"أقصدة" الطبيعة:

فرص نموذج "الابتكار الاقتصادي" في تنمية المحيطات

12 March 2024


عرض: منى أسامة

منذ قديم الأزل، تُعد المحيطات مخزناً للفرص والاستثمار على مستوى الأفراد والدول. وفي تقرير للأمم المتحدة عام 2015، قدرت بيليانا سيسين-سين، رئيسة المنتدى العالمي للمحيطات أن قيمة النشاط الاقتصادي العالمي المرتبط بالمحيطات تتراوح بين 3 إلى 6 تريليونات دولار تشمل طرق التجارة العالمية البحرية، ومرور الكابلات البحرية للاتصالات العالمية، ومصائد الأسماك وتربية الأحياء المائية، علاوة على حقول النفط والغاز البحرية. ومع تنامي الاهتمام بجوانب التنمية المستدامة، يفترض كثيرون أن للمحيطات والبحار جوانب بيئية بالإضافة إلى أهميتها الاقتصادية والاجتماعية. 

في هذا السياق، تستكشف الباحثتان كريستين أسدال وتون هيوز في كتاب "اقتصاد من صنع الطبيعة: سمك القد، ورأس المال، والاقتصاد الكبير للمحيطات"، كيف تم تسخير المحيط ليصبح مساحة لاستثمار رأس المال والابتكار، وكيف تتفاعل الطبيعة مع الاقتصاد سواء بالمقاومة أم التكيف أم تغيير الاقتصاد، واعتمدت الباحثتان على أدوات متعددة مثل: الخرائط، ووثائق السياسات، والمتطلبات الغذائية لتعزيز النزعات البيولوجية للأنواع. 

ويسلط الكتاب الضوء بشكلٍ خاص على نموذج "سمك القد" في النرويج، علماً بأن أكبر مخزون في العالم من هذا النوع من السمك يوجد في البحر النرويجي في المحيط الأطلسي الشمالي، وقد أدى هذا المخزون الضخم دوراً في استمرار حياة الأفراد على طول الساحل لفترة طويلة، وبطرق عديدة، وعبر مناطق جغرافية شاسعة ليس فقط كغذاء، لكن أيضاً كسلعٍ تجارية.

إطار مفاهيمي:

تفترض المؤلفتان أن الاقتصاد هو نتيجة لعملية "الأقصدة" (economization)، وهو مصطلح في الدراسات الاجتماعية للأسواق يعني السيطرة التدريجية والشاملة على كافة مجالات السياسات من خلال الاهتمام بالاقتصاد ورفاهيته وتنميته، مثل: النمو والإنتاجية والميزان التجاري. والمراد من "أقصدة" الطبيعة دمج الطبيعة في الاقتصاد، ولتحقيق ذلك يستعرض الكتاب مجموعة مفاهيم خاصة بالدراسات الاجتماعية للأسواق ودراسات التقييم: 

• أدوات صغيرة: تشير إلى الكيانات أو التقنيات أو المصنوعات المادية التي تكون صغيرة في ذاتها وتعمل محلياً، لكنها تُدمج مع أدوات أخرى شبيهة كجزء من آليات وأجهزة أكبر ما يجعلها تؤدي دوراً حاسماً.

• أدوات التقييم: وهي تؤدي عمليات التقييم، والتي يمكن إجراؤها بعدة طرق مختلفة، سواء حسابية (مثل: الأرقام وتقديرات النمو والأسعار) أم نوعية ومعيارية أم أدوات مادية (material-semiotic tools) كالعلامات المميزة والخرائط والعلامات التجارية. علماً بأن الكيفية التي يتم بها التقييم هي أمر مفتوح للتحليل التجريبي، فقد تكون أدوات التقييم جزءاً من "الأقصدة" وقد لا تكون، وقد تجمع بين أدوات سياسية وأدوات علمية في نفس الوقت.

• ترتيب التقييم: يتعلق بكيفية تنظيم التقييمات المختلفة، بما في ذلك أدوات التقييم. ويمكن أن يتم ذلك من خلال ترتيبات مادية رسمية وغير رسمية؛ أي عن طريق تنسيقات يتم إعدادها من جهات فاعلة في السوق وهيئات الدولة.

• طلبات القيمة: يشير هذا المفهوم إلى استقرار التقييم من خلال سلسلة من الإجراءات مثل نظام تراخيص التنقيب عن النفط واستخراجه.

• رأس المال الحيوي (BIOCAPITAL): يعني أن تصبح الكائنات البيولوجية جزءاً من رأس المال الاستثماري، كمشروعات تدجين الحيوانات والاستزراع السمكي.

• الرسملة الحيوية (BIOCAPITALIZATION): وتعني الممارسات المتبعة الهادفة إلى تحويل كائن بيولوجي إلى جزء من رأس المال الحيوي، مما يدل على أن الطبيعة والأحياء لا تكونان أبداً رأسمال حيوي بشكل مباشر في الطبيعة، ولكن يجب تحويلهما إلى رأسمال حيوي، عبر سلسلة من الأدوات والممارسات والعمليات المختلفة.

اقتصاد المحيطات:

حتى الحرب العالمية الثانية، لم يكن قاع البحر العميق يُعد مورداً اقتصادياً، أو مكاناً لاستثمار رأس المال. لكن اكتشافات حقول النفط عظمت المكانة الاقتصادية للمحيطات. بناءً عليه، أصبحت المحيطات، التي كانت مخصصة للبحارة والصيادين، مكاناً مزدحماً بصناعات عديدة. وتملك المنظمات الدولية مثل: منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والاتحاد الأوروبي، والدول كالنرويج والولايات المتحدة وكندا والصين استراتيجيات خاصة لكيفية الاستفادة بالاقتصاد الأزرق، أي الاستخدام المستدام للموارد المائية والحفاظ عليها.

يلقي الكتاب الضوء على التوترات التي نشأت نتيجة تنافس مصايد الأسماك والتنقيب عن النفط في ذات المناطق بالمحيط، فعلى سبيل المثال، عندما بدأت عمليات التنقيب في بحر الشمال بالستينيات من أجل الوصول إلى حقول النفط والغاز، أدى ذلك إلى نشوب "صراع النفط-الأسماك" وذلك نتيجة تسبب اختبارات الزلازل الخاصة بعمليات استكشاف النفط في هروب سمك القد من هذه المنطقة. علاوةً على خوف الصيادين من حدوث أضرار بيئية تؤثر في أعداد الأحياء البحرية (كالتسرب النفطي للناقلة العملاقة أموكو كاديز قبالة ساحل بريتاني بفرنسا في عام 1978، والتسرب النفطي للناقلة العملاقة إكسون فالديز في ألاسكا في عام 1989).

نتيجة لذلك، أنشأت النرويج (كإحدى الدول المطلة على بحر الشمال) حدوداً جديدة لقاع المحيط في عام 1965، إذ تم ضم أجزاء ضخمة مما كان في السابق قاع بحر دولي، بما في ذلك موارده الأساسية، إلى الأراضي السيادية للنرويج. وبعد ذلك، تمت إعادة ترتيبها عن طريق هيكل شبكي جغرافي مناسب لحقوق الترخيص للتنقيب عن النفط واستخراجه. وفي عام 1977، نجحت النرويج في المطالبة بحدود جديدة لما يسمى بعمود الماء، ووسعتها من 12 ميلاً بحرياً من الشاطئ إلى 200 ميل بحري. وعلى عكس توسيع حدود قاع البحر، فإن هذا لم يترتب عليه توسيع أراضي الدولة. وبدلاً من ذلك، تم اعتبارها "منطقة اقتصادية خالصة" تسيطر عليها الدولة. وبذلك أصبحت النرويج قادرة على تنظيم عملية استخراج الموارد البحرية الحية من هذه المنطقة، مثل أسماك القد.

أدت الخرائط دوراً كبيراً في تنظيم "صراع النفط-الأسماك" في النرويج، فعلى سبيل المثال، تُظهِر خرائط الجرف (the shelf map)، والتي نشرت أول مرة في عام 1965 ويتم تحديثها بانتظام، أين ومن يقوم بالتنقيب عن النفط واستخراجه على طول الجرف القاري النرويجي. كما أشار الكتاب إلى مقترح "صندوق النفط-الأسماك" الهادف إلى تزويد الصيادين بالتعويضات الاقتصادية جراء التنقيب عن النفط، مع إبقاء مسألة التعويضات خارج النظام القانوني وداخل الإجراءات السياسية.

استزراع سمك القد:

ترتبط سمكة القد بتاريخ دولة النرويج، على اعتبار أنها أهم مورد لمصايد الأسماك منذ آلاف السنين. وكبقية الأحياء البحرية، قد تزيد أو تنقص أعداد هذا النوع من السمك في المصايد الطبيعية، بسبب الصيد الجائر، مما دفع النرويجيين إلى ضرورة السيطرة على مخزونات سمك القد. في هذا الصدد، يشير الكتاب إلى أن استئناس هذه السمكة المحيطية أمر بالغ الصعوبة، ولاسيما أنها من الكائنات العليا في سلسلة الغذاء.

مع ذلك، هناك جهود حثيثة لاستزراع سمك القد في أحواض والتعامل مع الجوانب السلوكية للسمك المستأنس لجعله جزءاً من رأس المال الحيوي، إذ قام العلماء بتكييف أساليب إنتاجهم مع سمكة القد لإيجاد طرق لجعلها تنمو من حيث العدد والكتلة الحيوية لكن بتكاليف أقل. إلا أن الكثير من هذه الأسماك المستأنسة تحاول الهرب أو التغذي على أقرانها، مما يجعل إمكانية تكوين رأس المال الحيوي من سمك القد على المحك (أي معرضة للنجاح أو الفشل).

بناءً عليه، يفترض الكتاب أن مساعي نمو المحيطات في إطار ترتيب التقييم (value ordering) لم تكن سهلة، إذ شهدت فشلاً وصعوبات وتعطيلاً وأمراضاً ومشكلات بيئية كبرى، أي أنها أكثر من مجرد نظام جديد. لذلك يقترح الكتاب أن يتم إدراج الطبيعة في دائرة السياسات عن طريق اعتبار الطبيعة كياناً يتمتع بقدرة تحمل معينة ونظام إنتاج معين ونظام بيئي معين. 

استيعاب الطبيعة في الاقتصاد:

يشير الكتاب إلى أنه في حين خضعت الاتجاهات الجديدة في التفكير الاقتصادي لفحص شامل ونقدي، إلا أن اقتصاد الابتكار لم يحظ بنفس الاهتمام برغم أنه يمثل التحول الحقيقي للاقتصاد النيوليبرالي، إذ يركز على ريادة الأعمال، ويشمل تطبيق أي نوع من الابتكارات، خاصة التكنولوجية في النواحي الاقتصادية. وانطلاقاً من أن موارد الأرض معرضة لخطر الاستنزاف، تم الاعتماد على التكنولوجيا الحيوية من أجل استيعاب الطبيعة في الاقتصاد للتغلب على حدود النمو. وفي سياق اقتصاد الابتكار، لن تكون الموارد نادرة بالمعنى المعروف، بل شيئاً يجب العمل عليه وتعديله وتحويله. 

ويرى الكتاب أن مشروع تربية الأحياء المائية مناسب بشكل خاص لاستيعاب نموذج الابتكار وفهم كيف تصبح الإمكانات "الحيوية" (أسماك القد وبيئتها الطبيعية) تحدياً يجب التعامل معه والعمل عليه. وعلى هذا النحو، لن توجد حدود للنمو ولا حدود للتعديلات، فقط المشكلات التي يجب التغلب عليها. والتغيير التكنولوجي عبر نموذج الابتكار هو الطريق لتجاوز هذه المشكلات. فمشروع استزراع سمك القد قد يفشل، ولكن وفقاً لنموذج الابتكار، لا يمثل هذا نقطة نهاية، بل فرصة للتعلم في البحث عن طرق جديدة، واقتصادات جديدة، ومجموعات جديدة من الجهات الفاعلة الديناميكية والمنسقة.

تحويل الأسماك إلى نقود:

وفقاً لنموذج "أقصدة" الطبيعة، يجب التعامل مع سمك القد في كل خطوة في الطريق من المحيط إلى السوق لتحديد قيمته السوقية العادلة. لذلك اعتمد الكتاب على دراسة ترتيبات التقييم وأدوات التقييم المرتبطة بالتسعير وخلص إلى أن هناك ثلاث مراحل مختلفة لترتيبات التقييم (valuation arrangements): أولاً، الحد الأدنى للسعر الذي يضمنه الصيادون عند إنزال صيدهم على أرصفة الموانئ، ويتطلب هذا التسعير مفاوضات مطولة ووضع نماذج دقيقة للتقييم. ثانياً، مرحلة التبادل السوقي بين محطات إنزال الأسماك ومصدري الأسماك والتي يحركها توازن متقلب بين العرض والطلب وكذلك الحاجة إلى السرعة في إنجاز الصفقة (لاحتمالية تعفن السمك). ثالثاً، علامة الجودة (Skrei) (وهو اسم سمكة القد النرويجية القطبية)، وهو ترتيب تقييم يتضمن استراتيجيات لتعزيز القيمة السوقية لسمك القد من خلال وضع العلامات التجارية، وتأهيل السمك للحصول على قيمة متميزة. 

ويُعد المجلس النرويجي للمأكولات البحرية الشريك التسويقي المتخصص في قطاع تربية الأحياء المائية في النرويج والداعم العالمي لمصايد الأسماك النرويجية. ويفترض الكتاب أن المجلس النرويجي "ترتيباً للتقييم"، يتميز بخصائص وأدوات التقييم الهجينة، ويعمل من خلال الاعتماد على قدرات كل من السوق والدولة.

من ناحية أخرى تُعد الصين سوقاً استهلاكية ضخمة قادرة على استيعاب طموحات النرويج من حيث تنمية قطاع المأكولات البحرية. في هذا السياق، عرض المجلس النرويجي في ندوة "قمة المأكولات البحرية النرويجية الصينية" في 2018 الجهود المبذولة لإنشاء سوق للنمو المستقبلي. لكن من الضروري الأخذ في الاعتبار "الأدوات الصغيرة" التي ينطوي عليها تنظيم وإعادة ترتيب القيمة وتعزيز وتقييم السلع.

وبالنظر إلى الأجنحة العديدة في معرض الصين لمصايد الأسماك والمأكولات البحرية لعام 2018، يُلاحظ الحضور القوي لدول غير النرويج، أبرزها روسيا والولايات المتحدة وكندا وكوريا، ما يطرح تساؤلاً عما إذا كانت دبلوماسية المأكولات البحرية في هذه الدول تشبه دبلوماسية النرويج أم لا، وهو أمر يستحق الدراسة وفقاً للكتاب.

تختتم المؤلفتان بأنه لا يوجد اقتصاد كبير واحد للمحيطات، إذ إن عملية "الأقصدة" تحدث في مواقع متعددة، منها "أقصدة" سمك القد، والذي يوجد بكثرة على طول ساحل النرويج. إذ تجوب هذه الأسماك محيطاً مزدحماً بالصناعات الجديدة والواسعة، ومن ثم يتم الاهتمام بالاستزراع والابتكار لتعظيم المكاسب، ولاسيما بعد تقييمها وترتيبها كسلع سوقية ما يجعل أجسام سمك القد بمثابة رأس مال حيوي. كل ذلك يتطلب العمل والرعاية والمعرفة كما يتطلب نموذجاً للابتكار وقدراً كبيراً من الصبر.

المصدر:

Kristin Asdal and Tone Huse. Nature-Made Economy: Cod, Capital, and the Great Economization of the Ocean. The MIT Press. 2023.