخرجاتهما. 

وانطلاقًا من تلك الفرضية، طرحت مجلة الإيكونوميست "The Economist" في تقريرها الصادر في يوليو الجاري المعنون "ماذا لو؟"، سيناريوهين يتعلقان بدور العلم والتكنولوجيا في مواجهة تحديين افتراضيين؛ أولهما يرتبط بالصحة، وثانيهما يتعلق بالتغيرات المناخية.

بناء الحاجز الشمسي 

يفترض السيناريو الثاني أن التغيرات المناخية وما أدت إليه من تداعيات خطيرة، سواء على مستوى الدول الغنية أو الفقيرة، أسهمت في تفكير بعض الدول في وضع حلول دائمة لمعالجة تلك التداعيات. ويتمثل السيناريو الذي يطرحه التقرير في الاستعانة بالهندسة الجيولوجية الشمسية (Solar Geoengineering) في بناء حاجز شمسي (Sunshade)، وهي في حقيقتها تقنية مستمدة من الطبيعة، حيث تقوم الطبقات الداخلية للأرض بلفظ الحرارة من داخلها من خلال البراكين، ومن ثم إحداث عملية تبريد مؤقت للأرض من خلال الغبار البركاني. 

وبناء عليه، تعتمد فكرة الحاجز الشمسي على تبريد الكوكب من خلال حقن جزيئات عاكسة صغيرة في طبقة الستراتوسفير المشكلة للغلاف الجوي الخارجي لكوكب الأرض، وذلك من خلال أسطول من الطائرات، والتي ستعمل كحاجز يعكس مرة أخرى جزءًا من طاقة الشمس إلى الفضاء.

وهنا يفترض التقرير أن الفكرة ستخلق حالة من الاهتمام السياسي بتطبيقها في منتصف عام 2020، وذلك بصفة خاصة من جانب الدول النامية؛ إلا أن العالم سينقسم إلى فريقين من المؤيدين والمعارضين لفكرة الحاجز الشمسي.

وسيبني المؤيدون رؤيتهم على أن الحاجز الشمسي سيوفر المزيد من الوقت أمام العالم لبذل الجهود الهادفة لتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. أما المعارضون، فسيرون أن الحاجز الشمسي سيخفف من حدة حالة الضرورة إلى تقليل تلك الانبعاثات. هذا بالإضافة إلى المخاطر المرتبطة بالآثار الجانبية غير المقصودة التي قد تترتب على أي اختراع جديد لم تسبق تجربته ودراسة آثاره بشكل متعمق.

وهناك بُعد آخر يرتبط بصدمة الإنهاء (Termination shock) وذلك في حال توقف المشروع لأي سبب سياسي أو فني، حيث سيؤدي ذلك إلى ارتفاع مفاجئ في درجات الحرارة خلال مدة وجيزة. ومن ثم، فإن الأمر يستدعي إرساء قواعد دولية لحوكمة استخدام التكنولوجيا في مواجهة التغيرات المناخية، وذلك في حال إطلاق إحدى الدول لـ"برنامج هندسة جيولوجية مارق" بما يضر بمصالح الدول الأخرى.

ويرى التقرير أن إطلاق الحاجز الشمسي من جانب الدول النامية قد يدفع فشل المفاوضات من خلال الأمم المتحدة لتبني الفكرة دوليًا في توجه مجموعة من الدول النامية برئاسة بنجلاديش إلى إجراء محادثات ثنائية مع عدد محدود من الدول في عام 2030، وذلك لمناقشة مشروع إنشاء حاجز شمسي يخدم تلك الدول، وذلك في محاولة لإقناع العالم بأهمية الفكرة وإمكانية تطبيقها. لكن ارتفاع تكلفة إنشاء المشروع والحاجة إلى قوة كبرى تحميه قد يدفع تلك الدول للاستعانة بالصين أو الهند، فكلٌّ منهما يمتلك حجم سكان كبيرًا يجعلهما في حاجة للاستفادة من دعم المشروع في مواجهة تداعيات التغير المناخي.

لكن التحدي قد يتمثل في أن بناء حاجز شمسي إقليمي هو أمر غير منطقي، كما أنه قد يأتي بنتائج كارثية، حيث إنه قد يتسبب في إحداث تحولات في ميزان الطاقة في الطبقات العليا من الغلاف الجوي بطريقة تسبب اضطرابات واسعة النطاق في مسار الرياح الموسمية الاستوائية. ومن ثم، فإن الحل يتمثل في أن يكون الحاجز الشمسي، إما أن يغطي نصف الكرة الأرضية أو العالم، بحيث يتم تبريد الكرة الأرضية بأكملها بشكل متوازن ومعقول. وفي هذه الحالة، ولتجنب إثارة المخاوف العسكرية، يمكن إشراك دول أخرى من إفريقيا أو أمريكا اللاتينية لتغطية نصف الكرة الجنوبي.

ويشير التقرير إلى أن الولايات المتحدة تتوافر لديها المقومات المادية لإطلاق أسطول الطائرات المكون للحاجز الشمسي، وكذلك القدرات البحثية اللازمة لقياس وتتبع الأثر. كما تمتلك من خلال قواعدها العسكرية المنتشرة في كافة أقاليم العالم إمكانية إطلاق الطائرات التي تغطي الكرة الأرضية. وقد أثبتت بعض الدراسات أن الحاجز الشمسي من الممكن أن يساهم في التقليل من شدة الأعاصير التي تواجهها، وهو ما يُعد حافزًا كافيًا لتولي الولايات المتحدة بمفردها مهمة إنشائه بشكل أحادي نيابة عن دول العالم بأكملها.

وعن ردود الأفعال الدولية المتوقعة، أشار التقرير إلى أنها قد تختلف اعتمادًا على محددين أساسيين، وهما: الكيفية التي سيتم من خلالها إنشاء الحاجز وإطلاق الطائرات المشكلة له، وكذلك النتائج المناخية المترتبة عليه، حيث إنه لا يمكن تلمّسها بشكل سريع أو في المدى القصير، بل سيستغرق الأمر عدة سنوات. كما أنه قد لا يكون ملاحَظًا على مستوى الإقليم، بل قد يحتاج تلمس ذلك الأثر تتبعه على المستوى العالمي. إلا أن الأمر لن يتجاوز حاجز الإدانة الدولية، وتبادل الاتهامات بين الدول.

وهنا يطرح التقرير إمكانية لجوء بعض الدول المعادية لذلك الحاجز إلى تطوير برامج هندسة جيولوجية مضادة، والتي تستهدف من خلالها إما إسقاط طائرات الحاجز الشمسي أو بناء أسطول آخر من الطائرات، والذي يتولى مهمة إيصال حمولات أخرى منفصلة من مواد مختلفة إلى طبقة الستراتوسفير، وذلك لتحييد أثر الحاجز الشمسي. ومن ثم، فإن تلك البرامج تؤدي دور أداة الردع في بناء الحاجز الشمسي.

وبشكل عام، انتهى التقرير إلى أن بناء الحاجز الشمسي من المحتمل أن يؤدي في السيناريو الأسوأ منه إلى إشعال المزيد من الصراعات بين الدول، إلا أنه وفقًا للسيناريو المتفائل فإنه سيمنح العالم فرصة أخرى لإيجاد حلول مستدامة للتداعيات المترتبة على التغيرات المناخية. كما أنه قد يفتح الباب أمام البدء في مرحلة ثانية أكثر تطورًا، يتم خلالها تصميم جزيئات تركيبية أكثر فاعلية في عكس إشعاع الشمس أو أن تظل معلقة في الطبقة العليا للغلاف الجوي لمدة أطول. وأن يتم ذلك كله في إطار توقيع الدول على بروتوكول (كيوتو2) في عام 2047، وإعطاء الدول المزيد من الوقت لتقليل حجم الانبعاثات.

عالم ما بعد المضادات الحيوية

لطالما طرح العلماء والأطباء تساؤلًا رئيسيًّا مفاده: كيف سيكون شكل العالم في مرحلة ما بعد المضادات الحيوية؟ وقد طور التقرير هذا التساؤل من خلال سيناريو افتراضي يواجه فيه العالم في عام 2041 هجمة شرسة من قبل البكتيريا الخارقة (Superbugs)، التي لا تستجيب للمضادات الحيوية. وقد فنّد التقرير مسببات حدوث ذلك السيناريو، وأهم ملامحه، والتداعيات المترتبة عليه، ثم دور العلم والتكنولوجيا في مواجهة ذلك التحدي العالمي، الذي قد يعصف بالبشرية كلها. 

ومن خلال بحث التقرير في أهم مسببات حدوث ذلك السيناريو، وجد أن السبب الرئيسي يتمثل في الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية، سواء في المجتمعات الغنية، أو الفقيرة، بل واستخدامها دون وجود حاجة لذلك، حيث أوضح أن (30%) من حوالي (260 مليون) روشتة طبية تم وصفها من قبل العيادات الخارجية في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2010 لم تكن ضرورية، ولكنها جاءت لمعالجة حالات البرد أو العدوى الفيروسية، وهي الحالات التي لا تعالجها المضادات الحيوية. وينطبق الأمر كذلك على المجتمعات الفقيرة التي تغيب فيها ثقافة صرف الدواء بالروشتات الطبية، حيث يتم -في أغلب الأحيان- استخدام المضادات الحيوية دون وصفات طبية.

ووفقًا للتقرير فقد ضاعف من مواجهة البكتيريا لتأثير المضادات الحيوية ما واجهته المستشفيات الأوروبية والأمريكية من هجمة شرسة من قبل عدوى بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين (MARSA)، نتيجة التراخي في إجراءات النظافة العامة في المستشفيات وإهمال الأطباء. وهو الأمر الذي يتضاعف أثره في المجتمعات الفقيرة.

وهناك بُعدٌ آخر ساهم في تمحور البكتيريا وتعزيز قدرتها على مقاومة المضادات الحيوية بكافة أشكالها، يرتبط بالتوسع في استخدام الأخيرة في كل من الزراعة، والحفاظ على الثروة الحيوانية، والسمكية. ومن ثم، فإن عدم وجود مضادات حيوية قادرة على مواجهة البكتيريا أصبح خطرًا يتعادل أثره بفناء كوكب الأرض بما عليه من بشر وكائنات أخرى.

وهنا رسم التقرير ملامح سيناريو عالم ما بعد المضادات الحيوية من خلال مجموعة من التحديات تبدأ بارتفاع حالات الوفيات نتيجة للإصابات البكتيرية، والتي يقدرها التقرير في عام 2040 بحوالي (400 ألف) حالة وفاة في الولايات المتحدة وأوروبا، وما يقرب من (2 مليون) في آسيا وإفريقيا سنويًّا. وكذلك تراجع حجم العمليات الجراحية نتيجة خوف المرضى من الإصابات البكتيرية، ويتضاعف الأمر بالنسبة للمرضى المصابين بالأمراض الخطيرة، مثل: مرضى السرطان، وزراعة الأعضاء، وغيرها، وذلك نتيجة لضعف حالة المناعة لديهم. 

ومع تعقد الأزمة وتسارع التداعيات يتطور وعي مجتمعي بتجنب استخدام المضادات الحيوية للأفراد والحيوانات غير المصابة بعدوى بكتيرية، وانطلاق الخطط القومية والفعاليات الدولية للحد من استخدامها. ولكن تلك الجهود في حقيقتها قد جاءت متأخرة، حيث أصحبت معظم المضادات الحيوية مع نهاية عام 2020 غير قادرة على تحقيق الأثر الذي يتم استخدامها من أجله في مقاومة البكتيريا. ويتزامن ذلك مع تراجع رغبة شركات الدواء منذ عقد من الزمان في تطوير المضادات الحيوية التي يتم إنتاجها، وهو الأمر الذي يحصره في ثلاث شركات فقط.

إمكانية إنقاذ البشرية

وضع التقرير خطوات علمية محسوبة تعتمد بدرجة كبيرة على التضامن الدولي لمواجهة ذلك التحدي المصيري. فبدايةً سيتجه العالم نحو تأسيس الشراكة العالمية لعلوم المضادات الحيوية (GASP) في عام 2032، وهي شراكة تجمع بين المتخصصين في القطاعين العام والخاص، والتي سيُعهد إليها بشكل طارئ مهمة تطوير مضادات حيوية جديدة. ومن حيث التمويل، فمن المتوقع أن يؤسس رواد التكنولوجيا من كل من الولايات المتحدة والصين صندوقًا بمبلغ تأسيسي يصل إلى حوالي (40 مليار دولار)، خلال السنوات الخمس الأولى.

لكن المعضلة الحقيقية التي يطرحها التقرير تتمثل في كيفية جمع العلماء المتخصصين في مجال المضادات الحيوية، حيث إن إحجام شركات الأدوية لفترات طويلة عن صناعة المضادات الحيوية نتيجة توفرها في الأسواق، قد يدفع المتخصصين في ذلك المجال إما لتخصصات أخرى، أو توقفهم عن العمل نتيجة لتقدم سنهم، وعدم وجود جيل ثانٍ يحمل نفس الخبرة. وهو الأمر الذي وجد التقرير أنه يمكن التغلب عليه من خلال توظيف فريق من الصحفيين الاستقصائيين، الذين تتمثل مهمتهم الأساسية في تجميع هؤلاء العلماء المتخصصين. 

أما الخطوة التالية، فتتمثل في توظيف التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي من قبل علماء (GASP) في إجراء مسح لسجلات العقاقير التي توقف استخدامها من قبل شركات الأدوية، والتي يمكن إعادة تطويرها واستخدامها في مواجهة البكتيريا الخارقة. 

وهنا افترض التقرير إمكانية التوصل إلى مضاد حيوي جديد أُطلق عليه مسمى بارفوميسين (Parvomycin)، والذي يمكن توزيعه على مستوى العالم. ومن خلال احتفاظها برخصة ابتكار المضاد الحيوي الجديد يمكن أن تتوسع (GASP) في تطوير مضادات حيوية جديدة تحسبًا لأي مواجهة بكتيرية، حيث إن فترة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية الجديدة تتراوح بين سنة إلى سنتين منذ بداية الاستخدام.

ويرى التقرير أن طرح المضاد الحيوي الجديد يحمل بارقة أمل نتيجة تطورين مهمين، يرتبط أولهما بأن تغييرًا ما قد حدث في إدراك العالم لكيفية التعامل السليم مع المضادات الحيوية، سواء من حيث دواعي الاستخدام، أو درجة ذلك الاستخدام ووتيرته. أما التطور الثاني، فيعود الفضل فيه إلى (GASP) التي تمكنت من إعادة إحياء خطوط إنتاج المضادات الحيوية الجديدة مرة أخرى. ومن ثم، فإنه على الرغم من فداحة الخسارة التي تعرّض لها العالم، وأن المعركة لا تزال مستمرة؛ إلا أن ما تم التوصل إليه من نتائج يبعث الأمل بإمكانية مواجهة عالم ما بعد المضادات الحيوية. 

وختامًا، يمكن القول إنه على الرغم من تعقد كلا السيناريوهين اللذين طرحهما التقرير، وتأثيرهما الفتاك على البشرية بأكملها، سواء من خلال التأثير على الصحة أو التغيرات المناخية، إلا أن الملجأ الأخير تمثل في إحداث التضامن الدولي بدرجة أو بأخرى من أجل توظيف العلم والتكنولوجيا كسلاح للمواجهة. 

المصدر: 

"The world If", The Economist, London, July, 6, 2019, pp. 10-13.