تأزم مستمر:

لماذا تمددت الأزمة التونسية إلى المحكمة الدستورية؟

08 April 2021


أخفقت تونس مجددًا في التوصل إلى اتفاق يُنهى الأزمة الراهنة بين الرئيس والبرلمان، ودخلت البلاد في حلقة جديدة من التوتر المستمر بين الطرفين منذ نحو عام، بعدما استعمل الرئيس "قيس سعيد" لأول مرة منذ ثورة 2011 حق النقض، في رفض التصديق على مشروع قانون المحكمة الدستورية الذي مرّره البرلمان بالإجماع في 25 مارس الماضي بدعوى انقضاء الآجال الدستورية لتشكيلها، وبأنه لن يقبل "محكمة على المقاس".

وبحسب الدستور التونسي، يلزم تشكيل هيكل المحكمة الدستورية في مدة لا تتجاوز العام من موعد إجراء الانتخابات التشريعية التي عُقدت في 2014، غير أن البرلمان تمكن فقط في مارس 2018 من انتخاب عضو واحد من بين 4 أعضاء في المحكمة ينتخبهم المجلس التشريعي من جملة 12 عضوًا.

ويحمل رفض الرئيس، في 5 أبريل الجاري، ختم مشروع قانون المحكمة الدستورية، وتوجيهه انتقادات لاذعة لخصومه، مجموعة من الدلالات والتداعيات المستقبلية على الداخل التونسي، خاصةً في ظل تكرار الإخفاق في تجاوز القضايا الخلافية بين النخب الحاكمة، وبخاصة ملف المحكمة الدستورية، المنوط بها حسم الخلافات الدستورية بين مؤسسات الدولة.

تعديلات المحكمة الدستورية:

شملت التنقيحات التي صادق عليها البرلمان، في 25 مارس الماضي، الفصول 10 و11 و12 من القانون الأساسي الحالي للمحكمة الدستورية، ونصت التعديلات التي تم إدخالها على تخفيض الأغلبية المطلوبة لانتخاب أعضائها من 145 إلى 131 نائبًا من جملة 217 نائبًا، على أن يُعاد فتح باب الترشحات إثر كل ست دورات انتخابية، ويجري الانتخاب خلال 3 دورات انتخابية بأغلبية الثلثين، وإن لم يُحرز أي مترشح الأغلبية تُعاد ثلاث دورات انتخابية متتالية بأغلبية الثلاثة أخماس إلى حين استكمال انتخاب الأعضاء الأربعة.

التعديلات على قانون المحكمة الدستورية يرتكز جوهر مضمونها -في الأساس- على تقليص الصلاحيات التنفيذية لرئيس الجمهورية مقارنة بتلك الممنوحة لرئيس الدولة حاليًا، كما تستهدف توظيف المحكمة الدستورية في أية مواجهة للبرلمان مع مؤسسة الرئاسة بشأن تأويل النصوص، إضافة إلى دفع الرئيس إلى التخلي عن أسلوبه في تعطيل إجراءات الحكومة، وبينها تمرير التعديل الحكومي الأخير والسماح بالقسم أمامه.

ووفقًا للتعديلات التي طالت ميثاق المحكمة الدستورية، يتم حذف شرط التتابع في انتخاب أعضاء المحكمة وتعيينهم من قبل السلطات المتداخلة لفتح المجال أمام المجلس الأعلى للقضاء لاختيار 4 أعضاء ورئيس الجمهورية لتعيين 4 أعضاء، دون التوقف عن استكمال انتخاب 4 أعضاء من قبل مجلس النواب. كما تم إلغاء أحكام الفقرة الفرعية الأولى من الفصل 11 من قانون المحكمة الدستورية، والتي تتعلق بتقديم الكتل البرلمانية مرشحين لعضوية المحكمة.

دلالات الأزمة:

تُشير أزمة تمرير تعديلات قانون المحكمة الدستورية التونسية إلى مجموعة من الدلالات، يمكن بيان أبرزها على النحو التالي:

1- غياب التوافق حول التعديلات: تشير أزمة التعديلات التي أُدخلت على قانون المحكمة الدستورية إلى غياب التوافق حولها، حيث اعترضت عليها قطاعات سياسية معتبرة داخل البرلمان، في الصدارة منها الحزب الدستوري الحر، إضافةً إلى رفض رئيس الدولة التصديق عليها، وهو ما يفتح الباب أمام تصاعد حدة الاستقطاب السياسي في الشارع التونسي، والطعن في مدى شرعية قبول تعديلات قانون المحكمة الدستورية مجتمعيًّا، وهو ما قد يُنذر باتساع نطاق التباينات بين المجتمع والسلطة في تونس.

2- استمرار الهوّة بين النخب الحاكمة: من شأن امتناع الرئيس "قيس سعيّد" عن ختم التعديلات التي طالت قانون المحكمة الدستورية، وقراره إعادتها إلى البرلمان لإعادة النظر فيها؛ أن يزيد من تعطيل المحكمة الدستورية في البلاد، وأن يعمّق الهوة بين الرئاسة والبرلمان. وكان الرئيس التونسي قد وصف التعديلات بغير البريئة، كما جدد هجومه على من وصفهم بــــ "بعض القوى" و"الأطراف"، وأضاف في تصريحات له في 5 أبريل الجاري "تنقصهم الشجاعة والنزاهة، وأنه يعلم جيدًا ما يخططون وسيحبط أعمالهم". كما يتوقع استمرار المشاحنات التي شهدتها أروقة البرلمان بين الكتل الحزبية، وهو ما سيزيد من تعقيد الوضع، وينذر باستمرار تواصل الاحتقان حول ملف المحكمة الدستورية المعطل منذ عام 2014، بسبب الخلافات الأيديولوجية وعدم الاتفاق على مرشحين يحظون بدعم واسع.

3- التوظيف السياسي للمحكمة الدستورية: تكشف طبيعة التعديلات على قانون المحكمة الدستورية التي مررها البرلمان، ورفض الرئيس التوقيع عليها، عن مساعي القوى السياسية لتوظيف المحكمة سياسيًا. فبينما تراهن حركة النهضة والتيارات الداعمة لها على تفصيل هيكل المحكمة على مقاس طموحاتها السياسية، ويخدم بدرجة أولى أجنداتها في الحكم، ويوفر لها الهيمنة على مكونات المحكمة والتحكم في مفاصل قرارها؛ ففي المقابل وفي ظل المناخ السياسي المتوتر، واستمرار المعارك حول الصلاحيات بين الرئاسة والبرلمان، يعتقد بعض المراقبين أن الرئيس التونسي مستفيد من غياب المحكمة، لأن الفصل في جانب معتبر من القرارات الدستورية الرسمية يعود إليه، وحال انعقاد المحكمة الدستورية ستزول هذه الميزة للرئيس، وتؤول للمحكمة التي سيصبح "قيس سعيد" خاضعًا لتفسيراتها في النصوص الدستورية الشائكة.

التداعيات المحتملة:

من المتوقع أن يترك رفض الرئيس التونسي "قيس سعيد" التصديق على تعديلات قانون المحكمة الدستورية العليا مجموعة من التداعيات، على الداخل التونسي، لعل من أبرزها ما يلي:

1- أدلجة السياسة التونسية: عدم قيام الرئيس التونسي بالتصديق على تعديلات المحكمة الدستورية، ودوره الرئيسي على عملية صنع القرار مقابل ظهور توجهات حركة النهضة والتحالف الداعم لها، وانطباعاتها على السياسات التونسية، فضلًا عن صعود زخم التيار العلماني في المشهد التونسي مقابل تراجع أدوار الفاعلين الآخرين في عملية صنع القرار، وبخاصة الاتحاد التونسي للشغل، قد تدخل البلاد في حالة من الارتباك السياسي، ويُفتح الباب أمام مزيدٍ من السياسات المؤدلجة، وهو ما ظهر في 4 يناير الماضي، عندما أقال رئيس الحكومة "هشام المشيشي" القريب من حركة النهضة وزراء مقربين من الرئيس من بينهم وزير الداخلية السابق "توفيق شرف الدين".

على صعيد ذي شأن، يتوقع أن تزيد أزمة المحكمة الدستورية من شخصنة السياسة التونسية، بعد أن اتخذت طابعًا ذاتيًا وشخصيًا، كشفت عنه التصريحات والتصريحات المضادة بين الرئيس "سعيد"، وزعيم حركة النهضة "راشد الغنوشي"، وهو الأمر الذي سوف يؤثر على المشهد السياسي التونسي بشكل عام.

2- تزايد حدة الاستقطاب: مع رد الرئيس التعديلات المقترحة على قانون المحكمة الدستورية من جديد للبرلمان، وطلب قراءة ثانية في التعديلات؛ من المتوقع أن تتزايد داخل تونس حدة الخلافات السياسية بين الأحزاب الليبرالية بقيادة الحزب الدستوري الحر، والتي ترفض التعديلات المقترحة على قانون المحكمة الدستورية، والأحزاب الإسلامية التي تتزعمها حركة النهضة التي تدفع ومعها "ائتلاف الكرامة" باتجاه تمرير تعديلات المحكمة. 

وقد تتفاقم حدة الاستقطاب في تونس في ظل غياب التفاعل بين أطراف الأزمة مع مقترحات مؤسسات حيادية، في الصدارة منها الاتحاد التونسي للشغل، ناهيك عن أن الخصوم المتنافسين في الحكم (الرئيس، والبرلمان، والحكومة) لم تعمل حتى الآن على تهدئة حدة الاستقطاب السياسي والمجتمعي؛ بل يلجأ كل منهم إلى حشد الأنصار في كل أزمة سياسية ودستورية، وآخرها تعديلات المحكمة الدستورية.

3- تفاقم الأوضاع الاقتصادية: ثمة ارتدادات سلبية محتملة لأزمة المحكمة الدستورية على الأوضاع الاقتصادية في تونس، خاصة أن تفاقم الأزمات الدستورية والسياسية المتوالية التي تعيشها البلاد، أدى إلى الانصراف عن الاهتمام بتداعيات الأزمة المالية غير المسبوقة التي تعانيها تونس، حيث يبلغ العجز المالي نحو 11%، كما شهدت البلاد في الشهور الأخيرة العديد من الاحتجاجات الشعبية في أكثر من ولاية بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، وتفاقم الأوضاع المعيشية للمواطنين.

ختامًا، يمكن القول إن غياب التوافق بين الأطراف الحاكمة في تونس حول تشكيل واختصاصات المحكمة الدستورية العليا، قد يدفع باستمرار الأزمة السياسية والدستورية التي تعيشها البلاد. كما أن تنامي حالة الانسداد المتفاقمة بين الرئاسة والبرلمان حيال الملفات الخلافية، وبخاصة وضعية المحكمة الدستورية، قد يعيق عملية الانتقال الديمقراطي السلس الذي ميزت التجربة التونسية منذ عام 2011.