البيئات الحاضنة:

أنماط التفاعل بين المحيط الرايكالي والإرهاب

17 December 2014


إعداد: أحمد عاطف

يُعد الإرهاب وسيلة من وسائل الإكراه التي تتضمن تنفيذ هجمات عنيفة بهدف نشر الخوف، وغالباً ما يظهر في سياق الحركات الاجتماعية أو الطوائف الدينية أو العرقية. وهذا يعني أن الجماعات الإرهابية ليست معزولة تماماً، ولكنها تنشأ وتعمل ضمن بيئة اجتماعية محددة – يُطلق عليها "الوسط أو المحيط الراديكالي" - التي تشترك مع منظور الإرهاب وأهدافه، وتدعم المجموعات المتطرفة معنوياً ولوجستياً.

ونظراً، لأن السياق الاجتماعي الذي تنشأ وتنشط فيه الجماعات الإرهابية، لم يتم تناوله من قِبل العديد من الدراسات ذات الصلة بالعنف السياسي، فقد نشرت دورية (Studies in Conflict & Terrorism)  دراسة بعنوان: "الوسط الراديكالي.. وضع تصور للبيئة الاجتماعية الداعمة للجماعات الإرهابية"، والتي أعدها كل من "Stefan Malthaner"  الباحث في معهد الجامعة الأوروبية، و"Peter Waldmann" الباحث في جامعة أوجسبور مينيابوليس بالولايات المتحدة.

وتُقدم هذه الدراسة نهجاً لتحليل هذه البيئة الاجتماعية الداعمة أو الحاضنة للجماعات المتطرفة، في محاولة للإجابة عن عدة أسئلة من قبيل: كيف ينشأ هذا الوسط الراديكالي؟ وما الخصائص التي يتسم بها؟ وما الدور الذي يلعبه في تشكيل وتطور الجماعات العنيفة، ومن ثم فإن تركيز الدراسة ينصب على العلاقة بين الجماعات الإرهابية ومحيطها الراديكالي، وكذلك على عمليات التفاعل بين هذا الوسط الراديكالي والبيئة السياسية والاجتماعية الواسعة، والتي قد تترتب عليها العزلة والتطرف.

مفهوم "الوسط الراديكالي"

تتطرق الدراسة إلى مفهوم "الوسط الراديكالي radical milieu" بهدف لفت الانتباه إلى أنماط العلاقة وديناميات التفاعل بين الجماعات الإرهابية وبيئتها الاجتماعية، ومن ثم فإن هذا المصطلح يستخدم للدلالة على البيئة الاجتماعية التي تظهر في إطارها الجماعات المتطرفة. وهكذا فإن كلمة " milieu" يُقصد بها البينان أو الإطار الاجتماعي، أما "radical" فيُنظر إليها للدلالة على أشكال العمل والتوجهات التي تحدد الصراع السياسي، وهي تشمل بدورها استخدام العنف.

وتؤكد الدراسة أن الأوساط الراديكالية تظهر في سياق متشدد من المواجهات، والتي تكون في كثير من الأحيان نتيجة الخبرات المباشرة أو غير المباشرة للعنف من قبل الشرطة أو المعارضين السياسيين.

ويميز الكاتبان بين ثلاثة فاعلين أساسيين، وهم:

1 ـ الجماعات الإرهابية، وتتسم بحقيقة استخدامها أشكالاً متطرفة من العنف لتحدي الدولة أو المعارضين السياسيين، ويكون ذلك من خلال ممارسات تحت الأرض.

2 ـ الوسط الراديكالي، ويتسم بهياكل أكثر انفتاحاً (الهياكل التنظيمية، الإعلام، والاتصالات).

3 ـ البيئة الاجتماعية والسياسية الأوسع نطاقاً، بما في ذلك سلطات الدولة والمعارضين السياسيين، فضلاً عن الحركات الاجتماعية أو الجماعات العرقية والدينية التي تظهر من خلال هذه البيئة.

عمليات تشكيل الأوساط الراديكالية

تشير الدراسة في هذا الصدد إلى ثلاث عمليات أساسية فيما يتعلق بتشكيل أو تكوين الأوساط الراديكالية، وهي:

1- الجماعات الإرهابية قد تظهر في محيط راديكالي موجود مُسبقاً، وذلك في عملية تدريجية من التطرف. وفي ظل هذه الحالة، فإن الأوساط المتشددة تنشأ تدريجياً في سياق المواجهات المتصاعدة، عادة بين الحركات الاحتجاجية وقوات الأمن. ومن ثم فإنه في ظل العملية المستمرة من التصعيد والتطرف، تتشكل الجماعات السرية داخل هذه الأوساط المتطرفة. ويعني هذا أن ظهور التنظيمات الإرهابية يأتي في مرحلة تالية من التطرف، وذلك نتيجة تصور مفاده أن الأشكال السابقة من الاحتجاجات غير كافية.

2 ـ يمكن أن تتشكل الأوساط المتطرفة والجماعات الإرهابية في نفس الوقت، حيث ينشأ كل منهما في البداية بشكل مستقل عن الآخر، ثم تتطور العلاقات تدريجياً بينهما. وهذه العملية غالباً ما تحدث في حالة الأقليات الدينية أو العرقية المهددة من الهجمات العنيفة والقمع، مما يترتب عليه تشكيل الأوساط الراديكالية، وفي الوقت نفسه ظهور الجماعات غير المشروعة أو السرية. ومثال على ذلك، العلاقة بين سكان الجنوب اللبناني والجماعات المسلحة بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1982. ففي هذه الحالة، تحول قطاعات من السكان المحليين إلى الراديكالية كرد فعل على أعمال الاعتداء والقمع والتهديد ونزع الملكية الممارسة ضدهم، مما دفعهم إلى الانخراط في المقاومة العنيفة، ودعم العلاقات مع الحركة الإسلامية "حزب الله" عندما وسعت من وجودها في الجنوب اللبناني.

3 ـ الأوساط الداعمة للتطرف يمكن أيضاً أن تُشكل في مرحلة لاحقة للجماعات العنيفة، عندما تكون هناك تنظيمات إرهابية تعمل بالفعل، أو حتى نتاج الجهود الاستراتيجية من قِبل الجماعات الإرهابية لإيجاد منظمات قانونية أو شبة قانونية داعمة لها.

سمات وخصائص الأوساط الراديكالية

يرى الكاتبان أن الأوساط الراديكالية تتنوع وتختلف في سمات ثلاثة، وهي:

1 ـ التنوع في حجم الأوساط الراديكالية وانتشارها: يتحدد حجم الأوساط المتطرفة وتركزها المكاني - إلى حد ما - وفقاً للسياق المجتمعي والسياسي الذي تتشكل فيه هذه الأوساط، لاسيما فيما يتعلق بقدرة الدولة على السيطرة، ومدى وجود مساحات مهملة أو تتمتع بالحكم الذاتي. ولا يمكن أيضاً إغفال تأثير العوامل الثقافية التي تساهم في قبول أعمال العنف بين قطاعات من السكان. وبالإضافة إلى ذلك، يتحدد حجم وانتشار أو التركز المكاني للأوساط الراديكالية حسب حجم والهيكل التنظيمي للجماعات الإرهابية وطبيعة مطالبها وأهدافها.

2 ـ اختلاف الأوساط المتطرفة في درجة التماسك الداخلي وأنماط التنظيم الاجتماعي والسياسي: إذا كان التماسك يرتبط - إلى حد ما - بالتركز المكاني، فإنه يتأثر أيضاً بالتركيبة الاجتماعية للسكان، ونوعية العلاقات، وكذلك وجود المؤسسات الاجتماعية والسياسية، وآليات التنسيق والرقابة الاجتماعية التي تعمل على تعزيز التماسك.

3 ـ اختلاف الأوساط المتطرفة فيما يتعلق بالحدود الفاصلة بين الوسط والمجموعة السرية: من الواضح أن الأوساط الراديكالية تتشكل حسب نوع وهيكل الجماعات الإرهابية، والتي يمكن أن تعمل بشكل سري كامل، وتتواصل مع الأوساط الداعمة فقط عبر قنوات سرية مختارة بدقة، أو أنها قد تعمل بطريقة شبه سرية، حيث تختبئ عن الشرطة ولكن تظل في اتصال منتظم وجهاً لوجه مع محيطها الراديكالي الداعم لها.

العلاقات بين الأوساط الراديكالية وبيئتها الاجتماعية والسياسية

يؤكد الكاتبان أن الأوساط المتطرفة ليست ثابتة ولكنها ديناميكية، وتتحدد العمليات التي تنشأ وتتطور من خلالها هذه الأوسط، بواسطة التفاعلات مع البيئة السياسية والاجتماعية من جانب، وأيضاً العلاقات مع الجماعات الإرهابية من جانب آخر.

وتركز الدراسة في هذا الجزء على الجانب الأول من التفاعلات مع نوعين من البيئات، وهما قوات الأمن أو المعارضين السياسيين، والحركة الاجتماعية الأوسع، أو الجماعة الدينية أو الإثنية، التي ينشأ من خلالها المحيط الراديكالي.

وتعد العلاقة بين الأوساط المتطرفة وقوات الأمن والمعارضين السياسيين على درجة عالية من الصراع، وتلعب دوراً بالغ الأهمية في ظهور الأوساط الراديكالية، فضلاً عن إعادة بلورتها باستمرار على مدار الصراعات العنيفة. فالأوساط المتطرفة تقع في مركز الاشتباكات، وغالباً ما تكون هدفاً للشرطة وكذلك للهجمات بواسطة المعارضين السياسيين. ففي المراحل الأولى، يشارك أعضاء تلك الأوساط المتطرفة في احتجاجات مسلحة بالتظاهرات والاشتباكات ضد الشرطة، وعندما تظهر الجماعات الإرهابية أو السرية، تستهدف قوات الأمن بيئتها الداعمة، إما لأنها غير قادرة على تحديد موقع الإرهابيين، أو حتى تحديدهم أنفسهم، أو كجزء من استراتيجية متعمدة لتقويض العلاقات بين الجماعات الإرهابية والأوساط المتطرفة.

وهكذا يساهم التفاعل مع قوات الأمن في ديناميكيات التصعيد والتطرف التي تظهر من خلالها الأوساط المتطرفة. وثمة أمثلة عديدة في هذا الصدد، منها ما شهدته ألمانيا من مقتل الطالب المحتج "بينو أوهنسورج" على يد رجل شرطة خلال تظاهرة في برلين في يونيو 1967، وهي الحادثة التي كانت لها آثار هائلة على الحركة الطلابية، وأدت إلى موجة من التطرف أسفرت عن ظهور العديد من الجماعات العنيفة مثل (حركة الثاني من يونيو).

ويرى الكاتبان أن استمرار الاعتداءات من قِبل المعارضين على مدار الصراعات العنيفة، يُمكن أن تختلف في درجة تأثيراتها على الأوساط المتطرفة، حيث إنها قد تؤدي إلى موجات من التعبئة داخل المجتمعات، أو عزل الأوساط الراديكالية داخل الحركات الأوسع، أو تفتيتها وتفككها.

العلاقات بين الجماعات الإرهابية والأوساط الراديكالية

على صعيد العلاقة بين الأوساط المتطرفة والجماعات العنيفة السرية، تذكر الدراسة أن كلاً منهما يمثل أشكالاً مختلفة من النشاط المتشدد، لتحقيق الهدف نفسه، وهو تحدي الدولة أو المعارضين السياسيين بواسطة وسائل عنيفة.

ومن ثم، يؤكد الكاتبان أن العلاقة بين الأوساط المتطرفة والجماعات الإرهابية، تتسم بالآتي:

1 ـ الفهم المشترك لكونهما حليفين في صراعهما، والتأكيد على فكرة التضامن الأساسي الذي يُوحِّد ويربط الأوساط المتطرف والجماعات الإرهابية.

2 ـ السمة الثانية للعلاقة بين الأوساط المتطرفة والجماعات السرية، ناتجة عن نشأتهم وتوجهاتهم المشتركة، وتتعلق هذه السمة بالاستعداد الأساسي من جانب الوسط المتطرف لتقديم الدعم اللوجستي والسياسي للناشطين السريين. ويشمل الدعم اللوجستي تقديم المأوى لهؤلاء الناشطين، وتوفير وسائل لنقل الرسائل، والتبرع بالمال، والمساعدة في الأعمال التجارية المشروعة وغير المشروعة لتوفير الأموال. أما الدعم السياسي فقد يأخذ شكل تظاهرات للاحتجاج على معاملة السجناء السياسيين وغيرها من المظالم المعروفة، أو تنظيم الدعاية والحملات الانتخابية للأحزاب والجماعات السياسية المشروعة.

3 ـ السمة الثالثة للعلاقات بين الجماعات الإرهابية وبيئتها الراديكالية، تدور حول حقيقة مفادها أن هذه العلاقات تشمل دائماً عنصراً من التوتر والخلاف أو حتى الصراع. وثمة أسباب عديدة وراء ذلك، فالأوساط المتطرفة لا تدعم الجماعات الإرهابية من دون أي تحفظ، ولا تتغاضى عن أي شكل من أشكال الهجمات العنيفة. ففي معظم الحالات هناك حدود واضحة لما تعتبره الأوساط المتطرفة مشروعاً أو مقبولاً من حيث عدد الضحايا، ونوعية المستهدفين، وأشكال العنف.

وختاماً، تؤكد الدراسة أهمية مفهوم "الوسط أو المحيط الراديكالي" باعتباره "الحلقة المفقودة" في مجالات البحوث المتعلقة بالعنف السياسي، لافتةً إلى أن عمليات العنف السياسي وتصرفات الجماعات الإرهابية تتحدد من خلال العلاقات بين هذه الجماعات والبيئة الاجتماعية الداعمة، وبالتالي يفتح هذا المنظور طرقاً جديدة لشرح نشأة وتطور العنف الإرهابي.

* عرض موجز لدراسة تحت عنوان: "الوسط الراديكالي.. وضع تصور للبيئة الاجتماعية الداعمة للجماعات الإرهابية" الصادرة في نوفمبر 2014 عن دورية "دراسات في الصراع والإرهاب".

المصدر:

Stefan Malthaner and Peter Waldmann, The Radical Milieu: Conceptualizing the Supportive Social Environment of Terrorist Groups, Studies in Conflict & Terrorism, Volume 37, Issue 12 (London, Routledge, November 2014) pp 979 – 998.