صفقة مأزومة:

جدوي الحلول الاقتصادية للقضية الفلسطينية

02 July 2019


مع وصول الرئيس "دونالد ترامب" إلى سدة السلطة، شرع في تقديم رؤيته لتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ككل رؤساء الولايات المتحدة السابقين الذين حاولوا تحقيق تقدم في مستوى هذا الصراع يُضاف إلى قائمة إنجازاتهم. لكنّ الوضع اختلف مع الرئيس "ترامب"، فقد غلبت طبيعته كرجل أعمال على رؤيته لهذا الصراع، فقدم تصورًا لصفقة تجارية بالأساس، واعتبر أن الحل الاقتصادي هو السبيل لتحقيق تسوية نهائية.

معضلة الاقتصاد الفلسطيني:

أدت الخلافات الفلسطينية-الفلسطينية المتصاعدة منذ عام 2007 بعد انفراد حركة "حماس" بالسلطة في قطاع غزة إلى إيجاد واقعٍ جديدٍ يزيدُ من إضعاف الموقف الفلسطيني في أي مشروع للتسوية، ومنذ ذلك الحين يُعاني الشعب الفلسطيني ويلات وتداعيات هذه الخلافات التي زاد من حدتها الحصار الذي فرضته إسرائيل على قطاع غزة منذ عام 2008، مع ما مرت به المنطقة من تغيرات وصراعات أدت إلى تراجع الاهتمام الإقليمي والدولي نسبيًّا بتسوية العلاقات بين الفلسطينيين وإسرائيل.

وفي هذا السياق، تراجع الاقتصاد الفلسطيني، وساءت الأحوال المعيشية للشعب الفلسطيني. وتُظهر المؤشرات الحيوية للاقتصاد الفلسطيني هذا الضعف، فوفقًا لمؤشرات عام 2018/2019، فقد تراجع معدل النمو الاقتصادي الذي سجله الاقتصاد في القطاع، والذي وصل إلى (-4%)، وهو ما جعل النمو في الضفة -الذي يُقدر بحوالي 3.2%- بلا تأثير على الاقتصاد العام، كما بلغت نسبة البطالة 32%، لتسجل في الضفة الغربية وحدها ما يقدر بحوالي 27.4%.. وتزامن ذلك مع تراجع القدرة الشرائية للمواطنين نتيجة التوترات الجيوسياسية والعقوبات الأمريكية وقطع المساعدات التي كانت تصل إلى 250 مليون دولار سنويًّا، بالإضافة إلى تراجع المنح الدولية والعربية.

يُضاف إلى هذا تراجع التداول في بورصة فلسطين إلى أكثر من 30% بسبب عدم توفّر السيولة، والقلق العام من الأوضاع. كما تناقص النموّ في القروض والتسهيلات البنكية، وتدل كافة هذه المؤشرات على أن الاقتصاد الفلسطيني يمر بحالة من التراجع منذ عام 2002، وأصبحت القناعة السائدة لدى العديد من المتخصصين أنه مع استمرار الأوضاع القائمة في المنطقة فإن الاقتصاد الفلسطيني ليس أمامه أي فرص للنمو بعد أن استنفد كل الخيارات، ولم يبقَ أمامه سوى الحفاظ على وضعية الثبات من خلال استمرار الارتباط بالاقتصاد الإسرائيلي.

البُعد الاقتصادي لصفقة القرن:

قدّمت الولايات المتحدة الأمريكية مشروع "صفقة القرن" لتسوية الصراع بين فلسطين وإسرائيل من خلال المدخل الاقتصادي، حيث رأت أن تحسين الأحوال المعيشية للفلسطينيين نسبيًّا يُعد مقابلًا مناسبًا لقبول مشروع التسوية الذي طرحته الإدارة الأمريكية، خاصةً مع تردي الأوضاع الاقتصادية، وانقسام السلطة بين حركتي "فتح" و"حماس". كما افترضت أن دول الإقليم عليها أن تكون جزءًا من هذا المشروع وتتشابك معه على أساس من المصالح المشتركة، بمعنى أن يتحملوا نصيبًا لفرض التسوية كما تراها الولايات المتحدة. يُضاف إلى هذا أن مشروع التسوية السياسية المطروح من قبل إدارة "ترامب" قد رأى أنه إذا كانت المفاوضات لم تؤدِّ للوصول إلى تسوية مقبولة من قبل، فإن المصالح الاقتصادية المتبادلة بين طرفي الصراع والدول المحيطة بهم ستفرض حالة من الاستقرار النسبي، ومن ثم يحرص الجميع على استمرارها، وينشأ واقع جديد يُضطر الفلسطينيون لتقبله والتعايش معه، طالما أوضاعهم الاقتصادية مستقرة وملائمة. 

وانطلاقًا من هذه الرؤية التي لم تكن إسرائيل غائبة عن صياغتها، شرعت الولايات المتحدة في تهيئة البيئة الإقليمية والدولية لتقبلها، ولذا تم اتخاذ بعض الإجراءات التي تفرض واقعًا جديدًا، مثل قرار واشنطن نقل سفارتها للقدس، والاعتراف بها عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، مع الانسحاب من اللجنة الخاصة بشئون اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وذلك بالتزامن مع قانون القومية في إسرائيل الذي يُقر مبدأ "يهودية الدولة". بالإضافة إلى تأجيل الإعلان الرسمي عن تفاصيل "صفقة القرن" أكثر من مرة، إلى أن قررت الولايات المتحدة طرحها في ورشة عمل اقتصادية تستضيفها البحرين في 25 و26 يونيو 2019، وتزامن هذا مع اتجاه إسرائيل لانتخابات تشريعية جديدة بعد أن فشل "نتنياهو" في تشكيل ائتلاف حكومي بعد انتخابات أبريل الماضي، وهو ما قد يُحسّن موقف "نتنياهو" على المستوى الداخلي. كما أن "ترامب" قد أعلن رسميًّا عن حملته لخوض الانتخابات الرئاسية القادمة، ويبحث عن إنجاز خارجي يُرضي ناخبيه من اليهود.

ويقترح المشروع تقديم ميزانية بقيمة 50 مليار دولار يتم توجيهها لعدة مشروعات في الضفة الغربية وقطاع غزة وبعض المشروعات المشتركة مع دول الجوار العربي. ويمكن من الشكلين التاليين ملاحظة كيفية توزيع هذه المشروعات داخل الضفة وغزة( )، ويلاحظ أن أغلبها مشروعات بنية تحتية وخدمات وليست مشروعات إنتاجية أو صناعية، أي إنها ضمنًا تحرص على استمرار ارتباط الاقتصاد الفلسطيني بالإسرائيلي، ومن ناحية أخرى فإن توزيع المشروعات إقليميًّا، سواء في الميزانية أو في طبيعة المشروعات، لا يهتم بخصوصية الدول أو ظروفها. فعلى سبيل المثال، هناك مقترح بالتجارة الحرة مع مصر متجاهلًا الحرب المصرية الراهنة على الإرهاب في سيناء. 


 جدوى الحل الاقتصادي:

لم تكن "صفقة القرن" هي المرة الأولى التي يُطرح فيها البُعد الاقتصادي كحل أساسي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، فمع نهاية الحرب الباردة، حاولت الولايات المتحدة أكثر من مرة دمج إسرائيل في المنطقة العربية، وطُرح مشروع الشرق الأوسط الكبير، أو مجموعة الدول المتوسطية، وكان المنطق الذي تقدم من خلاله الأمر كل مرة أنّ تشابك المصالح الاقتصادية بين العرب -وتحديدًا الفلسطينيين- سيؤدي بالضرورة لتقبل الوجود الإسرائيلي على المستوى الشعبي، ويدمج إسرائيل ككيان طبيعي -لا كدخيل- مع المنطقة العربية. لكن مرة أخرى، أخطأت واشنطن في قراءة الواقع الفلسطيني والعربي، وتجاهلت العديد من الأمور، وأهمها:

1- المعارضة الفلسطينية: الفلسطينيون هم أصحاب القضية بالأساس، وعدم موافقتهم على المشروع الأمريكي يُعتبر سببًا كافيًا لفشله، ومقاطعتهم لورشة عمل البحرين كانت تعبيرًا عن رفض المبدأ، أي الفصل بين الحل الاقتصادي والحل السياسي.

2- موقف الدول العربية: مشاركة مجموعة من الدول العربية في مؤتمر البحرين -بتمثيل رسمي ضعيف- لم تكن تعني موافقتهم على الصفقة المطروحة أو قبولهم لها، فكل الدول العربية التي شاركت أكدت مواقفها بالالتزام بموقف الفلسطينيين. ففي تصريحٍ لوزير الدولة للشئون الخارجية السعودية "عادل الجبير" قال: "إن المملكة السعودية لا تقرر محل الفلسطينيين.. إن الفلسطينيين هم أصحاب القرار الأخير، لأنها قضيتهم، وما يقبلونه يقبله الجميع"( ). وفي السياق نفسه، صرح وزير الخارجية المصري "سامح شكري" قائلًا: "إن منتدى البحرين يأتي في إطار طرح من الولايات المتحدة للجهود المبذولة للتوصل لحل نهائي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ونتوقع أن يصدر بعده المكون السياسي.. وأكد أن الحل لا بد أن يرتكز على مكون سياسي متصل بمقررات الشرعية الدولية والمبادرة العربية لحل الدولتين"( ). 

3- تجاهل إنشاء دولة فلسطينية: إن المشروع الاقتصادي المطروح في "صفقة القرن"، يقدم إطارًا قائمًا على تعزيز التجارة والاستثمار، يتجاهل التطلعات السياسية المشروعة للشعب الفلسطيني لإقامة دولة مستقلة قابلة للبقاء توفر لهم حياة كريمة.

ختامًا، يمكن القول إن الصراع العربي الإسرائيلي صراع استراتيجي متعدد الأبعاد، ويجب أن تركز تسوية الصراع على الأبعاد المختلفة له، مع ضرورة إدراك كلٍّ من إسرائيل وواشنطن أن هناك ثوابت للموقف الفلسطيني والعربي من التسوية، تتمثل في: الحفاظ على مبدأ حل الدولتين، والحقوق المشروعة للفلسطينيين، وعودة اللاجئين، والحق في المياه والقدس الشرقية. وما قدمته "صفقة القرن" الأمريكية تتجاهل كافة هذه الثوابت التي قدم الشعب العربي العديد من التضحيات لتحقيقها.