أنقاض الرقة تذكِّر بالقوة العسكرية الأميركية

23 October 2017


مطالعة صور الشوارع الخربة المدمرة لما كانت في يوم من الأيام عاصمة «داعش» يذكّرنا بالقوة العسكرية القاسية، والفاعلة، والساحقة للولايات المتحدة الأميركية.

ولعلها تعد تقديراً للطبيعة الحتمية للقوة الأميركية، في حالة من أبرز حالات الإعلان عن ذاتها، لدرجة أن سقوط مدينة الرقة بهذه الطريقة لم يحرك إلا أقل القليل من المناقشات العامة خلال الأسبوع الماضي. وفي حين ركز المعلقون آراءهم حول ما إذا كان الرئيس دونالد ترمب قد هوّن من شأن آباء وأمهات المقاتلين الأميركيين الذين سقطوا في ميدان القتال، بيد أنه، وبالكاد، قد لفت انتباههم أن جيش بلادهم قد نجح في إنجاز هدف كان يبدو قبل ثلاث سنوات كغاية مضطربة وبعيدة المنال.

إن أكوام الركام وأنقاض المنازل التي كانت ذات يوم مأوى الإرهابيين وجلاوزة التعذيب تبعث برسالة واضحة وتنقل للأفهام درساً لا ينقصه الصواب، وهو حق وحقيقة مثل ما كان الأمر في عام 1945: من الخطأ والعبث استفزاز الولايات المتحدة. قد يستغرق الأمر من البلاد قدراً من الوقت للرد على تهديد من التهديدات، ولكن بمجرد دوران عجلات الآلة الأميركية العملاقة، فما من سبيل قط لإيقافها، ما دامت هناك إرادة سياسية فاعلة وراسخة تمهد لها الطريق وتفتح لها الأبواب.

إن حملة الرقة تذكرة ماثلة لشيء نادراً ما نبصره في هذه الأيام المثيرة للتشرذم والانقسام، ألا وهو استمرار احترام الولايات المتحدة لالتزاماتها المعلنة من عهد الإدارة السابقة إلى الإدارة الحالية. وبكل تأكيد، كان الأمر برمته مشروعاً مشتركاً وممتد الأثر والمفعول. ويستحق الرئيس ترمب نسب الفضل إليه في تسريع وتيرة الحملة ضد تنظيم داعش الإرهابي ومنح قادة الجيش الأميركي المزيد من السلطات والصلاحيات. بيد أن الاستراتيجية الأساسية - والإرادة الماضية لمقاومة ومحاربة الإرهابيين في المقام الأول- يُنسب الفضل فيها إلى الإدارة السابقة.

ولسوف يقوم الرئيس ترمب، الواثق من ذاته للغاية، بدعوة الرئيس السابق أوباما إلى البيت الأبيض للالتقاء مع القادة العسكريين والضباط والجنود العائدين من ساحة المعركة. ومن شأن هذه الاحتفالية أن تذكّر العالم بأسره أن الولايات المتحدة الأميركية قادرة على الوفاء بكلمتها رغم اختلاف الإدارات الحاكمة للبلاد. والرئيس ترمب، الذي لا يزال يساوره بعض القلق بشأن سلطاته، يبدو غير قادر - على نحو تام - على التحلي بهذا القدر من السخاء والكرم.

وبالنظر إلى بداية الحملة يمكننا أن نتذكر كيف كانت الأوضاع في منتهى الهشاشة في بادئ الأمر. كان اجتياح «داعش» مريعاً في صيف عام 2014، من اكتساح الموصل والاندفاع مثل الإعصار الأهوج عبر المناطق السُّنية في سوريا والعراق، حتى انهارت خطوط الدفاع وقتذاك، وبدت العاصمة الكردية أربيل في خطر داهم ومحدق، وكذلك كانت بغداد.

وطالب الرئيس السابق أوباما، كشرطٍ وضعه قبل التدخل العسكري الأميركي في المنطقة، أن تحصل بغداد على حكومة جديدة تكون أكثر مقدرة على كسب ثقة وولاء السكان السُّنة في البلاد. ولقد كان على حق في ذلك، ثم تحقق له ما أراد باستبدال حيدر العبادي بنوري المالكي في منصب رئيس وزراء العراق، والذي كانت قبضته تبدو أكثر رسوخاً وثباتاً عما توقعه المراقبون العراقيون في بداية الأمر.

ولما أعلن الرئيس أوباما عن هدفه بتحطيم ثم تدمير تنظيم داعش تماماً، بدا الأمر كأنه هدف حرب مشروطة وبليدة. ولم يساعد وقتها أنه لم يوافق أحد قط على مسمى العدو الذي يُعرف إعلامياً باسم «داعش» اختصاراً. وكانت الولايات المتحدة في أدنى درجات الحماس العسكري لشن هذه الحرب الجديدة بعد المعارك المطولة والمحبطة التي خاضتها ضد جماعات التمرد الإرهابية في كلٍّ من العراق وأفغانستان. 

وواجهت الحملة بداية بطيئة وغير مشجعة على الإطلاق. وطالبت العشائر العراقية الكائنة في وادي نهر الفرات بمساعدات من الولايات المتحدة، وكانت المساعدات متثاقلة في أول الأمر. وكانت الفوضى عارمة في صفوف الجيش العراقي حتى بدأ البرنامج الأميركي للتدريب على مكافحة الإرهاب في إظهار القوة القتالية الحقيقية. لكن، وعلى نحو تدريجي، وخفيٍّ في أغلب مراحله، تغيرت ملامح المعركة تماماً؛ إذ تمكنت القوات الجوية الأميركية من القضاء على عشرات الآلاف من جنود «داعش» وعناصره على الأرض، مع الطمس التام لكل من حاول إثارة أي إشارة ولو كانت رقمية. وكانت البيانات العسكرية الأميركية شحيحة ومقتضبة للغاية بشأن هذه الحملة القاسية، غير أن المقاتلين السوريين والعراقيين عاينوها معاينة المبصر الواعي، ولحق الناس كعهدهم بجموع المنتصرين.

وعبر مشاهدتي لمختلف ملامح هذه المعركة وهي تتبدى منكشفة خلال العديد من زياراتي إلى العراق وسوريا، وضعت إصبعي على عاملين مهمين كان لهما أبلغ الأثر في تغيير مجريات القتال: أولاً، وجود الحلفاء الملتزمين الذين اعتمدت عليهم الولايات المتحدة هناك. وكان الأكراد من أشرس المقاتلين وأكثرهم تمرساً، وأعني مقاتلي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني وميليشيات البيشمركة بحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، إلى جانب وحدات الحماية الشعبية الكردية في سوريا. لقد حافظوا ودافعوا عن مواقعهم وواصلوا القتال وسقط منهم الكثير من الرجال (وهذا الولاء الكردي جدير بالذكر والثناء الآن، في خضمّ متاعبهم وآلامهم الراهنة). ولقد توسعت رقعة التحالف المناهض لتنظيم داعش الإرهابي مع تعزيز قوات الجيش العراقي، فضلاً عن تجنيد المزيد من المقاتلين السُّنة على أيدي وحدات الحماية الشعبية الكردية، وضمهم إلى التحالف الموسع الذي حمل مسمى قوات سوريا الديمقراطية.

وتمخض النصر عن التحام هؤلاء المقاتلين مع القوة النيرانية الأميركية المهلكة. ويمكن للولايات المتحدة توجيه مختلف الضربات عبر مختلف المنصات: الطائرات الحربية المسيَّرة، والمقاتلات الحربية ثابتة الأجنحة، مع وحدات المدفعية المتقدمة. وخراب الرقة يجعل الأمر يبدو كأننا قد قصفنا كل شيء هناك، ويتعين على الولايات المتحدة إجراء تحليل ذاتي للخسائر المدنية في الأرواح خلال تلك الحملة الشعواء. ومن أفضل جسور العبور للمستقبل القادم هو اعتماد حد الأمانة والصدق مع الذات في تقدير التكاليف البشرية لهذه الحرب، ومسؤولية الولايات المتحدة عن الأخطاء التي لا بد أنها ارتُكبت في ضباب المعارك الضروس.

وتكمن المشكلة الحقيقية مع هذه الحملة في أنها منذ البداية كانت تستند إلى الهيمنة العسكرية المشيدة على أسس غير راسخة من القرارات السياسية. وهذا الأمر لا يزال صحيحاً حتى الآن. لم تكن هناك استراتيجية سياسية واضحة المعالم لدى الرئيس باراك أوباما لإقامة نظام إصلاحي ممتد في سوريا والعراق لما بعد سقوط «داعش»، ولا يملك الرئيس الحالي ترمب هذه الاستراتيجية كذلك. إن مؤسستنا العسكرية ذات فعالية فائقة في مجالات عملها من دون شك، غير أن مشكلات الحكم الدائمة على أرض الواقع، لا يمكن دوماً حلها بالوسائل العسكرية فحسب.

*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط