التقهقر للجحور:

استراتيجية شاملة لمواجهة استمرار التهديدات الإرهابية

29 May 2019


عرض: سارة خليل - باحثة في العلوم السياسية

أظهرت الهجمات الإرهابية المروعة الأخيرة التي شهدتها هولندا (١٨ مارس ٢٠١٩) وسريلانكا (٢١ أبريل ٢٠١٩)، أن التنظيمات المتطرفة لا تزال تُمثل أحد التهديدات الرئيسية الخطيرة في جميع أنحاء العالم، ولا سيما على حالة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. فعلى الرغم من فقدان تنظيم "داعش" سيطرته على معظم الأراضي التي كان يسيطر عليها؛ إلا أنه يظل مُلهِمًا للعديد من أتباعه الذين يقومون بتنفيذ هجمات جيدة التخطيط في العديد من الدول في الآونة الأخيرة.

ولتسليط الضوء على تلك الإشكالية، وكيفية التعامل مع التهديدات المستمرة لتنظيم "داعش" وغيره من التنظيمات الإرهابية، أصدر معهد بروكينجز في مايو الجاري تقريرًا بعنوان "دفع الإرهاب الجهادي للعودة لجحوره: كيفية مواجهة التهديد الإرهابي المستمر" للباحث "إيال كوهين" (الزميل الزائر بمركز سياسات الشرق الأوسط بالمعهد).

ركز التقرير على العوامل الأساسية للتهديدات الإرهابية في الوقت الراهن بالاستناد إلى معلومات تم جمعها عنها على مدار السنوات الأربع الماضية، لفهم مدى تطور عمليات التنظيمات الإرهابية، وأيضًا من أجل تحديد الاستراتيجية التي يجب أن تتبناها الدول لتجنب أية تهديدات إرهابية وشيكة. ولم يُقدم التقرير سياسة معينة لتبنيها، بل إنه يُوفر لصناع القرار الأدوات التي من خلالها يمكنهم تحديد أوجه القصور في نهج بلدانهم لمكافحة الإرهاب.

تهديد مستمر

يذكر "كوهين" أن الهجوم الإرهابي على "محطة الترام" بهولندا في منتصف مارس الماضي، والتفجيرات المتتالية التي شهدتها سريلانكا أثناء احتفالات عيد الفصح والتي أودت بحياة أكثر من ٢٥٠ شخصًا، ونفّذها أتباع لتنظيم "داعش"؛ تبرز أن التهديدات الإرهابية لا تزال قائمة.

وأضاف أنه خلال ما يُسمى بمرحلة "ما بعد الخلافة" فإن قدرة الإرهابيين على تنظيم هجمات متطورة ومدمرة أصبح أمرًا لا يمكن أن يتحمله أي مجتمع. ويشير إلى أن فشل الحكومات في مواجهة هذا التحدي لا يمكن قبوله بأية تبريرات، لتأثير الإرهاب على حياة الملايين حول العالم، حيث تضر هجماته باقتصادات الدول، وتؤثر على الثقافات، فضلًا عن أنها قد تؤدي لسقوط الحكومات، ناهيك عن امتداد تداعياتها لتشمل أنشطة الحياة اليومية. ولهذا، حذَّر بعض الباحثين من ردود الفعل المحتملة من تنظيمي "القاعدة" و"داعش" بسبب هزائمهم الأخيرة على الحدود السورية-العراقية، مشددين على ضرورة الانتباه للمعركة القادمة، حيث لم يضع هذا التراجع حدًّا للعقيدة الإرهابية التي غزت الكثير من العقول والدول في جميع أنحاء العالم.

وعلى الرغم من استمرار تهديد "داعش"، إلا أن عدم تمكنه من تحقيق وعده بإقامة "الخلافة الإسلامية" المزعومة يُعد ضربة قوية للتنظيم، ليس لفقدانه أراضيه فحسب؛ وإنما لتأثيراتها السلبية على قدراته لتجنيد أتباع جدد. ولكن "كوهين" يرى أن التنظيم بارع في الترويج لإخفاقاته بأنها ما هي إلا مرحلة في الطريق الطويل لتحقيق النصر المزعوم.

تحول أهداف التنظيم

من خلال تحليل هجمات تنظيم "داعش" في دول الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الأربع الأخيرة؛ توصّل التقرير إلى أن التنظيم يتخذ الفوضى تكتيكًا له، وأنه لا يوجد قاسم مشترك بين هجماته. ويضيف: وصل التنظيم لذروته بين عامي ٢٠١٥ و٢٠١٧، حيث شهدت أوروبا ٦٣ هجومًا إرهابيًّا، أسفرت عن مقتل ٣٤٧ شخصًا وجرح ١٥٥٨ آخرين. ويُشكل هذا العدد ١١٪ من جميع الهجمات الإرهابية التي شهدتها أوروبا، بخلاف هجمات اليمينيين واليساريين والانفصاليين وغيرهم. ولكن نسبة ٩٨٪ من القتلى في أوروبا، جاءت نتيجة الهجمات الإرهابية، مما يدل على قدرة "داعش" على إزهاق أرواح المدنيين.

ويشير "كوهين" إلى أن الهزيمة العسكرية والإقليمية لتنظيم "داعش" لم تضع حدًّا لقدرته على تنفيذ الهجمات الإرهابية، وإنما شهد تحولًا في اختيار الأهداف وموقعها. ففي أعقاب فقدانه السيطرة على معظم الأراضي التي كانت تخضع لسلطته، وخاصة بعد فقدانه الرقة في أواخر عام ٢٠١٧، كان يبدو أن حلم "الخلافة" المزعومة قد انتهى.

وخلال العام ذاته، عانت أوروبا من ٣٣ هجومًا إرهابيًّا، أسفرت عن مقتل ٦٢ شخصًا وجرح ٨١٩ آخرين. وفي عام ٢٠١٨، شهد الاتحاد الأوروبي ١٦ هجومًا إرهابيًّا فقط، أسفرت عن مقتل ١٥ شخصًا وجرح ٥٠ آخرين. وبالنظر إلى عمليات التنظيم خارج أوروبا في عام ٢٠١٧، فكان عددها سبع هجمات، منها هجومان في الولايات المتحدة، واثنان في روسيا، والباقي في أستراليا وكندا ومالي.

ولكن التقرير يوضّح أن الأمر قد اختلف في عام ٢٠١٨، حيث ازدادت الهجمات خارج الاتحاد الأوروبي لتصل إلى ٢٠ هجومًا إرهابيًّا أسفرت عن مقتل ما يزيد عن ٦٥ شخصًا. والتفسير المحتمل لهذه البيانات، كما أوضح "كوهين"، هو أن أوروبا اتبعت سياسة أقوى لمكافحة الإرهاب في العام الماضي، مما دفع تنظيم "داعش" لتحويل أهدافه خارجها.

استراتيجية شاملة

يشير "كوهين" إلى أنه بينما تركز معظم الدول على مواجهة التحديات الإرهابية العاجلة؛ فإنها تتجاهل مشكلات السياسة والتخطيط على المدى الطويل، ممَّا يعني ضرورة تخليها عن النهج القائم على رد الفعل الذي ثبت مدى خطورته، والاعتماد بدلًا من ذلك على استراتيجية شاملة لمنع الإرهاب، بدءًا من التحول للتطرف إلى إحباط الهجوم.

وثمَّة أبعاد حدّدها التقرير لتأخذها الحكومات في اعتبارها عند تعاملها مع التهديدات الإرهابية، وقد جاءت على النحو التالي:

أولًا- تركيز التعليم على الجهود الوطنية لتأسيس علاقة إيجابية مع المجتمعات الإسلامية المحلية، والتواصل معهم لتأسيس علاقة مثمرة، وتشجيعهم على رفض الاتجاه الحالي للإرهاب. فضلًا عن الحاجة لمعالجة مشكلة التطرف في عدد من المجتمعات الإسلامية. كما يجب أن يكون هناك حوار بين المجتمعات تجنبًا لانتشار نوع الخطاب الذي يُروج له تنظيم "داعش" وكشفه على حقيقته. وتحتاج المجتمعات للاستفادة من غالبية السكان المسلمين، وتشجيعهم على إظهار الروح الحقيقية للإسلام في جميع أنحاء العالم.

ثانيًا- التعامل مع قضية المقاتلين العائدين: يتوقع التقرير أن تبنّي العديد من الدول سياسة "اللا عودة" للمقاتلين وعائلاتهم، قد يخلق جيلًا من الشباب عديمي الجنسية الذين يكرهون الدول التي رفضتهم. وبالنظر لعواقب هذا على المدى الطويل، فإنه يجب على الحكومات اتخاذ تدابير اجتماعية للتخفيف من التهديد المحتمل للمقاتلين العائدين وعائلاتهم.

ثالثًا- ضرورة انتباه صانعي السياسة لعمليات التطرف المحتملة داخل السجون، حيث يستغلها تنظيم "داعش" لإعادة التنظيم والتجنيد والعودة لتنفيذ عملياته الإرهابية من جديد. وبالتالي يرى التقرير أن السجن المختلط بين أتباع "داعش" والمجرمين العاديين ربما تنجم عنه تداعيات خطيرة بمجرد أن يقضي هؤلاء السجناء أحكامهم وينضمون مرة أخرى إلى المجتمع.

رابعًا- كسر الروابط بين التنظيمات الإرهابية والمجتمعات المحلية، حيث أدت النزاعات الأهلية المستمرة في الشرق الأوسط إلى ظهور الجماعات المتطرفة المحلية التي توفر الأمن وخدمات القانون والنظام للسكان المحليين مقابل دعمهم. ولتنفيذ ذلك بصورة أكثر فعالية، أكد التقرير على ضرورة قيام الدول الغربية بمعالجة هذه القضايا في بلدان المنشأ (مثل: الصومال، ومالي، واليمن، والعراق)، ومقاومة تأثير التنظيمات الإرهابية على المجتمع المحلي من خلال إنشاء مؤسسات تعليمية وتوفير الأمن في المناطق الريفية والحضرية.

خامسًا- توازن التشريعات التي تستهدف مكافحة الإرهاب بين روح الديمقراطية والحاجة المُلحّة للأمن وتوفير السلامة العامة. وفي هذا الشأن سيتعيَّن على المشرّعين وضع إطار قانوني جديد وليس مجرد تفسير القوانين القائمة فقط للحفاظ على الحقوق الديمقراطية في ظل تنامي التهديدات الإرهابية.

ويشير "كوهين" إلى أن الردع يُمثل عاملًا هامًّا في التشريع، لأنه في كثير من الحالات يكون أفراد الأسرة أو الأصدقاء المقربون على علم بنوايا الجناة ولم يمنعوهم أو يقوموا بإبلاغ السلطات عنهم، ممَّا يستلزم إنشاء إطار قانوني يسمح بمحاكمة الأشخاص الذين كانوا على علم بالهجوم الإرهابي، ولكنهم اختاروا عدم الإبلاغ عنه، وربما يكون للردع تأثير إيجابي.

سادسًا- تأسيس "نظام إنذار" فعَّال لمراقبة التنظيمات الإرهابية الفاعلة والبنية التحتية بصورة مستمرة، وتوفير القدرة على التحذير من حدوث هجوم إرهابي وشيك. وتكمن أهمية شبكة الاستخبارات الفعّالة في التنبيه على الهجمات المخطط لها. وقد تكون المراقبة المستمرة لشبكات التواصل الاجتماعي من خلال التكنولوجيا والتعاون الدولي الوثيق بناء على أهداف مشتركة، ذات قيمة كبيرة لتحقيق هذه الغاية.

فعلى سبيل المثال، يجب على وكالات الاستخبارات تطوير مؤشرات وأجهزة استشعار جديدة لبعض الأنشطة، مثل شراء الأدوية أو المنظفات أو أي مواد يمكن استخدامها في إنتاج المتفجرات. فعلى الرغم من أن غالبية الهجمات في أوروبا خلال العامين الماضيين تم تنفيذها بوسائل بسيطة، إلا أن المتفجرات لا تزال السلاح المفضل للإرهابيين بسبب قدرتها على تحقيق خسائر جسيمة وصداها في وسائل الإعلام. ولهذا أشار التقرير إلى أن التحديات الاستخباراتية ستستمر في التنامي، ما دام الإرهابيون مستمرين في تطوير أدواتهم وعملياتهم. 

سابعًا- اللجوء للتكنولوجيا والتدابير الوقائية للحفاظ على أمن وسلامة النقل والطيران والتجمعات العامة، عندما تفشل جميع التدابير السابقة. وفي هذا الصدد، شدَّد التقرير على أهمية أمن المطارات الدولية، نظرًا لأن ضعف الأمن في مطار ما يُشكل تهديدًا للمطار ذاته وللطيران الدولي أيضًا. 

وانطلاقًا مما سبق؛ فإنه يمكن القول إن الإرهاب يمكن احتواؤه وليس القضاء عليه. ومن المتوقع استمرار تأثيره على حياة الملايين في جميع أنحاء العالم. وستعتمد الاستجابة له على ما إذا كانت الحكومات تتبنى استراتيجية شاملة وطويلة الأجل ومتسقة لمواجهة التحديات التي شكلها.

وخلُص التقرير إلى أنه يجب ألا تنطوي أي خطة لهزيمة تنظيم "داعش" أو غيره من التنظيمات الإرهابية الأخرى على الهزيمة العسكرية في ساحة المعركة، وتشويه سمعة التنظيم من أجل إضعاف معنويات قواته وخفض الدعم الشعبي والقدرة على إلهام أتباعه فحسب؛ وإنما ينبغي الأخذ في الاعتبار احتمالية تطور أبعاد التهديد الذي يُشكله التنظيم، بما في ذلك الهجمات الإلكترونية أو وقوع أسلحة كيميائية في أيدي أتباعه. وبالتالي، فإن تحديد الطبيعة النظامية للتنظيم والقدرة على تعبئة الذخائر والتمويل يُعد تحديًا رئيسيًّا في التعامل معه.

المصدر:

Eyal Tsir Cohen, “Pushing the Jihadist Genie Back into The Bottle: How to Counter the Ongoing Terrorist Threat”, Brookings Institution, May 2019.