تسليع الذات:

رؤية نقدية لصناعة المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي

14 August 2023


عرض: عبدالله عيسى الشريف

فرضت ظاهرة المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي نفسها على الحياة اليومية في مختلف أنحاء العالم، كما أن تداعياتها طالت المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية، حتى باتت صناعة عالمية تُقدر بمليارات الدولارات. من هنا، تأتي أهمية كتاب إيميلي هوند، الذي يحمل عنوان "صناعة المؤثرين: البحث عن الأصالة على وسائل التواصل الاجتماعي".

في هذا الكتاب، تطرح هوند، وهي باحثة في مركز الثقافة والرقمية التابع لكلية أنينبرغ للاتصال بجامعة بنسلفانيا الأمريكية، رؤية نقدية لظاهرة صناعة المؤثرين، خاصةً في الولايات المتحدة عبر تتبع تطورها من مجموعة عشوائية من المبدعين الذين يتدافعون للعمل في مواجهة الركود العظيم إلى صناعة متعددة الأوجه، وتُعرف الباحثة صناعة المؤثرين بأنها نظام معقد، يضم المؤثرين وأولئك الذين يطمحون إلى أن يكونوا كذلك، والمسوقين، والتقنيين، والعلامات التجارية والجهات الراعية، وشبكات التواصل الاجتماعي.

بزوغ ظاهرة المؤثرين:

يجادل الكتاب بأن دور الأوضاع الاقتصادية في فقد ملايين الأشخاص وظائفهم في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008، دفع العديد من الأشخاص، ولاسيما المهنيين المبدعين للمضي قدماً في استخدام منصات التواصل الاجتماعي الناشئة للتعبير عن خبراتهم المهنية واهتماماتهم الشخصية على أمل بناء السمعة وجذب أصحاب العمل، وتزامن ذلك مع التحولات التي شهدتها صناعة الإعلام، حيث أصبحت الصحافة مساراً وظيفياً أقل جاذبية، في ظل قلة فرص العمل وتدني الرواتب، فضلاً عن أن المعلنين باتوا يبحثون عن منافذ أكثر فاعلية من مؤسسات المطبوعات، فلجؤوا إلى المدونات، ولاحقاً للمؤثرين في منصات وسائل التواصل الاجتماعي.

وعلى الرغم من الأهمية المُتزايدة للمؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي في المجتمع يشير الكتاب إلى أن العديد من الخبراء ينتقدونهم أو يقللون من شأنهم، انطلاقاً من الموروث الثقافي للمستهلك الأمريكي، الذي يربط بين المؤثرين والجنس؛ حيث تميل الصناعة للاعتماد على المؤثرات النساء، كما يستهدف المعلنون النساء بصفتهن "المتسوقات" في المنزل، حيث لا يزال الارتباط بين الأنوثة والاستهلاك قائماً، حتى يومنا هذا، خاصةً أنه يتم ترميز الاستهلاك على أنه مطاردة نسائية تافهة بما يحجب إسهامات المرأة المهمة في الحياة الاقتصادية والسياسية.

وبشكل عام، يعود الاهتمام الفكري بالتأثير إلى مجال العلوم السياسية، حيث تم النظر للفلاسفة والمفكرين كرواد للتأثير، من خلال النظريات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعكس افتراضات حول كيفية التأثير في الناس وإقناعهم. فتتناول كتابات ماكس فيبر، حول التأثير المباشر للسلطة، الكاريزمية، موضِّحة كيف تتشابك السلطة والأصالة والتأثير، والتي يتم بناؤها اجتماعياً، وإن كان ذلك مرهوناً بالسياق والعلاقات التي ينميها القادة مع أتباعهم، فالاهتمام بالسلطة الاجتماعية يُعد أساسياً للتفكير في التأثير عبر العصور: من يمتلكها، وكيف يتم نشرها، وما هي العواقب؟

هنا، تشير الباحثة في الكتاب إلى أنه مع توسع موجات الهجرة وقوى التصنيع والنمو السكاني المُطرد بالولايات المتحدة في أوائل القرن العشرين، بدأت المؤسسات الإعلامية في إعادة ترتيب إيقاعات الحياة اليومية للمواطنين، اعتماداً على وسائل الإعلام الجديدة، التي عملت على إعادة توجيههم بعيداً عن القيم التقليدية للأسرة والاكتفاء الذاتي والادخار، ونحو إيجاد المعنى والهوية في استهلاك السلع.

فحينما يقوم قادة الرأي أو المؤثرون بتصفية المعلومات من وسائل الإعلام الجماهيرية لأصدقائهم وجيرانهم، فإنهم بذلك يسهمون في توجيه الاتصالات الجماهيرية. فالناس يلجؤون إلى الأصدقاء أو العائلة أو غيرهم من "الخبراء الشخصيين" للحصول على المشورة أكثر من وسائل الإعلام، وبالتالي يتحكم أولئك المؤثرون في أدوات التغيير في الولايات المتحدة.

البحث عن الاهتمام:

يجادل الكتاب بأنه في ظل طبيعة العالم الجديد للتأثير الاجتماعي، يمكن للمغمورين والخجولين والمُهمشين أن يصبحوا من مشاهير عالم الإنترنت. فوسائل التواصل الاجتماعي تتيح معانٍ واستخدامات جديدة للتأثير من خلال تحويل تغطيتها من "أصنام الإنتاج" مثل، رجال الأعمال والسياسيين العصاميين، إلى "أصنام الاستهلاك" مثل، نجوم صناعة الترفيه والحياة الخاصة للأبطال، مع التركيز على تفاصيل نمط حياة الأشخاص بدلاً من المؤهلات والإنجازات.

وفي الوقت الذي سيطرت فيه وفرة المعلومات على العالم؛ يتضح أن ما هو نادر فعلاً هو اهتمام الناس، لذلك، فإن "البحث عن الاهتمام" يُعد نشاطاً أساسياً في العصر الرقمي. وقد أدى تطور وسائل التواصل الاجتماعي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى تمكين أشكال جديدة من البحث عن الاهتمام عبر الإنترنت، واستخدام هذا الاهتمام بشكلٍ استراتيجي عبر استثمار الفوائد الاجتماعية والاقتصادية لكون الشخص مؤثراً، لتكوين العلامة التجارية الشخصية للمؤثرين والترويج لها، وصولاً لتحقيق الشهرة أو المال أو كليهما.

وبينما يُعرّف العديد من المؤثرين أنفسهم على أنهم "مدفوعون بالشغف"، وأن عملهم "منفذ إبداعي"، إلا أنهم يقومون بتسويق المكونات الحيوية لنظام البيع بالتجزئة، حيث قدرت "eMarketer" عائدات التسويق المؤثر في إنستغرام وحده في عام 2016 بأكثر من 570 مليون دولار، وبحلول عام 2020 قدرت "Business Insider" قيمة صناعة المؤثرين بحوالي 8 مليارات دولار مع توقع بأنها ستتضاعف تقريباً خلال السنوات الثلات المقبلة. بالتالي، أصبح المؤثرون أحد الرموز الأكثر وضوحاً لعلاقة وسائل التواصل الاجتماعي والمعلومات والتجارة. لذلك، يشير الكتاب إلى أن التدوين والتأثير وإنشاء المحتوى باتت مهن القرن الحادي والعشرين.

بين التسليع والأصالة:

إذا كان هدف المؤثرين والشركات التجارية تحقيق الدخل، فقد اختلفوا في توجههم لتحقيق ذلك، فالبنسبة للمعلنين كان تحسين الدخل أمراً أساسياً، لكن المؤثرين يدركون أن كل مؤثر لديه مجموعة أهداف خاصة، ودوافع إبداعية. هنا، تتحكم الأصالة في عملية تحقيق الدخل، حيث يأمل بعض المؤثرين كسب المال بطريقة تبدو لهم نقية، وليس كما لو كانوا "يبيعون" أنفسهم. 

وبينما تُفهم الأصالة تاريخياً على أنها أخلاقيات لعيش حياة فاضلة، حيث يمكن للفرد أن يفهم الآخرين ويكون مواطناً أفضل، إلا أن الأصالة في ظل مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي تعزز الموقف الاستهلاكي، أي يتم تسليعها، حيث يُقدم الفرد نفسه على وسائل التواصل الاجتماعي لكي "يستهلكه" الآخرون. هنا يشير الكتاب إلى أن نزع الطابع السياسي عن الأصالة أدى إلى تشويه مفهوم أي معنى اجتماعي مهم، فالأصالة في صناعة المؤثرين تُعد مهمة فقط بقدر ما يمكن إدراكها وإعطاؤها قيمة رقمية ومالية، فهي وسيلة حتى لو كانت نموذجاً رناناً.

ومع تطور وسائل التواصل الاجتماعي، وجذب المليارات من المستخدمين العالميين، وتغيير طبيعة ومحتوى المعلومات عبر الإنترنت، والتأثير الرقمي، أصبح تعقب أجهزة الكمبيوتر للمحادثات لاستخراج الأنماط الاستهلاكية مُربحاً جداً إلى الحد الذي جعل قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على التماس ومراقبة الاتصالات في وقت واحد لم تحول فقط حلم الديمقراطية التعبيرية الفردية إلى ينبوع للثروة، وإنما حولته إلى أساس لنوع جديد من الاستبداد، عبر التبجيل الثقافي للمشاهير. فالصورة النمطية للمدون هي روح وحيدة تجلس في غرفة نومها، وترسل أفكارها العميقة إلى أي شخص يقرأها في الفضاء الإلكتروني. فالمدون يرى نفسه ذائعاً للحقيقة في عالم يصعب فيه الحصول عليها.

ويشير الكتاب إلى أن المدونين كانوا أول من اكتسب رؤية عامة كصناع تغيير إبداعي مُحتملين في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد ظهرت العديد من الشركات التي تقوم بتخطيط وتطوير مساحة التسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتوفير فرص للمؤثرين والعلامات التجارية للتواصل من خلال بناء أسواق رقمية تسمح للمؤثرين والعلامات التجارية بالتسجيل للوصول، والعثور على بعضهم بعضاً، والمشاركة في الحملات المدفوعة. حيث تتعامل الوكالات مع المؤثرين مباشرةً نيابةً عن عملاء إعلانات الشركات.

إلا أنه في حين وضعت هذه الشركات نفسها على أنها تساعد منشئي المحتوى المستقلين على كسب المال، فإن عملهم معاً كان جذاباً من الناحية المالية لجميع الأطراف، وغالباً ما اختلفوا هم والمؤثرين الأوائل في مناهجهم للعلامة التجارية الشخصية، والعمل المطلوب لإنتاج المحتوى، ومعنى وقيمة التأثير والأصالة. وفي الوقت الذي أعاد فيه المشاركون في صناعة المؤثرين المزدهرة تعريف بعض الأشخاص والشركات إلى علامات تجارية شخصية، أصبحوا يعرفون الأشخاص الآخرين - أي الأعضاء المجهولي الهوية في "جمهور" وسائل التواصل الاجتماعي - كأصول اقتصادية، متبعين مساراً تاريخياً طويلاً لشركات الإعلام التي تُعرف الجمهور كسلع، وهو ما ينعكس على الغرض من الإنتاج الإبداعي للمؤثرين في عصر وسائل التواصل الاجتماعي.

قياس التأثير الرقمي:

تم تطبيق فكرة إمكانية تتبع التأثير الرقمي وقياسه وتحقيق الدخل منه من قِبل شركة "Klout" التي تم إطلاقها عام 2008 بهدف تتبع وتصنيف تأثير كل شخص على الإنترنت، وقامت تقنية الشركة بتمشيط بيانات الوسائط التكنولوجية، بشكل أساسي من "تويتر" وخصصت لكل مستخدم درجة بناءً على مجموعة متنوعة من العوامل بما في ذلك عدد المتابعين، وتكرار المنشورات، وعدد الإعجابات، والتغريدات. ويعني ذلك أنه حتى مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الذين لا يعرفون بوجود الشركة موجودون في قاعدة بياناتها، ويتم ترقيه هؤلاء المستخدمين الذين حصلوا على درجات عالية بما يكفي وتأهيلهم للحصول على "امتيازات" أو اتصالات بالعلامات التجارية التي على استعداد لتقديم سلع مجانية مقابل الثناء "المؤثر" عبر الإنترنت.

وعلى الرغم من أنه في عام 2014 تم بيع شركة "Klout" لشركة "Lithium Technologies" التي أغلقت الخدمة نهائياً في عام 2018. فقد ساعد نجاح شركة "Klout" في تطبيع فكرة أن "الأشخاص العاديين" يمكنهم الاستفادة من متابعيهم على وسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق منفعة تجارية، على إضاءة المسار لرقمنة التسويق الشفهي (أي الانتشار غير المدفوع للمعلومات من شخص إلى آخر من خلال المحادثة والحوار، والذي يتخلله تقديم المشورة بشأن عمل أو منتج معين)، الذي تنطلق أهميته من ضرورة وجود سوق للشركات من النوع الوسيط بين الأفراد والعلامات التجارية.

وقد اختلفت وسائل قياس قيمة المؤثر الفردي، ففي الوقت الذي أعطى المؤيدون الأوائل لتحقيق الدخل من وسائل التواصل الاجتماعي الأولوية لعدد المتابعين، بناءً على النظرية القائلة إن الأكبر هو الأفضل، فقد تلاشى ذلك لصالح قياسات أكثر تحديداً مثل التفاعل، ومعدل نقر أعضاء الجمهور، ومشاهداتهم، والإعجاب، والأدلة الرقمية الأخرى على تفاعل الجمهور مع المحتوى. وفي حين أشارت بعض الشركات إلى أن قيمة المؤثر ترتبط ارتباطاً مباشراً بعدد المتابعين أو معدلات المشاركة، فقد وضع البعض الآخر نظاماً للتقييم اعتماداً على تصورات أصحاب المصلحة المختلفة، حيث إن شخصاً ما لديه 150 ألف متابع قد يكون أكثر قيمة لعميل معين من شخص لديه مليونا متابع.

وقد أسهم بدء التسويق التجاري في 2015 في جعل إنستغرام الوجهة الأولى للعلامات التجارية والمسوقين الذين يتطلعون إلى الانخراط في التسويق المؤثر، وقد تحددت سياسة التسعير على إنستغرام، حيث أصبح أي شخص لديه 100 ألف إلى 500 ألف متابع قد يكسب من 2500 إلى 5000 دولار لكل منشور، وأي شخص لديه من 500 ألف إلى مليون متابع قد يربح ما بين 4000 إلى 10000 دولار، وشخص ما يزيد عن مليون يبحث عادةً عن 4000 دولار كحد أدنى وقد يصل إلى 15000 دولار.

هناك عدد من الأساليب والتكتيكات لكشف المتابعين المزيفين، فإذا كان لدى شخص ما 20 ألف متابع ولكنه حصل على 200 إعجاب فقط على منشورٍ ما، فهذا ليس المنطقي، فهناك نسبة معينة يجب أن تتحقق، فإذا كان لدى الشخص عدد معين من المتابعين، فيجب أن يحصل منشوره على "X" من الإعجاب كمتوسط من تلك النسبة، فهناك معادلة مطبقة يمكن من خلالها معرفة ما إذا كان المتابعون حقيقيين أم لا، فإذا كان المعدل أقل من المتوسط، فلهذا دلالة على أمر ما.

وعندما اكتشف المؤثرون الاستراتيجيات التي تطبقها العلامات التجارية والمسوقون لتقييم مصداقية الجمهور، بدؤوا في ابتكار وتنفيذ استراتيجيات جديدة لتعزيز الأرقام استجابةً لذلك، بدءاً من تكثيف التفاعل مع الجمهور، وصولاً إلى السلوك الجماعي مثل الانضمام إلى "الكبسولات"؛ وهي مجموعات من بضع عشرات من المؤثرين المرتبطين معاً باتفاق متبادل لإبداء الإعجاب والتعليق على كل مشاركة لبعضهم بعضاً لتعزيز مقاييس المشاركة "الأصيلة".

ختاماً؛ توصي الكاتبة بضرورة النظر إلى المؤثرين على أنهم محفزات ثقافية، وأن يتم تنظيمهم وفقاً لذلك، من خلال النقابات، بحيث يتم تغيير هيكل الحوافز الخاص بهم - تقنياً وثقافياً - ودفعهم للالتزام بالمعايير المهنية بدلاً من التعامل بمنطق "ما يتردد صداه"، خاصةً وأن مصطلح المؤثر نفسه يحمل معاني ضمنية، مع ما يترتب على ذلك من كيف ومتى ومن يستخدمه؟ 

وللتغلب على تحديات المصطلح وما يفرضه من قيود معينة، فمن المهم الاعتماد على مصطلح "مُنشئ"، لتلخيص الأشكال العديدة لمنتجي محتوى الوسائط الاجتماعية، أخذاً في الاعتبار أن التأثير الاجتماعي في بيئة الإعلام المعاصرة ليس مجرد عملية ثقافية، بل سلعة مادية، يتم تقييمها وتحديد قيمتها المادية.

المصدر:

Emily Hund, "The Influencer Industry: The Quest for Authenticity on Social Media", (Princeton University Press, New Jersey, 2023).