حسابات متداخلة:

أبعاد ومحركات الدور الأردني في الأزمة الليبية

22 January 2017


 دفعت أحداثُ المشهد الليبي المأزوم منذ سقوط نظام القذافي في عام 2011 الأردنَ إلى لعب دور أكثر فاعلية في مفاصله الداخلية، الزاخرة بالفرقة والاحتراب القبلي والعرقي والتدخل الخارجي الوازن، بدون أن يسهم اتفاق "الصخيرات" عام 2015 في تهدئة البؤر المشتعلة، بما يصعب معه استعادة لحمة الوطن في المستقبل القريب على الأقل.

 ورغم استناد الموقف الرسمي الأردني من التحولات الليبية إلى منظور المصلحة الوطنية العليا؛ إلا أنه أثار قلقًا لدى بعض القوى المحلية -وخاصة الإسلاميين- للاعتقاد بتخليه عن سياسة التوازن التي تنتهجها المملكة حيال قضايا المنطقة، صوب الانحياز لطرف دون الآخر، بدلا من التوسط بين فرقاء النزاع في ليبيا.

أبعاد الموقف وتطوره

في المجمل العام، يتسم الموقف الأردني من التحولات الليبية الجارية منذ ثورة 17 فبراير 2011، بالوضوح والعلنية، احتكامًا إلى سياسة الالتزام بتأييد خيارات الشعب الليبي، وتغليب لغة الحوار البيني، وضمان استتباب الأمن والاستقرار الداخلي، بما يؤسس لإعادة اللحمة الوطنية وبناء المؤسسية البنيوية في رحابها.

 فقد اصطف الأردن إلى جانب خيار الثورة الليبية، منذ اندلاعها ضد نظام معمر القذافي، فيما شكلت العاصمة عمان "محطة" وازنة لاستقبال شخصيات سياسية ليبية، تعبيرًا عن دعم المملكة لمساعي ليبيا في تشكيل أطر العملية السياسية، بأذرعها النيابية والحكومية، عبر التأييد العلني لأعضاء المؤتمر الوطني العام الليبي، واعترافه سابقًا بالمجلس الانتقالي الوطني الليبي ممثلا شرعيًّا للشعب الليبي، ومن ثم تأييد تشكيل الحكومة الليبية المؤقتة برئاسة عبدالله الثني.

وما لبث الأردن أن أيد عملية "الكرامة" التي أعلنها خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي في 16 مايو 2014، بهدف "تطهير ليبيا من الإرهاب والعصابات والخارجين عن القانون، والالتزام بالعملية الديمقراطية ووقف الاغتيالات"، وذلك في إطار موقف المملكة الداعم لجهود محاربة الإرهاب، والتصدي لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، لا سيما وأنه ينضوي ضمن "التحالف الدولي" بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لما يشكله التنظيم من تهديد غير تقليدي للأمن القومي الأردني.

بيد أن الأردن وهو يمضي قُدُمًا في تأييد جهود عملية "الكرامة" لصد الإرهاب الذي تغلغل بين ثنايا الصراعات الداخلية والتركيبة القبلية الليبية المعقدة، قد شغل موضع مباحثات ثنائية خلال استضافة عمان للقاءات متعددة مع حفتر، إلا أن المملكة أعلنت صراحةً عن موقفها المساند للاتفاق السياسي الليبي الذي عُقد برعاية أممية في مدينة الصخيرات المغربية في 17 ديسمبر 2015، وأنتج تشكيل المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، برئاسة فايز السراج. إذ أيد الأردن حكومة الوفاق خلال مشاركته في الاجتماع الوزاري الدولي حول ليبيا الذي عقد بروما في 14 ديسمبر 2015، بحضور القوى السياسية والمجتمعية الليبية المشاركة في حوار الصخيرات، ولكن لم يتم تشكيلها حتى اليوم لعجزها عن نيل ثقة البرلمان الليبي في طبرق شرقًا، في ظل خلافات حادة حول بعض مواد الشق الأمني في اتفاق الصخيرات، خاصة تلك التي تجعل اختصاصات تعيين المناصب الأمنية لمجلس الوزراء، بما أثار حفيظة تحالفات الشرق الليبي التي اعتبرته تهميشًا لقائد الجيش الوطني الليبي.

ملامح الدور وحدوده

انعكس الموقف الأردني من الأحداث الليبية على طبيعة دوره في ساحتها الداخلية، والذي تجاوز حدود الدعم الإنساني والدبلوماسي والأممي، إلى أبعاد عسكرية لوجستية وأمنية متعددة، لطالما شكلت موضع نفي رسمي لها، خلا الاكتفاء بالدعم الإنساني واللوجستي والمساعدات الاستشارية التدريبية فقط.

 وتعود بدايات هذا الدور إلى ثورة 17 فبراير، حينما قدمت القوات الأردنية الخاصة التي تتمتع بقدرات قتالية عالية، مساهمة ملحوظة خلال الحرب التي شنها حلف شمال الأطلنطي "الناتو" عام 2011، والتي أدت إلى بسط السيطرة على العاصمة (طرابلس)، ودخول قاعدة "العزيزية"، مقر العقيد الليبي الراحل، فضلا عن تنفيذها مع نظيرتها من القوات الدولية الأخرى عمليات ميدانية في مناطق ليبية مختلفة. وقد حظي هذا الدور، وما يزال، بإشادة الليبيين بموقف الأردن الداعم للثورة، ووقوفه إلى جانب الشعب الليبي منذ بداية اندلاعها.

وقد استمر الدعم الأردني، فيما بعد، وفق ما أفاد به موقع   "هافينجتون بوست عربي"، في 22 يونيو 2016، نقلا عن مصدر أمني لم تفصح عن هويته، من خلال "مشاركة القوات الأردنية في إدارة غرفة عمليات ضمن قوات دولية لدعم الجيش الوطني الليبي داخل قاعدة "بنينا" الجوية في مدينة بنغازي".

يتوازى ذلك مع ما كشفته من قبل صحيفة "الجارديان" البريطانية عن مذكرة مسربة من الكونجرس الأمريكي، في مارس 2016، نفى الديوان الملكي الأردني صحتها، تُفيد بتنفيذ قوتين أردنية وبريطانية عمليات عسكرية مشتركة في ليبيا، منذ بداية 2016، لقتال "داعش" ومنع سيطرتها على الحقول النفطية، وذلك ضمن الحملة العالمية التي تستهدف التنظيم، في ظل "حيوية دعم الجنود الأردنيين للقوات البريطانية ميدانيًّا في شمال ليبيا، نظرًا لتشابه اللهجة الأردنية المحكية مع نظيرتها الليبية، بما يعطي ميزة إضافية للقوات الأردنية على الأرض"، وفقًا لما أوردته الصحيفة.

ويستقيم هذا الأمر مع تصريحات أدلى بها عبدالله الثني رئيس الحكومة المؤقتة خلال زيارته لعمان في مارس عام 2015، حول تعاون مشترك لتنفيذ خطة إعادة هيكلة الجيش الليبي بالتنسيق مع الجيش الأردني، عبر لجان مشتركة، بهدف إعادة تشكيل الوحدات والكتائب العسكرية وتدريب القوات الليبية، فضلا عن الاستعانة بالخبرات والكفاءات الأردنية في المجال العسكري والحرب على الإرهاب، وسائر المجالات الاقتصادية والإدارية والنفطية والأمنية والعمرانية.

إلى جانب ذلك، تبرز مجالات أخرى للدعم الأردني، فقد احتضن الأردن، الذي يستضيف زهاء 35 ألف ليبي، أعدادًا كبيرة من الجرحى الليبيين، وقدم المساعدات الطبية والإنسانية للشعب الليبي، وكان سبّاقًا في إنشاء المستشفيات الميدانية وتجهيزها بالأطقم الطبية.

أما أمميًّا، فقد عطل الأردن، في 21 فبراير 2015 إبان عضويته في مجلس الأمن، صدور بيان عن مجلس الأمن حول ليبيا، يركز على ضرورة دعم المجتمع الدولي والدول الإقليمية لجهود المبعوث الأممي إلى ليبيا في دعمه للعملية السياسية وتشكيل حكومة وحدة وطنية من شأنها مكافحة ما يوصف بالإرهاب في ليبيا، ولكنه يخلو من رفع حظر التسليح عن ليبيا، وذلك خلافًا لمشروع القرار الذي قدمه الأردن سابقًا إلى مجلس الأمن تحت الفصل السابع، ويطالب بدعم مجلس النواب في طبرق، والحكومة المنبثقة عنه، ورفع حظر تصدير السلاح لها، وتسهيل عودتها إلى العاصمة طرابلس، إلا أن قطر وتونس والجزائر تحفظت عليه.

محركات أردنية

على الرغم من انتقاد أوساط سياسية محلية غير رسمية، من بينها قوى إسلامية كجبهة العمل الإسلامي، للموقف الأردني من التحولات الليبية، إزاء الاعتقاد بالخروج عن سياسة التوازن بين الفرقاء الليبيين، إلا أن للمملكة منظورها الاستراتيجي النابع من المصلحة الوطنية العليا، والذي يُعبِّر عن أولويتها المعلنة بوضوح حيال التصدي المضاد للجماعات الإسلامية المسلحة، سواء كان "القاعدة" أو "داعش" أو السلفية الجهادية أو حتى جماعة الإخوان المسلمين، ضمن أطر التنسيق الإقليمي والدولي، ذلك أن "داعش" بات يمثل توجسًا أردنيًّا، داخليًّا وخارجيًّا.

وترى بعض الآراء أن دعم الأردن لحفتر ينطلق من اعتباره ممثلا للشرعية في ليبيا، بحكم تعيينه قائدًا للجيش الليبي من قِبل حكومة منتخبة من البرلمان المعترف به دوليًّا، والذي يسعى جاهدًا إلى إعادة النظام والاستقرار إلى الساحة الليبية، وبالتالي فمن الطبيعي أن تقدم المملكة الأردنية خبراتها الفنية والتدريبية والعسكرية لقوات الشرعية هناك، في إطار حرصها على إنهاء الاقتتال، واستتباب الأمن والاستقرار في ليبيا. وتريد الأردن من خلال ذلك المحافظة على خطها التقليدي ضمن تحالفها التنسيقي مع السعودية والإمارات ومصر، سواء في ليبيا أو في ساحات أخرى من المنطقة.

ويحمل الموقف الأردني من التحولات الليبية جوانب اقتصادية معتبرة، وذلك أمام إمكانية فتح مجالات التعاون المشترك للاستفادة من مواطن الاستثمار، وتشجيع حركة الصادرات ومشاريع إعادة بناء الدولة وسوق العمالة الواسع هناك، فيما يدخل النفط في المعادلة الأردنية الصعبة، إزاء مسعى المملكة، من خلال مباحثات جرت في وقت سابق مع الحكومة الليبية المؤقتة لتأمين احتياجاتها من النفط ومشتقاته بأسعار تفضيلية.

خاتمة

من الصعب قريبًا حلحلة الأزمة الليبية، خاصة مع تعثر اتفاق الصخيرات، وميل موازين القوى لصالح حفتر نظرًا لسيطرته على الهلال النفطي، وتلقيه الدعم الروسي الذي برز في يناير 2017 إثر زيارة قائد الجيش الوطني الليبي لمتن حاملة الطائرات الروسية (الأميرال كوزنتسوف). بل وربما يستفيد حفتر من سعي إدارة ترامب لمكافحة الإرهاب في ليبيا. في وقت تواجه فيه العاصمة طرابلس بالغرب الليبي صراعًا بين الميليشيات المسلحة، وتقلصًا في نفوذ حكومة الوفاق.

 وقد يُسهم الدعم الروسي الأمريكي، المفترض، والذي يتقاطع مع الدور الأردني الفاعل في محطات ليبية حاسمة، في تعزيز سيطرة قوات حفتر على مساحات جغرافية ليبية إضافية، تدفعه إلى حسم المعركة عسكريًّا، في ظل ميل موازين القوى "الميدانية" الحالية لصالحه، بما قد يقوي شوكته سياسيًّا على حساب أطراف النزاع الأخرى في ليبيا.

ويصب ميل موازين القوى لحفتر في مصلحة دور أردني معتبر، سيتجاوز حينها خانة الدعم العسكري الأمني الفني اللوجستي، الحالي، إلى دور سياسي في إطار مسعى التهدئة واستتباب الأمن والاستقرار، ودور اقتصادي إزاء تطلع المملكة إلى مد جسور عوائد الاستثمار وفرص العمل والنفط بين خط الأردن وليبيا، فضلا عن الانخراط الأردني في المعركة الأوسع شمولا والمضادة لتنظيم "داعش" ضمن التحالف الدولي.