تفكيك الطوائف:

هل يغير القانون الانتخابي الجديد خرائط التنافس السياسي في لبنان؟

26 April 2018


تستعدّ التيارات السياسية في لبنان للاستحقاق الانتخابي المفصلي المتمثل في الانتخابات النيابية التي تُجرَى في 6 مايو 2018 وفقًا للقانون الانتخابي الجديد الذي تم التوافق عليه في عام 2017. وعلى الرغم من التغير في القواعد التشريعية المنظِّمة للانتخابات؛ تظل خريطة القوى السياسية المتنافسة دون تغييرات جوهرية في ظل احتدام الاستقطاب الطائفي، مما يزيد من احتمالية إعادة إنتاج المشهد السياسي الحالي، وتشكيل مجلس تشريعي تهيمن عليه الانقسامات السياسية والطائفية.

جدل التشريعات الانتخابية:

توقّفت العملية الانتخابية في لبنان لفترة طويلة بعد عام 2009 لعدم القدرة على سنّ قانون انتخابي جديد، ورفض بعض القوى الرئيسية في النظام السياسي إجراءها وفقًا للقانون القديم ساري المفعول، يُضاف إلى هذا سبب آخر هو انخراط "حزب الله" بشكل مباشر في الأزمة السورية منذ عام 2013، وما أحدثه هذا التدخل من تداعيات على الساحة اللبنانية.

وفي هذا السياق، تم التمديد لمجلس النواب الأخير المنتخب ثلاث مرات متتالية، كانت المرة الأولى في عام 2013، والثانية في عام 2015، والثالثة في عام 2017.

وترجع أسباب عدم القدرة على صياغة قانون انتخابي جديد إلى تخوف كل طرفٍ من عدم قدرته على تأمين ما أطلق عليه "صحة التمثيل". فعلى سبيل المثال، رأى التيار الوطني الحر أن "صحة التمثيل" لا تتحقق إلا إذا انْتَخَبَ المسيحي والمسلم مرشحين من نفس ديانتهما.

فيما رأى "الكتائب اللبنانية" أن تحقق هذا الشرط يتم عن طريق تطبيق مبدأ "صوت واحد لرجل واحد" (one man one vote)، أي أنه لا يحق للناخب إلا انتخاب مرشح واحد، وطالبت القوى اليسارية بتطبيق النسبية، مؤكدين أن القانون النسبي أفضل وسيلة لتأمين عدالة التمثيل، وإنهاء الطائفية السياسية.

ملامح القانون الجديد:

أدى التوصل إلى تسوية رئاسية مع نهاية عام 2016 بانتخاب عون رئيسًا للجمهورية بعد 29 شهرًا من شغور كرسي الرئاسة، بالإضافة إلى رغبة "حزب الله" في هزيمة التنظيمات الإرهابية المتمركزة على الحدود اللبنانية-السورية؛ إلى التمهيد لصياغة قانون انتخابي جديد.

ومكنت المفاوضات المكثفة بين عدد من الوزراء: "جبران باسيل" عن التيار العوني، و"علي حسن خليل" عن الثنائي الشيعي، مع دخول متأخر لـ"جورج عدوان" عن القوات اللبنانية في 13 يونيو 2017، من التوصل إلى اتفاق متمثل يدمج عددًا من مقترحات القوى السياسية الكبرى، ويمكن توضيح أبرز ملامح القانون الانتخابي الجديد فيما يلي:

1- نظام التمثيل النسبي: يُعد "حزب الله" و"حركة أمل" من أبرز المطالبين بالنسبية، بيد أنها لم تُطبَق بالشكل الذي طالبوا به عن طريق جعل لبنان دائرة انتخابية واحدة، حيث تم تقسيم لبنان إلى 15 دائرة انتخابية، وبرر "نبيه بري" رئيس مجلس النواب هذه الخطوة بأن "هذا القانون أفضل الممكن، وإلا فكنا سندخل في أزمة مصير"، ولكنه صرح في أبريل 2018 بـ"أن هذا القانون خطر جدًّا، والأفضل أن تكون النسبية في لبنان دائرة واحدة".

ولقد ساهم "تيار المستقبل" في بناء هذا التوافق حول النسبية عبر سحب موقفه المتحفظ من تطبيقها في الوقت الحالي، والذي كان ينطلق من "أن لا نسبية في ظل السلاح"، أي قبل إيجاد حل لسلاح "حزب الله"، وصرح "سعد الحريري" رئيس الوزارء أكثر من مرة بأن أولوية الحكومة التي يرأسها هي إقرار قانون انتخابي جديد يتوافق عليه اللبنانيون، وذكر أن معيار نجاح حكومته هو قدرتها على صياغة قانون جديد.

2- الصوت التفضيلي الواحد: أُقِرَّ كذلك ما يُعرف بالصوت التفضيلي الذي يُتيح لكل ناخب اختيار مرشح واحد فقط من القائمة المغلقة التي سيصوت لها، وذلك تحت مبرر التدرج في تطبيق النسبية، وقد رأى البعض أن إدخال الصوت التفضيلي جاء لإرضاء القوى السياسية التي لا تزال تؤيد نظام الأكثرية. وفي هذا الصدد صرح "زياد بارود" (وزير الداخلية السابق، والمرشح المدعوم من قائمة التيار الوطني الحر) بـ"أن في هذا القانون ثغرات كبيرة، والنسبية الظاهرية يقابلها في الواقع نظام أكثري عبر الصوت التفضيلي الواحد".

3- أولوية الأقضية ضمن دوائر الانتخاب: وفي محاولة لطمأنة الأحزاب المسيحية، تم جعل صلاحية الصوت التفضيلي على مستوى القضاء، وليس على مستوى الدائرة الانتخابية التي تتألف من عدة أقضية، حيث طالبت غالبية القوى المسيحية في البداية بأن يصوِّت كل ناخب لمرشحين من مذهبه فقط، وهو ما أطلق عليه قانون اللقاء الأرثوذكسي، وذلك تخوفًا من أن يكون الصوت المسلم هو المرجح لاختيار ممثلي المسيحيين المنقسمين سياسيًّا بين فريقي 14 و8 مارس.

وقد أثار هذا المقترح جدلًا واسعًا، وكان أحد الأسباب الجوهرية لحدوث شرخ في تحالف قوى 14 مارس، إذ اعتبره البعض مخالفًا للدستور الذي ينص على مبدأ "العيش المشترك" القائم على التصويت المختلط المسيحي-الإسلامي بهدف الاندماج بين كافة الطوائف اللبنانية، وتشجيع وصول المعتدلين من كلا الطرفين.

أهداف غير مُعلنة:

يرى البعض أن هذه الانتخابات لا تهدف فقط إلى إيجاد مجلس نواب جديد؛ بل تسعى أيضًا إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الأخرى، مثل الاستجابة للمطالب الدولية، والتي عبرت عنها بشكل متكرر بيانات "مجموعة الدعم الدولية للبنان" التي أكدت أن المساعدات الدولية المقدمة للبنان لن يتم صرفها إلا لحكومة جديدة تُفرزها نتائج الانتخابات القادمة، وهو ما أدى إلى قيام بعض القوى السياسية بإيقاف محاولتها لإزاحة بعض القوى الداخلية، مثلما حدث مع "تيار المستقبل" مسبقًا، وتحول موقفه نحو دعم الانتخابات الحالية.

فيما يؤكد فريق آخر أن هذه الانتخابات تأتي لصالح بعض القوى، مثل "حزب الله"، لا سيما وأن "قانون الانتخابات" ملائم له حتى يأخذ بالانتخاب ما عَجَزَ عن أخذه بالسلاح، وهو ما يعترض عليه البعض، حيث يرون أن هذه الانتخابات ستخدم مشروع "تيار المستقبل" على المدى البعيد، وهو ما أكده تصريح "سعد الحريري" رئيس الوزارء اللبناني في 8 ديسمبر 2017: "الحل الوحيد يبقى هو الدولة، فحين تَقْوَى الدولة تَضْعُفُ كلُّ الأطراف الأخرى، ويُصبح كل الفرقاء السياسيين سواسية، حتى أولئك الذين يحملون السلاح"، يُضاف إلى هذا أن "تيار المستقبل" تَمَكَّنَ من تكوين شراكة مع التيار العوني الذي كان متعاونًا بشكل كبير في السابق مع "حزب الله"، وهو ما أدى إلى إثارة مخاوف "حزب الله" والدوائر المحيطة به.

خريطة التحالفات:

أثّر القانون الانتخابي الجديد على بناء التحالفات الانتخابية، حيث ظهرت فيها مجموعة من المظاهر الأساسية:

1- تحالفات براجماتية: تراجع البُعد الأيدلوجي في بناء التحالفات، كما قامت بعض القوى السياسية بالتحالف في دوائر انتخابية معينة، والتنافس في أخرى، فالهدف الأساسي لكافة القوى حصد أكبر عدد ممكن من المقاعد النيابية، مثل "التيار الوطني الحر" المتحالف مع "حركة أمل" في دائرة بعبدا، فيما يتنافسان في دائرة صيدا-جزين.

وفي هذا السياق، صرح "جبران باسيل" رئيس التيار الوطني الحر في أبريل 2018 في مهرجان انتخابي في عكار: "نحن تيار رئيس الجمهورية الذي هو على علاقة مع كل اللبنانيين، ونحن مثله نتكلم مع الجميع، التيار الوطني الحر هو الوحيد الذي استطاع التحالف مع الجميع".

من جانب آخر، توقّعت إحدى شركات الاستشارات والأبحاث "الدولية للمعلومات" أن عدد "المتمولين" سيصل في البرلمان القادم إلى 43 شخصًا، فيما وصل عددهم في البرلمان السابق إلى 25 فقط، ويُقصد بهم رجال الأعمال الذين تضمهم الأحزاب إلى لوائحها من أجل تمويل معاركها الانتخابية، دون أن يكون لهم انتماء حزبي حقيقي في كثيرٍ من الأحيان.

2- تفكيك الطوائف: ساهمت النسبية في تأجيج التنافس داخل الطائفة الواحدة، حيث أصبح بمقدور كل شخص الترشح بشكل مستقل بعيدًا عن لائحة طائفته، وذلك بالانضمام إلى لوائح المجتمع المدني (المستقلين)، وفي هذا الإطار تسعى كل طائفة لعدم تشتيت الأصوات، والحصول على أكبر عدد من المقاعد عن طريق صياغات خطابات حماسية، حيث لجأ "تيار المستقبل" إلى التحذير من تغيير هوية بيروت العربية، ودعوة الناخبين لعدم إفساح المجال للوصاية السورية بالعودة عبر مرشحين محسوبين عليها، بالإضافة إلى تكثيف الحملات الإعلامية والمهرجانات الانتخابية، وربما كان الأفضل لجوء هذه الأحزاب إلى استخدام أسلوب "طرق الأبواب" (Door-to-Door) الذي أثبت فعاليته في العديد من الانتخابات الغربية، حيث يقوم المتطوعون في الحملات الانتخابية بزيارة الناخبين.

3- تصاعد الاستقطاب: احتدم التنافس السياسي بين جمهوري "حزب الله" و"تيار المستقبل" على بناء التحالفات، لا سيما في بعض الدوائر مثل البقاع الشمالي، وإلى حد ما في دائرة البقاع الغربي، وقد أدى تصاعد الاستقطاب في دائرة البقاع الشمالي تحديدًا إلى تدخل "حسن نصر الله"، الأمين العام لـ"حزب الله" شخصيًّا، معلنًا أنه إذا لزم الأمر فسيقوم بجولات على الأرض بنفسه.

ومع صعود التنافس بهذا الشكل، سعت الأحزاب لدعم مرشحيها بكافة السبل، فعلى سبيل المثال عادةً ما توجد "ماكينة انتخابية" واحدة لكل حزب في الدائرة الانتخابية، ويُقصد بالماكينة الانتخابية الجهاز الحزبي الذي يهتم بمتابعة الانتخابات ومراجعة القوائم الانتخابية، والتأكد من صحتها، واحتساب الأصوات المحتملة، بيد أنه في هذه الانتخابات قام "تيار المستقبل" -على سبيل المثال- بإتاحة "ماكينة انتخابية" لكل مرشح على حدة، ففي دائرة بيروت الثانية يمتلك الحزب 11 مرشحًا أتاح لكل مرشح منهم ماكينة انتخابية لدعمه.

النتائج المتوقَّعة:

تُجمع معظم التوقعات على أن نتائج الانتخابات القادمة لن تشهد تغييرًا كبيرًا عن سابقتها رغم تغير النظام الانتخابي، وأن توزيع 128 مقعدًا سيكون متقاربًا مع التقسيم التالي:

1- تصدر "تيار المستقبل" و"التيار الوطني الحر"، حيث يتوقع حصولهما على ما يزيد على 20 مقعدًا فأكثر لكل منهما.

2- حصول كل من كتلة "القوات اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي"، على عدد متوسط من المقاعد، وكذلك "حزب الله" و"حركة أمل"، فقد يتراوح عدد مقاعدهم ما بين 10 إلى 15 مقعدًا لكل منهم.

3- حصول "حزب الكتائب" و"كتلة تيار المردة" و"الحزب القومي السوري" و"كتلة حزب الطاشناق"، بالإضافة إلى المستقلين على 5 مقاعد أو أقل لكل منهم.

ويمكن القول إنه لن تكون هناك أغلبية واضحة لفريق معين، وهو ما قد يؤدي إلى اللجوء إلى تشكيل حكومة ائتلافية شبيهة بالحكومة الحالية، مع احتمال ضم "حزب الكتائب اللبنانية" إليها.

تحديات ما بعد الانتخابات:

يواجه البرلمان الجديد عدة تحديات سياسية مهمة في مرحلة ما بعد الانتخابات، يمكن توضيحها فيما يلي:

1- الانتخابات الرئاسية القادمة: تتفق غالبية التوقعات في الداخل اللبناني على أن "سعد الحريري" سوف يتولى رئاسة الحكومة القادمة، مع تولي "نبيه بري" رئاسة مجلس النواب الجديد، فيما يظل هناك جدل حول رئيس الجمهورية القادم الذي سيقوم هذا المجلس بانتخابه، وهو ما يعني أن نتائج هذه الانتخابات سيكون لها دور كبير في تحديد الرئيس المقبل، ومن المرشحين المحتملين لهذا المنصب: جبران باسيل، وسليمان فرنجية، وسمير جعجع.

2- نزع سلاح الميليشيات: طالبت "مجموعة الدعم الدولية للبنان" بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم (1559) الذي ينص على سحب السلاح من الميليشيات، وهو ما دفع الرئيس "ميشال عون" لإعلان عزمه عن الحوار حول الاستراتيجية الدفاعية، وكرر هذا الإعلان في مارس 2018، كما أعلن الأمين العام لحزب الله "حسن نصر الله" في أبريل 2018 عن استعداد حزبه لمناقشة الاستراتيجية الدفاعية بعد الانتخابات، متسائلًا -في الوقت نفسه- عن مدى استعداد الفريق الآخر لمناقشة الملف الاقتصادي، ووضع رؤية اقتصادية، ومن ثم يجب على مجلس النواب أن يستعد لإدارة حوار داخلي حول الاستراتيجية الدفاعية.

3- الإصلاحات الاقتصادية: تعهدت الحكومة اللبنانية أمام الجهات الدولية الراعية لمؤتمر (سيدر-1) الذي انعقد في أبريل 2018 بالقيام بإصلاحات إدارية واقتصادية من أجل الاستفادة من الدعم المالي المقدم لها في هذا المؤتمر، وغالبًا ما ستواجه هذه الإصلاحات صعوبات، إذ إن هناك خلافات داخلية حول موضوعات، مثل: خصخصة قطاع الطاقة والكهرباء والنقل والمياه، وأساليب معالجة مشكلة البطالة، وكيفية تحفيز النمو، وخفض العجز في الموازنة العامة، وستجري كافة هذه المناقشات في مجلس النواب القادم في ظل عدم وجود رؤى اقتصادية متقاربة بين التيارات المختلفة.

ختامًا، تتقاطع التحديات الداخلية سالفة الذكر مع تعقيدات الوضع الإقليمي، لا سيما في سوريا، والتي ستكون لها انعكاسات بالضرورة على الوضع في لبنان، إذ يُرجَّح أن يتواصل الجدل حول انخراط "حزب الله" عسكريًّا في سوريا، وتداعيات الحرب الأهلية السورية على الداخل اللبناني، والضغوط الدولية والإقليمية المتصاعدة على لبنان بسبب الترابط الوثيق بين "حزب الله" وإيران، ودعمهما العسكري لنظام الأسد في سوريا.