Public mood:

كيف يسهم "المزاج العام" في تغيير الشرق الأوسط؟

25 November 2016


يُعد رصد "المزاج العام" Public mood على درجة عالية من الأهمية لدى الباحثين، ومراكز استطلاعات الرأي، ودوائر صنع القرار، والأحزاب السياسية، داخل البلدان المختلفة في العالم، لما قد يُتيحه هذا الرصد من التعرف على مدى رضى الناس أو سخطهم عما هو مقدم لهم من قبل خطابات وسياسات الحكومات أو الأحزاب أو التيارات أو المؤسسات العامة. 

بل إن فهم ذلك المزاج العام يُسهم في التعرف على اتجاهات الرأي العام تجاه القضايا المختلفة، وكذلك يوفر إمكانية التنبؤ، سواء برد الفعل حال تبني سياسات بعينها، أو بمدى استقرار النظم الحاكمة في البلدان الديمقراطية أو غير الديمقراطية.

ويبدو تأثير تقلبات المزاج العام للجمهور في الكثير من التغيرات التي يشهدها العالم خلال السنوات الأخيرة واضحًا، فمن مزاج عام طامح وحاضن للتغير قبل الثورات العربية في منطقة الشرق الأوسط، إلى مزاج عام داعم للاستقرار يحن إلى الماضي، واستعادة الوضع القائم، بعد ما تمخض عن تلك التغييرات السياسية التي شهدتها المنطقة أزمات أمنية واقتصادية واجتماعية.

ولعل التغيرات التي تشهدها أوروبا والولايات المتحدة مؤخرًا تشكل بدورها مساحة أخرى هامة للالتفات إلى تأثير تغير المزاج العام على التغيرات الداخلية في البلدان أو على الصعيد الدولي. فصعود اليمين في عددٍ من البلدان الأوروبية، وحيازته مساحات كبيرة من التأييد بين قطاعات من الجمهور، مرورًا بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتهاءً بفوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية، كلها تغيرات تعبر -وفق كثيرين- عن صعود "مزاج عام ممتعض" إزاء ما هو قائم من أوضاع سياسية واقتصادية، وقلق نحو ما يشهده الغرب من تهديدات أمنية، بل وتشكك في قدرة السياسات القائمة والنظام الليبرالي الدولي والتكنوقراط والساسة المنتمين إلى المدارس السياسية التقليدية في تحسين الأوضاع القائمة، أو درء التهديدات القائمة أو المحتملة.

لقد أسهمت تلك التقلبات في المزاج العام في تشكيل رأي عام سلبي تجاه الكثير من القضايا، مثل: قضية اللاجئين، والهجرة، والمؤسساتية، والشراكات الدولية متعددة الأطراف، وتُرجمت كذلك في سلوك تصويتي بدا مثيرًا للاهتمام، كما في حالة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صاحب المنهج الانعزالي Isolationism، وهو ما قد يلقي باحتمالات تغير شكل النظام الليبرالي الدولي الذي ظل راسخًا عبر عقود منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

معنى المزاج العام وأنماطه

المزاج العام هو أحد أنواع "العاطفة الاجتماعية"، وهو المبدأ الذي تم تطويره من قبل عالم السيكولوجي "إليوت سميث" في منتصف التسعينيات، حيث التمييز بين الشعور الذي ينشأ بحكم وجود الفرد داخل جماعة، وليس في كونه عنصرًا مستقلا بذاته. وتعرف الأدبيات هذا المزاج العام بأنه انتشار حالة مؤثرة بين قطاعات من المواطنين نتيجة الخبرات التي يتشاركها هؤلاء بحكم عضويتهم في مجتمع سياسي وطني. وبالتالي، فالمزاج العام ليس انعكاس المزاج الشخصي للمواطن أو الفرد على الشأن العام، وهو ليس بحاصل جمع أو متوسط الأمزجة الخاصة بجموع المواطنين عبر الحياة اليومية لهؤلاء، ولكنه يتشكل ويتكون بين قطاعات واسعة من الجمهور نتيجة تشارك الخبرة، وبحكم الوجود داخل مجتمع سياسي، والتعرض والتأثر المشترك بأحداث سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.

هنا، ينبغي الإشارة إلى الاختلاف ما بين مفهومي "المزاج العام" و"الرأي العام"، فالأول هو معبر عن حالة عامة داخل المجتمع سلبية كانت أو إيجابية، يشوبها الرضى أو عدم الرضى العام، وإن كانت ليست موجهة تجاه قضية بعينها، أما الثاني، فهو معبر عن فكرة أو حكم على موضوع أو قضية أو شخص بعينه من قبل أفراد هذا المجتمع. وبرغم ذلك الفارق، يظل المزاج العام عنصرًا فاعلا في تشكيل اتجاهات الرأي العام للمواطنين تجاه القضايا المختلفة، ومن ثم مواقفهم السياسية العامة.

وتقسم الأدبيات أنماط المزاج العام إلى إيجابي وسلبي، إذ إنهما نتاج لحالتين سيكولوجيتين مختلفتين، ترتبطان بنظامين Subsystems داخل العقل البشري، وتلعبان أدوارًا مختلفة في تنظيم خبرات الأفراد وانفعالاتهم إزاء الخبرات أو الأحداث المشتركة داخل المجتمعات.

فهناك الحالة الإيجابية التي قد تتمثل في الشعور بالأمل، والإثارة، والتفاؤل، والحافز، والقدرة على إنجاز المهام. وفي المقابل، هناك الحالة السلبية، حيث الشعور بالإحباط أو عدم الرضى، أو الشعور بالحزن والقلق، أو عدم الارتياح والخوف، والغضب أو الإحباط. 

ولذا، فالمزاج العام داخل مجتمع ما قد يكون مزاجًا إيجابيًّا Positive Mood، أي معبرًا عن مشاعر مشتركة لأفراد المجتمع بالسعادة أو الفخر أو الأمل أو الأمان، أو الحافز في تحقيق إنجاز ما، أو قد يكون مزاجًا سلبيًّا Negative Mood معبرًا عن غضب، خوف، حزن، إحباط، أو قلق، أو عدم ارتياح.

عوامل تشكيل المزاج العام

بينما تقوم نظريات المزاج العام بالأساس على فرضية انتماء الأفراد إلى مجتمع سياسي، فإن غالبية الدارسين يتفقون على جملة من العوامل الرئيسية التي تؤثر في المزاج العام وتشكيله على النحو التالي:

أولا- عوامل سياسية واقتصادية: للأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية التي تمر بها المجتمعات تأثير كبير ورئيسي في تشكيل المزاج العام إيجابيًّا كان أم سلبيًّا. فالأزمات السياسية والاقتصادية قد تخلف لدى أفراد المجتمع شعورًا بالقلق أو عدم الارتياح، أو الخوف أو التشاؤم من المستقبل. كذلك فإن المخاوف الأمنية قد تؤدي إلى شعور عام لدى قطاعات واسعة من الجمهور بحالة من القلق أو عدم الارتياح. 

وعلى العكس، فإن حالة الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي قد تخلق لدى قطاعات واسعة من أبناء المجتمع حالة ارتياح، أو شعور بالأمل أو الأمان أو الحافز.

ثانيًا- وسائل الإعلام: لما كانت الأحداث السياسية والاقتصادية المختلفة يتم نقلها إلى الجمهور بشكل مباشر أو غير مباشر بعد معالجتها عبر وسائل الإعلام، فإن بعض الدراسات تشير إلى دور كبير لوسائط الإعلام التقليدي منها أو الحديث في تشكيل المزاج العام، حيث التعرض لنوعيات معينة من المعالجات والمضامين التي تقدمها وسائل الإعلام تؤدي إلى بناء وتشكيل تقييمات أو اتجاهات إما إيجابية أو سلبية لدى أفراد المجتمع، وتؤثر بدرجة رئيسية على المزاج العام السائد فيما بينهم في النهاية. 

وقد يلجأ الجمهور إلى وسائل إعلام بعينها لتغيير حالة مزاجية لديهم، أو للتوافق مع المزاج المجتمعي السائد، أو لتدعيم مواقفهم وتصوراتهم الشخصية، وتشكيل اتجاهاتهم نحو القضايا والمضامين المقدمة.

ثالثًا- منظومة القيم لدى أفراد المجتمع: غير أن بعدًا آخر ينبغي الالتفات إليه، وهو القيم السائدة داخل المجتمع، وهو بعد ذو تأثير هام على تشكيل المزاج العام. فمن ناحية، فإن القيم السائدة داخل المجتمع تؤثر على شكل استجابة أفراده للأحداث السياسية والاقتصادية، ومن ناحية أخرى تؤثر القيم تلك على تكوين الجمهور لانطباعاته، وإصداره الأحكام وتقييمه لما يتلقاه من معلومات عبر وسائل الإعلام، ومن ثم تبنيه مواقف بعينها إزاء ما يتلقاه، وهو ما يعزز بالفعل مزاجًا عامًّا قائمًا أو يغير هذا المزاج، وينعكس على مواقف سياسية تجاه السياسات العامة أو المسئولين أو النظام القائم المحلي أو الدولي أو قضايا بعينها.

قياس تغير المزاج العام

ويمكن رصد التغير في المزاج العام عبر آليتين للقياس والتحليل:

أولا- قياس ورصد ذات طبيعة أكاديمية: حيث إعداد نماذج علمية مختلفة للقياس والتحليل تقوم بالأساس على منهج كمي، حيث جمع المعلومات عن المزاج العام للجمهور بسؤاله مباشرة عبر استبيانات تحمل أسئلة لعينات من الجمهور حول ما يشعر به في إطار زمني معين، بالتوازي مع أو عقب تغييرات أو أحداث سياسية واقتصادية مؤثرة، أو عبر محاولة التعرف على مزاج الجمهور بتحليل مضامين تعبيره، مثل تحليل مشاركة قطاعات مثلا عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وفي كل نموذج، تختلف عملية القياس باختلاف طبيعة ومعادلة النموذج العلمي المتبع والمتغيرات والعناصر الواردة في تكوينها، وعينات الجمهور المستهدفة، وطبيعتها وأماكن توزيعها، ومعاملات التغير، ونسبة الخطأ.

ثانيًا- قياس ورصد ذات طبيعة سياسية: هناك آليات أخرى أقل تعقيدًا تستخدمها مراكز أبحاث واستطلاع للرأي يمكن وصفها بأنها ذات طبيعة سياسية أكثر من كونها ذات طبيعة أكاديمية، تنطلق من فرضية تأثير التغير في المزاج العام على المواقف السياسية للجمهور تجاه مجموعة من القضايا التي قد تكون كاشفة في فترات زمنية بعينها. 

وهكذا فإن اللجوء إلى استطلاع رأي المواطنين تجاه قضايا بعينها محل اهتمام مشترك لدى الجمهور قد تعطي مؤشرات حول حالة المزاج العام. أو قد يتم دراسة التغير في المزاج العام عبر تحليل التغير في السياسات العامة والخطاب السياسي للأحزاب والحكومات في حالة النظم الديمقراطية استنادًا إلى فرضية أن التغير في المزاج العام يتبعه بالضرورة تغيير في شكل السياسات أو نمط الحكم أو أفراده. 

وبالمثل، قد يتم رصد هذا التغير عبر رصد الشعبية التي تحظى بها الأحزاب والتيارات السياسية المختلفة، سواء تلك المعبرة عن المزاج العام القديم أو الجديد، أو عبر رصد شيوع أو تنامي سلوكيات اجتماعية ذات بعد سياسي داخل المجتمع. فحالة الإحباط مثلا قد تسبب حالة عدوان تجاه المجتمع، أو حالة عزوف أو لا مبالاة، أو قد تمثل نواة أو بيئة حاضنة لاحتجاجات.

وهنا تبرز أهمية المهارات الخاصة بالفاعلين السياسيين في التنبؤ بالتغير في المزاج العام أو ثباته، وهي مهارات قوامها الرئيسي الخبرة السياسية، ودرجة القرب والتواصل المباشر مع الجمهور، والامتداد الشعبي لهؤلاء الفاعلين السياسيين، والحس السياسي والقدرة على التنبؤ بتأثير الأحداث والتغيرات السياسية على المزاج العام للجمهور.

المزاج العام وآليات التغيير

بينما تُركز أغلب الدراسات التقليدية في مجال العلوم السياسية على محاولة فهم التغيرات السياسية الداخلية والخارجية استنادًا إلى تحليل لدور الفاعلين السياسيين أو البنية السياسية أو التفاعل ما بين العاملين، فإن نظريات المزاج العام تُشير إلى عدم اقتصار التغيرات السياسية على العاملين السابقين فقط، بل تمتد إلى بُعد سيكولوجي ضروري لا يمكن تجاهله في فهم تلك التغيرات. 

فالتغير في المزاج العام للمواطنين قد يتسبب في تغير مقابل للسياسات الداخلية والخارجية، وقد يتم هذا التغير عبر آلية من اثنتين:

(*) الآلية الأولى: آلية إحلال Replacement Mechanism: حيث إحلال السياسات القائمة أو المسئولين المنتخبين المرتبطين بحالة المزاج العام القديمة بسياسات جديدة أو بمسئولين منتخبين جدد، والذين تكون أجندتهم أكثر اتساقًا وقربًا من المزاج العام الجديد، وما قد يرتبط به من سياسات مفضلة وفق هذا المزاج الجديد. 

وفي حالة عدم أو وجود فاعلية للأطر التقليدية للمشاركة السياسية، فإن التغير السلبي في المزاج العام قد يولد بيئة حاضنة للاحتجاجات والتي قد تؤدي إلى عملية الإحلال في النهاية.

(*) الآلية الثانية: وهي متمثلة فيما تُسميه الأدبيات باسم التمثيل الديناميكي Dynamic Representation: حيث إن المسئولين المنتخبين يقومون بالاستجابة وفق رؤيتهم وإدراكهم تغير المزاج العام، ويتم هذا عبر إعادة صياغة أجندتهم وقرارتهم السياسية، بحيث تكون الأجندة الجديدة أكثر اتساقًا مع حالة المزاج العام الجديد، قبل أن يتجه العامة إلى تغيير إرادتهم عبر صناديق الانتخاب أو الاحتجاج.

ونتيجة لعملية الإحلال أو عملية التمثيل الديناميكي فإن تأثير التغير في المزاج العام لا يتوقف فقط على صياغة التطورات الداخلية، بل يمتد إلى السياسات الخارجية للبلدان عبر الآليتين نفسهما. وبالتالي فإن التغير الداخلي في المزاج العام قد تمتد تداعياته إلى التأثير على شكل النظام الدولي، خاصةً إذا كانت الدولة التي جرى التغيير الداخلي فيها ذات تأثير كبير على النظام الدولي، أو صاحبة دور في قيادته أو الإبقاء عليه.

المزاج العام والشرق الأوسط 

في محاولة فهم ديناميكيات التغييرات السياسية في بلدان الشرق الاوسط خلال العقد الأخير، لا يمكن تجاهل تأثير التغير في المزاج العام لدى الجماهير في صناعة تلك التغيرات التي شهدتها المنطقة. وبنظرة أولية واستنادًا إلى ما سبق يمكن تأسيس ارتباط بين تلك التغييرات وتأثير حالتين متناقضتين من المزاج العام؛ مزاج عام غير راضٍ عما هو قائم وحاضن للتغيير في مرحلة ما قبل الثورات العربية، وآخر نقيض رافض لهذا التغيير داعم للاستقرار يحمل حنينًا إلى الماضي خلال السنوات التالية لتلك الثورات:

(*) ما قبل العام 2011: مثلت حالة الركود السياسي التي عاشتها عدد من بلدان الشرق الأوسط، وما ارتبط بها من مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية، وحالة الانفتاح النسبي في وسائل الإعلام، واتساع نطاق تأثير وسائط الإعلام الاجتماعية التي سلطت الضوء على كثير من السلبيات داخل المجتمعات، ونجاح النخب السياسية المعارضة في توظيف تلك الوسائط لصالح الدعوة إلى التغيير - مزاجًا عامًّا سلبيًّا وحالة عدم رضى تجاه ما هو قائم من أوضاع سياسية ونظم حاكمة، وهي حالة دعمها في الوقت نفسه نفاذ قيم العولمة، ومقارنة أتاحتها وسائط التواصل الاجتماعي ما بين تقدم الغرب الديمقراطي والشرق الأوسط السلطوي. وقد ارتبطت تلك الحالة من المزاج العام بأمل وحافز نحو تحسين الأوضاع حال اتخاذ بلدن المنطقة خطوات جادة نحو التغيير.

وهكذا وجدت حالة الاحتجاج المتنامية في هذا المزاج العام -غير الراضي عما هو قائم والطامح للتغيير- تربة خصبة كي تتسع وتزدهر وتطالب بإسقاط النخب الحاكمة في بلدان الثورات العربية. وتوجت تلك الحالة -في النهاية- بسقوط النخبة الحاكمة في تونس ومصر واليمن وليبيا، ثم بما يُعرف في أدبيات المزاج العام بسياسة إحلال للنخبة الحاكمة، مثلما جرى في الحالة المصرية والتونسية بالصعود الانتخابي لتيارت الإسلام السياسي، متمثلة في حركة النهضة في تونس وحزب الحرية والعدالة في مصر، أو تمثيل ديناميكي مثلما سعت بعض الملكيات -كما في الحالة الأردنية أو المغربية- إلى إجراء إصلاحات سياسية سعيًا لاستيعاب التغيير، والتكيف مع المزاج العام الجديد.

(*) ما بعد 2011: غير أن السنوات التالية بما حملته من إخفاقات في بلدان الثورات العربية، والتي تمثلت في فراغ أمني، ونزاعات أهلية وطائفية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وبروز نمط جديد من الإرهاب والتمردات المسلحة متمثلة في داعش، وتحول المنطقة إلى ساحة للتنافس الإقليمي والدولي، وإخفاق النخب التي قادت عملية التغيير، كل هذه الأحداث أدت إلى خلق مزاج عام نقيض لما قبل 2011، يتسم بخليط من مشاعر القلق، والإحباط، والخوف من المستقبل، والحنين إلى الماضي، وفقدان الثقة في الساسة وقادة التغيير، ورفض أي تغييرات محتملة قد تُسهم في مزيدٍ من تدهور الأوضاع القائمة. 

وقد عزز من هذا المزاج صعود حالة إعلامية مقابلة لتلك الحالة الداعمة للتغيير قبل وأثناء الثورات سعت إلى التأثير في المزاج العام، وربط الأوضاع القائمة بنظريات المؤامرة.

وهكذا عادت كَرَّة الإحلال مجددًا في الدول التي توفرت فيها مسارات انتخابية، مثل الحالة التونسية والمصرية، حيث صعود الباجي قائد السبسي إلى الرئاسة في تونس كمعبر عن مزاج محافظ يميل إلى الاستقرار، ثم حيازة حزب نداء تونس الأغلبية البرلمانية، واستبدال حكومة النهضة بحكومة ائتلافية تجمع نداء تونس والنهضة. وفي مصر يبدو الأمر أكثر حدةً، حيث تمخضت عملية الإحلال عن الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين، واستبعادها من المشهد السياسي بمباركة شعبية، وانتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي، وتشكيل برلمان معبر عن نخبة مرتبطة بطموح في الاستقرار والمزاج العام الجديد.

هل تشهد المنطقة المزيد؟

على الرغم من أن المزاج العام في العديد من البلدان العربية اليوم هو مزاج يبدو سلبيًّا، يميل إلى الاستقرار خشية اتساع نطاق الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية في المنطقة، يظل من المحتمل أن تعزز الأزمات الاقتصادية التي تواجهها المنطقة لأسباب مختلفة، وما تلاها من إجراءات تقشفية في عدد من البلدان، الشق السلبي في هذا المزاج تجاه ما هو قائم. وفي حالة عدم وجود آليات للتجاوب مع هذا المزاج المتغير، تظل الاحتمالات مفتوحة حول مواقف وخيارات الجمهور، ما بين تمسك بالقائم خشية المزيد من تدهور الأوضاع، أو سعي لدورة أخرى من المطالبة بالتغيير عبر السعي نحو منطق إحلالي جديد.