معاقبة الديمقراطيين:

كيف تفسر تحولات التصويت فوز ترامب بالرئاسة الأمريكية؟

11 November 2024


على عكس ما ذهبت إليه استطلاعات الرأي قُبيل الانتخابات الأمريكية 2024 من التقارب الكبير بين المتنافسين على الوصول للبيت الأبيض، وأن الانتخابات سيتم الفوز فيها بشق الأنفس، حقق دونالد ترامب نجاحاً أكبر من المتوقع على حساب منافسته الديمقراطية كامالا هاريس. ولم يفز ترامب فقط بأصوات المجمع الانتخابي، لكنه فاز أيضاً في التصويت الشعبي بما فاق نجاحه في انتخابات عام 2016 (بالرغم من فوزه في انتخابات 2016؛ فإن المرشحة الديمقراطية آنذاك هيلاري كلينتون تقدمت عليه في التصويت الشعبي).  

وبعودته إلى البيت الأبيض مرة أخرى، يصبح ترامب أول رئيس أمريكي، بعد غروفر كليفلاند، في القرن التاسع عشر، الذي شغل منصب الرئيس الأمريكي الـ22 ثم الـ24، يفوز بولايتين رئاسيتين غير متتاليتين، والأكبر سناً عند انتخابه. ويصل ترامب إلى البيت الأبيض في الوقت الذي تمت فيه إدانته في تُهم جنائية، وما زالت قضايا جنائية أخرى قيد النظر، بالإضافة إلى النقد الذي وجه له على خلفية أحداث اقتحام "الكابيتول" من قِبل أنصاره اعتراضاً على نتائج انتخابات 2020. ولم تقتصر نجاحات الحزب الجمهوري على السباق الرئاسي، بل امتدت إلى الكونغرس بغرفتيه، حيث سيطر الجمهوريون على أغلبية مجلس الشيوخ، فضلاً عن تقدمهم حتى الآن في مجلس النواب؛ مما سيؤدي إلى أغلبية جمهورية فيه أيضاً. 

ولسنوات مقبلة، سيهتم منظرو النظم السياسية والعلاقات الدولية بتحليل نتائج الانتخابات الأمريكية 2024، في ضوء التحولات التي تشهدها الساحة السياسية والحزبية والاجتماعية الأمريكية، ووضع ذلك في إطار أعمق حول التحديات التي تواجه الأنظمة الديمقراطية، وتداعيات نتائج هذه الانتخابات على مستقبل النظام الليبرالي العالمي. وتسعى هذه المقالة إلى تقديم قراءة لنتائج الانتخابات الأمريكية، وأسباب فوز ترامب والجمهوريين، وتداعيات ذلك. 

تغير اتجاهات التصويت: 

يظهر من القراءة الأولية لنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حدوث تحولات في اتجاهات تصويت الناخبين، كما يلي: 

1- زيادة ترامب حصته من الأصوات في معظم الولايات: وفقاً لصحيفة "فايننشال تايمز"، نجح ترامب في زيادة حصته من الأصوات في كل الولايات الأمريكية باستثناء ولايتي يوتا وواشنطن، مقارنةً بانتخابات عام 2020. فبجانب فوزه بالولايات التقليدية التي تُعد معقل الجمهوريين، فاز ترامب في الولايات السبع المتأرجحة التي مثلث ساحة المعركة الأساسية في هذه الانتخابات؛ وهي: أريزونا وجورجيا وميشيغان ونيفادا ونورث كارولينا وبنسلفانيا وويسكونسن، والبعض منها طالما صوت للديمقراطيين من قبل لذا تُعرف بولايات "الجدار الأزرق". بل قلص ترامب الفارق بينه وبين هاريس في المعاقل التقليدية للديمقراطيين مثل: نيويورك وكونيتيكت ونيوجيرسي، كذلك تمكن من زيادة حصته من أصوات المقاطعات الحضرية والمدن الكبرى "المتروبولية" التي طالما كانت قاعدة للحزب الديمقراطي خاصةً في ظل تحول المناطق الريفية إلى اليمين.

2- تحولات في نمط تصويت الأمريكيين من أصول لاتينية وإفريقية والرجال والشباب: يمثل الأمريكيون من أصل إفريقي ولاتيني قاعدة الحزب الديمقراطي، لكن أظهرت نتائج الانتخابات الحالية أن سياسات الهوية والحتمية العرقية التي طالما اعتمد عليها الحزب آخذة في التصدع. فقد حقق ترامب مكاسب ملحوظة لدى الناخبين من أصل لاتيني وإفريقي، خاصةً الرجال. فعلى عكس انتخابات 2020 التي حصل فيها بايدن على دعم الأمريكيين من أصل لاتيني بفارق 23 نقطة، استطاع ترامب –ولأول مرة- الفوز بأصواتهم. ويرى البعض أن ترامب تمكن من توسيع قاعدته التصويتية وإنشاء تحالف متعدد الأعراق من الطبقة العاملة، يتخطى الطبقة العاملة البيضاء التي تمثل القاعدة الانتخابية الأساسية للحزب الجمهوري. 

وامتدت التحولات في السلوك التصويتي إلى الشباب أيضاً، خاصةً الرجال منهم. فعلى مدى السنوات العشرين الماضية، صوت الشباب الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً بشكل كبير لصالح المرشحين الديمقراطيين، ولكن استطاع ترامب في هذه الانتخابات زيادة أعداد الناخبين الشباب المؤيدين له من 35% عام 2020 إلى 42% هذا العام، وتزيد النسبة بين الشباب البيض وغير الحاصلين على مؤهل جامعي. 

3- بروز بعض الانقسامات على أساس النوع: بتركيزها على قضايا الإجهاض والحقوق الإنجابية، سعت هاريس لزيادة حصتها من أصوات النساء، لكن لم ترتفع حصة النساء من إجمالي الأصوات إلا بشكل هامشي عن مستواها عام 2020، ولم ترتفع حصة هاريس من النساء اللاتي أدلين بأصواتهن عن مستويات بايدن في الانتخابات السابقة. في المقابل، نجح ترامب في زيادة حصصه من تصويت الرجال في المجموعات الديمغرافية المختلفة، وذلك في الوقت التي أظهرت فيه استطلاعات الرأي اعتقاد ثُلث الرجال المؤيدين لترامب أن النساء حققن مكاسب على حساب الرجال، وترتفع هذه النسبة في الرجال الأصغر سناً. 

أسباب فوز ترامب:

تتعدد أسباب فوز ترامب في الانتخابات الحالية، وتناولها يستدعي أيضاً تحليل أسباب هزيمة هاريس والديمقراطيين. وفيما يلي قراءة أولية لهذه الأسباب من خلال التمييز بين ثلاثة مستويات هي: القضايا، والتكتيكات الانتخابية، والتغيّرات الهيكلية التي يشهدها النظام الأمريكي، على النحو التالي:

1- الموقف من القضايا الرئيسية: استفاد ترامب من استياء قطاعات واسعة من تعامل إدارة بايدن مع عدة قضايا، خاصةً التضخم والهجرة، في الوقت الذي لم تستطع فيه هاريس النأي بنفسها عن إرث بايدن الثقيل، وتقديم رؤية وسياسات بديلة. وفيما يلي عرض لبعض هذه القضايا المحورية: 

أ- الاقتصاد والتضخم: أكدت هذه الانتخابيات استمرارية أهمية الاقتصاد كمحدد لسلوك الناخب الأمريكي يميناً أو يساراً. فعلى عكس ما ذهب إليه الديمقراطيون من تحسن مؤشرات الاقتصاد، خاصةً معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي ومستويات التوظيف، رأى نحو ثُلثي الناخبين -وفق بعض استطلاعات الرأي- أن الاقتصاد الأمريكي في حالة سيئة؛ نتيجة لارتفاع مستويات التضخم مما أدى إلى تآكل دخل الأسر وقوتها الشرائية. وقد أثر عدم الرضا عن إدارة بايدن للاقتصاد في معظم المجموعات الديمغرافية بطريقة متجانسة إلى حد ما. واستفادت حملة ترامب من ذلك، وهاجمت إدارة بايدن، بل قام ترامب بالتلويح بحوافز مالية كإلغاء ضريبة الدخل على الإكراميات والعمل الإضافي والضمان الاجتماعي لكبار السن.  

ب- الهجرة: تُعد الهجرة واحدة من القضايا المهمة لقطاع من الناخبين الأمريكيين، وروج ترامب لخطاب يربط بين تدفق المهاجرين عبر الحدود الجنوبية للولايات المتحدة من ناحية، وتدهور الوضع الاقتصادي وانتشار الجريمة وتغير نمط الحياة من ناحية أخرى. وأيضاً قدّم نفسه باعتباره قادراً على التصدي للهجرة وتعزيز الأمن، على عكس إدارة بايدن التي شهدت زيادة في تدفقات الهجرة. 

ج- مستقبل الديمقراطية: كانت من أبرز ملامح الحملة الانتخابية لهاريس التركيز على تأطير عودة ترامب للبيت الأبيض بحسبانها خطراً وتهديداً للمؤسسات الديمقراطية، كالإشارة مثلاً إلى "مشروع 2025" الصادر عن مؤسسة التراث الجمهورية (Heritage Foundation)، والذي يسعى لإعادة تشكيل الحكومة الفدرالية، وهو ما نفى ترامب علمه به. كما وصفت هاريس منافسها ترامب بـ"الفاشي"، وأنه يهدد حكم القانون وغيره. لكن هذا التأطير ليس بجديد ليؤثر في الناخبين المتأرجحين، وواجه اتهاماً مضاداً من قِبل الجمهوريين بأن الحزب الديمقراطي هو من يمثل خطراً على الديمقراطية. 

د- الإجهاض والحقوق الإنجابية: ركزت هاريس في حملتها الانتخابية على قضية الإجهاض والحقوق الإنجابية، سعياً لحشد النساء للتصويت لها، وهذا ما لم يحدث كما سبقت الإشارة، حيث لم ترتفع حصتها من تصويت النساء عما كان عليه الأمر في الانتخابات التي فاز بها بايدن عام 2020. وأظهرت نتائج الانتخابات الحالية أن مثل هذه القضايا أقل أهمية مقارنةً بالاقتصاد لحشد الناخبين.

وفي نهاية المطاف، كان لتركيز ترامب على الاقتصاد والهجرة صدى كافٍ لدى عدد كبير من الأمريكيين، أكثر من الرسالة التي وجهتها هاريس المحذرة من عودة ترامب.

2- التكتيكات الانتخابية: نجح ترامب في الوصول إلى دوائر موالية تقليدياً للديمقراطيين، كالناخبين من أصل لاتيني، وإفريقي، والشباب وأعضاء النقابات وغيرهم. واستطاع أيضاً استخدام وسائل الإعلام التقليدية كالبرامج الحوارية، وغير التقليدية مثل: "البودكاست" وغيرها، في الوصول للناخبين. 

في المقابل، تعددت مشكلات حملة هاريس منذ بدايتها. فتأخر بايدن في الإعلان عن انسحابه من السباق الانتخابي، قلّص الفترة الزمنية المتاحة لهاريس، ناهيك عن انخفاض شعبية إدارة بايدن؛ مما أثقل كاهل حملتها الانتخابية. وقد جعلت خيارات هاريس التكتيكية مشاكلها أسوء، كالتالي:

أ- لم تستطع هاريس فصل نفسها عن إدارة بايدن كنائبة الرئيس. ففي أوائل أكتوبر الماضي، عندما تم سؤالها ما الذي كانت ستفعله بشكل مختلف عن بايدن، أجابت أنه لا يوجد ما يتبادر إلى ذهنها وأنها كانت جزءاً من معظم القرارات المؤثرة.

ب- ركزت هاريس في حملتها الانتخابية على ترامب، وغابت قدرتها على صياغة رؤية لمستقبل الولايات المتحدة وتقديم سياسات بديلة تختلف عما قدمه بايدن. فلم يكن لها سياسة واضحة للتعامل مع العديد من القضايا حتى أطلق عليها البعض أنها "مرشحة لا تعليق". 

ج- تخلي هاريس عن الأجندة التقدمية وسعيها للتودد إلى ناخبي الوسط والجمهوريين الرافضين لعودة ترامب، أفقدها القاعدة الشعبية الأساسية للحزب الديمقراطي من الناخبين الشباب والعرب والمسلمين، وغيرهم. فلم تفعل الكثير لجذب الشباب والتركيز على مشكلاتهم الخاصة بالاقتصاد وارتفاع تكاليف المعيشة، على سبيل المثال. 

د- يعتقد البعض أن اختيار هاريس لتيم والز كمرشح لنائب الرئيس هو أمر جانبه الصواب، ولم يساعدها على جذب مزيد من الناخبين.

3- التغيرات الهيكلية التي يشهدها النظام الأمريكي: من هذه التغيرات ما يلي: 

أ- أظهرت معظم استطلاعات الرأي تزايد عدم الرضا حول الوضع القائم في الولايات المتحدة، حيث يرى المواطن الأمريكي أن البلاد لا تسير على الطريق الصحيح. 

ب- يعاني الحزب الديمقراطي من أزمة أعمق من مشكلات حملة هاريس الانتخابية أو بايدن قبلها، حيث فقد الحزب الطبقة العاملة البيضاء، ويتسع الأمر؛ إذ بدأ يفقد تدريجياً قاعدته الانتخابية من الأمريكيين من أصول لاتينية وإفريقية ومن الشباب وغيرهم، كذلك قاعدته في المناطق الحضرية والمدن الكبرى؛ لذا فإن الحزب الديمقراطي يعاني من أزمة هوية ويحتاج رؤية لمستقبله. ويضع البعض ذلك في إطار أعم تعاني فيه الأحزاب اليسارية من صعود تيارات اليمين المتطرف الشعبوية وعدم قدرتها على مواجهتها. 

ج- هناك من يفسر نتائج الانتخابات في ضوء التغيرات التي طرأت على المجتمع الأمريكي من تدني مستويات الثقة الاجتماعية، وتآكل تنظيمات الطبقة العاملة والمجتمع المدني التي مثلت داعماً مهماً للديمقراطية الأمريكية. 

تداعيات داخلية وخارجية:

من المؤكد أن لفوز ترامب تداعياته على الداخل الأمريكي، خاصةً مع سيطرة الحزب الجمهوري على الكونغرس بمجلسيه؛ مما يطلق يد ترامب إلى حد كبير ويُمكنه من التصديق على تعييناته وتمرير قراراته دون عرقلة. 

ولا تقتصر انعكاسات نتائج الانتخابات الحالية على الداخل الأمريكي فقط، لكن تمتد لتطرح تساؤلات عدة عما ستؤول إليه السياسة الخارجية الأمريكية في ظل تبني ترامب لاتجاه انعزالي، وتشككه في جدوى التحالف الأطلسي، واتجاهه نحو الحمائية التجارية، وموقفه من الصين والحرب الروسية في أوكرانيا. فضلاً عن عدم اليقين حول موقفه من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ولبنان، والصراع الدائر حالياً في الشرق الأوسط. فخلال حملته الانتخابية، تعهد بإنهاء العنف وإعادة السلام إلى المنطقة، وإن كان ذلك دون تقديم أي تفاصيل، وفي الوقت نفسه أكد ضرورة السماح لإسرائيل بما وصفه "إنهاء المهمة" في غزة؛ مما يفتح الباب لتأويلات مختلفة ويثير العديد من التساؤلات.