مأزق "إس-400":

المسارات المحتملة لعلاقة تركيا مع إدارة بايدن

28 February 2021


أعادت تصريحات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، في فبراير الجاري، بضرورة تخلي تركيا عن صواريخ (إس-400) الروسيّة، وهو ما جاء على لسان المتحدّث باسم البنتاجون الذي أكد عدم تغير الموقف الأمريكي الرافض لامتلاك أنقرة المنظومة الروسية (إس-400)، وكذلك حث وزير الخارجية الأمريكي في أول اتصال له مع نظيره التركي في 15 فبراير الجاري، على ضرورة تخلي أنقرة عن صواريخ (إس-400) الروسية؛ مشهد التوتر من جديد لواقع العلاقات الأمريكية–التركية، التي شهدت تصعيدًا محتدمًا خلال فترة الرئيس الأمريكي السابق "ترامب".

ويكشف موقف الإدارة الأمريكية الجديدة عن اتساع هوة الخلاف بين أنقرة وواشنطن والتي لن تدور حول امتلاك تركيا للمنظومة الروسية (إس-400) فقط، بل ستمتد إلى عدد من الملفات التي وعد الرئيس الأمريكي "جو بايدن" بإثارتها فور توليه منصبه، على غرار الملف الحقوقي لأنقرة والديمقراطية الداخلية. ومن ثم، ستشكل تلك النقاط الخلافية محفزًا لتصعيد التوتر بين الجانبين. إلا أن مساحات التشابك المصلحي بين الجانبين في ظل حاجة كل منهما للآخر لتعزيز حضوره الإقليمي ضمن خرائط النفوذ الجديدة التي يتم تشكيلها في منطقة الشرق الأوسط، والتي تمكنت أنقرة عبر انخراطها الخشن في الصراعات من فرض نفسها في معادلات التسوية المحتملة، على النحو الذي يساعد واشنطن في موازنة النفوذ الروسي والإيراني في تلك المناطق الحيوية لمصالحها؛ قد يسهم في خفض مساحات التوتر واستيعابها ضمن إطار مصلحي تعاملي بين الجانبين خاصة حول الملفات ذات الاهتمام المشترك.

وفي ضوء هذه المعطيات، يسعى هذا التحليل إلى استعراض انعكاسات الموقف الأمريكي للإدارة الجديدة الرافض لامتلاك أنقرة للمنظومة الروسية (إس-400) على مسارات التصعيد والتوتر بين الجانبين، وكذلك بيان عوامل ومحفزات التهدئة التي يمكن من خلالها استيعاب التوتر، ومن ثم الدفع بالسيناريوهات المحتملة للمسار المستقبلي للعلاقة بين الجانبين.

محفزات التصعيد والتوتر:

تشهد مسارات التفاعل التركي-الأمريكي حالة من التوتر الناشئ على خلفية عدد من الملفات الخلافية التي تصاعدت وتيرتها إبان فترة الرئيس الأمريكي السابق ترامب، وفي مقدمتها امتلاك أنقرة للمنظومة الروسية (إس-400)، ويبدو أن هذه الحالة مرشحة للتفاقم خلال فترة الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة جو بايدن، والتي عبّر مسؤولوها خلال الفترة الماضية عن تمسك الإدارة الجديدة بموقفها الرافض لامتلاك أنقرة لمنظومة الدفاع الجوي الروسية (إس-400)، وانعكس ذلك من خلال تجديد مستشار الأمن القومي الأمريكي جايك سوليفان، في 3 فبراير الجاري، قلق إدارة بايدن إزاء تأثير صفقة صواريخ (إس-400) بين أنقرة وموسكو على تماسك حلف "الناتو".

وكانت واشنطن قد فرضت حزمة من العقوبات على أنقرة نتيجة شرائها المنظومة في ديسمبر الماضي، والتي تمثلت في فرض عقوبات على مستشارية الصناعة الدفاعية التركية، وعدد من المسؤولين فيها، بموجب قانون مكافحة أعداء أمريكا (كاتسا) عبر العقوبات، كما أوقفت برنامج تدريب الطيارين الأتراك على طائرات (إف-35) ومنعتها من الحصول عليها، وكذلك من المشاركة في برنامج لتصنيعها يُشرف عليه "الناتو". هذا فضلًا عن منع إصدار أي ترخيص تصدير أسلحة إلى الوكالة الحكوميّة التركيّة المكلّفة بالمشتريات العسكريّة. وفي 6 فبراير الجاري، أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، أن إدارة الرئيس "بايدن" لن ترفع الحظر الذي فرضته إدارة الرئيس السابق "ترامب" على شراء تركيا مقاتلات (إف-35) ردًا على شرائها المنظومة الروسية (إس-400) بما يخالف التزامات تركيا كحليف لواشنطن وحلف "الناتو".

وهنا تجدر الإشارة إلى أن درجة تأثير هذا الملف كمحفز لتصعيد التوتر بين الجانبين ستتكامل مع درجات تأثير عدد من المحفزات الأخرى التي يمكن إجمالها على النحو التالي:

1- استمرار العقوبات الأمريكية: يعكس الموقف الأمريكي التمسك بنهج العقوبات كآلية للضغط على أنقرة لتخليها عن امتلاك المنظومة الروسية (إس-400) بل ودراسة زيادة تأثير تلك العقوبات مستقبلًا في حال استمرار أنقرة على موقفها، وانعكس ذلك من خلال تصريحات المسؤولين الأمريكيين خلال الفترة الماضية، حيث ألمح وزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكين" -المرشح آنذاك- في يناير الماضي خلال جلسة إقرار لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، إلى أهمية اتجاه واشنطن إلى مراجعة ما إذا كانت هناك حاجة لمزيد من العقوبات على أنقرة بسبب استحواذها على نظام دفاع جوي روسي. وفي أول اتصال له مع نظيره التركي في 15 فبراير الجاري، أكد على ضرورة تخلي أنقرة عن امتلاك المنظومة الروسية. وسيسهم هذا الموقف -بدوره- في زيادة درجة التوتر بين الجانبين.

2- أوضاع حقوق الإنسان: ارتباطًا بالتوجه الجديد الذي ستتبناه الإدارة الأمريكية برئاسة "جو بايدن"، من ناحية تغليب المنظور القيمي المرتبط بقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان باعتبارها الركيزة الأساسية في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه تركيا، هاجم الرئيس الأمريكي "جو بايدن" -المرشح آنذاك- في تصريحات له خلال ديسمبر 2019، الملف الحقوقي لأنقرة، واصفًا الرئيس التركي بـ"المستبد"، وندد بسياسته تجاه الأكراد، ودعا إلى دعم المعارضة. كما عبّر عن ذلك التوجه أيضًا المسؤولون بالإدارة الجديدة في تواصلهم مع المسؤولين الأتراك، وانعكس ذلك في حديث مستشار الأمن القومي الأمريكي "جيك سوليفان" مع المتحدث باسم الرئاسة التركية في 3 فبراير الجاري، وتأكيده تمسكَ الإدارة الجديدة بدعم المؤسسات الديمقراطية وحكم القانون. كما اتجهت الخارجية الأمريكية -عبر بيان لها في يناير الماضي- إلى حث أنقرة على احترام الحريات الأساسية، وإيجاد حل سريع وعادل لقضيتي كافالا ودميرتاش، مشيرةً إلى أن الحق في حرية التعبير والتجمع السلمي وتكوين الجمعيات، "أمر أساسي لأي ديمقراطية سليمة". ومن ثم، يعد هذا الملف من النقاط الخلافية التي ستفرض من خلاله واشنطن الضغط على أنقرة، بيد أن درجة تأثيره ستتحدد وفقًا لدرجة التوافق حول الملفات الخلافية الأخرى بين الجانبين.

3- تجدد الخلاف حول الملف الكردي: تُعد المسألة الكردية أحد الملفات الخلافية العالقة بين أنقرة وواشنطن والتي بلغت ذروتها خلال فترة الرئيس الأمريكي السابق "ترامب"، نتيجة تمسك واشنطن بتوفير مظلة الدعم للقوات الكردية المتواجدة على الحدود التركية في مناطق الشمال الشرقي لسوريا (وحدات حماية الشعب، وقوات سوريا الديمقراطية "قسد")، واعتمادها باعتبارها الوكيل المحلي الذي توازن من خلاله الحضور العسكري للميليشيات الإيرانية. وفي أول اختبار لتبين موقف الإدارة الأمريكية الجديدة من هذه المسألة، شككت الخارجية الأمريكية عبر بيانها الصادر في 14 فبراير الجاري، في مقتل 13 تركيًّا في شمال العراق، والذي دفعت أنقرة بمسؤولية حزب العمال الكردستاني عن العملية، حيث عبّرت واشنطن عن أنها تنتظر تأكيدًا إضافيًا حول ما أعلنته أنقرة عن ظروف مقتلهم، مؤكدة أنها تدين هذا العمل بأشد العبارات الممكنة إذا تأكدت التقارير بأن مدنيين أتراكًا قُتلوا على أيدي حزب العمال الكردستاني.

وكان لهذا الموقف أثره في زيادة التوتر بين الجانبين، حيث قامت أنقرة باستدعاء السفير الأمريكي لديها، وعبرت عن استيائها من بيان الخارجية الأمريكية، بل ذهب الرئيس التركي إلى اتهام الولايات المتحدة بدعم "الإرهابيين"، على النحو الذي تجددت معه التوترات المتراكمة بين الجانبين حول تلك المسألة.

4- استمرار النزاع بين أنقرة والناتو: من شأن توتر العلاقات الحادث بين أنقرة وأعضاء حلف الناتو على خلفية احتدام المنافسة بينهما على الموارد في منطقة شرق المتوسط، فضلًا عن تباين المصالح حول أزمات منطقة الشرق الأوسط وخاصة الأزمة الليبية؛ أن تضفي التوتر على مشهد العلاقة بين أنقرة وواشنطن التي تسعى إلى استعادة قوة الحلف من جديد في مواجهة النفوذ الروسي-الصيني، ولن يتأتّى ذلك إلا من خلال تسوية الخلافات الداخلية بين أعضائه، وهو ما تعيقه التحركات التركية المناوئة في شرق المتوسط على النحو الذي دفع الأعضاء الأوروبيين في الحلف إلى النظر إلى امتلاك أنقرة المنظومة الروسية (إس-400) والشروع في اختبارها بأنه يرتبط بمحاولة فرض الضغط عليهم لتحييد دورهم تجاه الصراع في منطقة شرق المتوسط.

5- تعزيز التقارب التركي-الروسي: شكّل السعي التركي إلى نسج إطار مصلحي مع روسيا لتعزيز مساحات حركتها خارج الدوائر المغلقة التي تفرضها عليها علاقتها بواشنطن ودول الحلف، خاصةً في ظل طموحها الإقليمي لتعزيز مكانتها الجيوبوليتيكية وحضورها الأفرو-آسيوي، أحد مساحات التوتر والخلاف بين أنقرة وواشنطن، نظرًا لتعارض هذا التقارب مع المصالح الأمريكية-الأطلسية، وبرز ذلك من خلال تباين الرؤى حول الملفات الإقليمية على غرار الأزمة السورية والليبية، هذا فضلًا عن الشراكات الاقتصادية مع روسيا في مجال الطاقة كمشروع "تركستريم" لنقل الغاز الروسي إلى تركيا وجنوب شرق أوروبا عبر البحر الأسود متجاوزًا أوكرانيا. واحتلت روسيا عام 2019 المرتبة الأولى في توريد الغاز إلى تركيا، وهو أمر من شأنه تقليص تأثير العقوبات الغربية على روسيا، وتعزيز وفوراتها المالية، هذا بالإضافة إلى التعاون المحتمل في مجال الفضاء الذي يثير التوترات أيضًا مع واشنطن، وأخيرًا وليس آخرًا تعزيز أطر التعاون العسكري من خلال شراء أنقرة منظومة الدفاع الروسية (إس-400) التي من شأنها كشف أسرار المنظومات التسليحية الغربية لموسكو، بما يخولها منافسة واشنطن بسوق السلاح العالمي، بعدما احتلت المرتبة الثانية عالميًا في تصدير الأسلحة، حسب معهد استكهولم لبحوث السلام، فضلًا عن تعزيز الوفرة المالية عبر تلك الصفقة التي بلغت نحو 2.5 مليار دولار.

وبشكل عام، تنظر موسكو إلى تعاونها مع أنقرة باعتباره يحسّن بشكل ملحوظ قدرتها على تحقيق أهداف السياسة التي وضعتها في الشرق الأوسط. وتشكل الخلافات الحالية بين أنقرة وواشنطن فرصة لها لتعميق الفجوة المتزايدة داخل حلف "الناتو"، على النحو الذي يقلل من فعاليته تجاه الملفات الحيوية بالنسبة لمصالحها. مثال على ذلك، أحدثت المواجهة بين تركيا واليونان في شرق المتوسط، والتي أدت إلى حدوث انقسام بين أعضاء الحلف، عرقلة جهود "الاتحاد الأوروبي" للتوصل إلى إجماع حول قضايا غير ذات صلة مثل بيلاروسيا.

عوامل ومحفّزات التهدئة:

ارتباطًا باحتمالية تحول الإدارة الأمريكية الجديدة نحو صياغة استراتيجية إقليمية جديدة، تقل معها كلفة الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، من خلال تفويض شركائها الإقليميين بحماية المصالح المشتركة، والحفاظ على علاقات وثيقة مع القوى المتوسطة الحجم في المنطقة، نظرًا للحاجة إلى تحويل الموارد إلى آسيا لموازنة النفوذ الصيني؛ فإنه من المتوقع أن تلعب أنقرة دورًا مهمًا في تلك الاستراتيجية نظرًا لمكانتها الجيواستراتيجية التي تعززت خلال العقد الماضي بحكم انخراطها الخشن في مناطق الصراعات ذات الأهمية الحيوية لواشنطن لموازنة النفوذ الروسي-الإيراني، على النحو الذي يُمكن من خلاله استيعاب توترات العلاقة الناشئة بين الجانبين، وذلك ارتباطًا بجملة من المحفزات الأخرى التي يمكن إجمالها على النحو التالي:

1- تقليص العقوبات الأمريكية: في إطار الوضع الاقتصادي الضاغط الذي تمر به أنقرة والذي سيتأثر بدوره بالعقوبات الأمريكية التي من شأنها التأثير على العائدات المالية للصناعات العسكرية لها، فإن درجة مرونة أنقرة في التماهي مع المصالح الأمريكية واعتباراتها الأمنية فيما يتعلق باستحواذها على المنظومة الروسية (إس-400) ستتعزز وفقًا لاتجاه واشنطن إلى تقليص عقوباتها على النحو الذي يسهم في تعزيز الوضع الاقتصادي التركي بما قد يدعم الرئيس التركي الذي تعكس المؤشرات تراجع شعبيته ومكانته في صفوف القواعد الانتخابية لحزب العدالة والتنمية.

2- خفض التوتر بين أنقرة وأعضاء الناتو: أبدت أنقرة استعداداً لفرض التهدئة مع كل من اليونان وقبرص في منطقة شرق المتوسط، حيث أوقفت عمليات التنقيب بالمناطق المتنازَع عليها مع قبرص، وبدأت مباحثات مع اليونان في 25 يناير الماضي، وعقدت الاجتماع الفني الثامن في مقر "الناتو"، لتأسيس آليات تجنب حدوث مناوشات شرق المتوسط، وذلك في إطار اجتماعات تعزيز الثقة التي بدأها الجانبان بمقر حلف "الناتو" في بروكسل. 

ومن شأن هذه الخطوات أن تُلقي بحجر في مياه التوتر الراكدة بين أنقرة وأعضاء الحلف، على النحو الذي ينعكس إيجابًا على مسار فرض التهدئة بين واشنطن وأنقرة ومحاولاتها تصفير المسائل الخلافية بينهما.

3- تحييد التقارب التركي-الروسي: يظلّ التقارب التركي-الروسي من المسائل الخلافية الرئيسية في توتر علاقة واشنطن بأنقرة وكذلك علاقاتها الأطلسية، نظرًا لما يشكله هذا التقارب من ثغرات في تماسك الحلف، وهو ما تستهدفه موسكو لتعزيز مساحات حركتها في فضائها الحيوي وخارجه الذي ظلت حبيسة له لسنوات طويلة، بشكل يعيد لها أمجاد نفوذها في الماضي، وهو ما يمكن تحقيقه عبر بوابة التعاون مع أنقرة ذات الميول الأوراسية.

ومن ثمّ سيفرض هذا الوضع على أنقرة الساعية لخفض توتر علاقتها بواشنطن وأعضاء الخلف أن تتخذ من الخطوات ما يضمن تحييد هذا التقارب تجاه المصالح الأمريكية وحلفائها من دول الحلف، ويأتي في مقدمة تلك الخطوات حسم ملف المنظومة الروسية (إس-400)، خاصة في ظل مراعاة أنقرة للخطوط الحمراء التي لن تسمح واشنطن بتجاوزها على غرار نشر ونصب المنظومات الروسية توطئة لتشغيلها، وقد تلجأ أنقرة في معالجة هذه المسألة إلى نموذج التعامل اليوناني في تعامله مع المنظومة الروسية (إس-300)، حيث قامت بإرجاء تشغيلها وتخزينها في مستودع عسكري بجزيرة كريت استرضاءً للناتو. أو القيام بانتهاك "وثيقة المستخدم النهائي" للمنظومة، ببيعها لطرف ثالث أو تسريب أسرارها لحلفاء الحلف الأطلسي، في مقابل تخفيف الضغط المفروض عليها وتوفير البديل العسكري لتلك المنظومة المتمثل في منظومة "باتريوت" التي سعت أنقرة إلى الحصول عليها.

ومن بين تلك الخطوات التي ستكون أنقرة مطالبة بها أيضًا، مراجعة شراكاتها الاقتصادية مع موسكو (خاصة مشاريع نقل الغاز الروسي)، وقد يكون هذا الأمر هدفًا طويل المدى نظرًا للحاجة لتوفير بديل للعوائد الاقتصادية التي تعود على أنقرة جراء هذه الشراكات، وهو أمر لن تجد أنقرة صعوبة في فعله، خاصة في ظل سعيها للفكاك من اعتمادها الرئيسي على الغاز الروسي، وتحقيق الاستقلالية في مجال الطاقة. 

السيناريوهات المحتملة:

ارتباطًا بجملة المتغيرات والمعطيات السابقة، فإن مسار العلاقة المستقبلي بين واشنطن وأنقرة سيكون محكومًا بعدد من السيناريوهات المحتملة التي يمكن إجمالها على النحو التالي:

1- التسوية الجزئية للخلافات: في إطار الحاجة المصلحية المتبادلة بين الجانبين، سيكون من المجدي للطرفين التعاون أفضل من الخصومة لضمان مصالحهما وفق منهج أكثر براجماتية مما كانت عليه في الماضي. وهو ما يتطلب استعدادًا أكبر مما هو قائم حاليًا لتحديد الأولويات، والعمل على التسويات بهدوء، والتشاور مبكرًا لمنع نشوء خلافات، ومنع تحوّل كل خلاف إلى تهديد وجودي للعلاقة. ويعوّل في هذا السيناريو على خبرة الرئيس الأمريكي "جو بايدن" التي قضاها كعضو في مجلس الشيوخ الأمريكي ونائب الرئيس الأسبق "أوباما". 

ويُعزز من أسهم هذا السيناريو بعض المؤشرات التي شهدتها الفترة الماضية، والتي تؤكد حرص الجانبين على إزالة التوتر واستئناف التعاون من جديد في مختلف الملفات والقضايا، وبرز ذلك من خلال تراجع الإدارة الأمريكية عن التصريحات التي أصدرتها الخارجية الأمريكية في تعقيبها على واقعة مقتل 13 تركيًا شمال العراق، والتي أدانتها أنقرة واعتبرتها تصريحات داعمة لحزب العمل الكردستاني، واستدعت على إثرها السفير الأمريكي في أنقرة، ليقوم بعد ذلك وزير الخارجية الأمريكي بالاتصال بنظيره التركي في 15 فبراير الجاري، ليعرب عن تعازيه لمقتل الرهائن الأتراك في شمال العراق، مؤكدًا أن حزب العمال الكردستاني يتحمل مسؤولية الإرهاب.

أيضًا يبرز الحرص التركي على إرسال رسائل إيجابية بشأن المسائل الخلافية في علاقتها بواشنطن على غرار تحركاتها في شرق المتوسط، واحتكاكها بدول حلف الناتو في تلك المنطقة، من خلال استئناف أنقرة محادثاتها مع اليونان في يناير الماضي، وعقد بعض الاجتماعات الفنية بين الطرفين لتأسيس آليات تجنب حدوث مناوشات شرق المتوسط.

وتعكس هذه المؤشرات حرص الجانبين على تجاوز النقاط الخلافية، والبحث عن أرضيات مشتركة لاستئناف التعاون وتعزيزه تجاه الملفات ذات الاهتمام المشترك، وهو ما يجعل سيناريو خفض التوتر واللجوء إلى تسوية جزئية لبعض الملفات الخلافية على غرار منظومة الدفاع الجوي الروسية (إس-400)، في مقابل توفير البديل المكافئ لتلك المنظومة، سواء بالتعويض المادي كما وعدت واشنطن أو توفير منظومة "باتريوت"، كبادرة لبناء الثقة بين الجانبين - مطروحًا كمسار مرحلي يمكن من خلاله استيعاب التوترات حول الملفات الأخرى.

2- استمرار التوتر وارتفاع وتيرة التصعيد: في إطار غياب الفرصة البديلة وتراجع المكاسب التي يمكن أن تجنيها أنقرة من تعزيز بوصلتها تجاه الغرب الاستراتيجي (الولايات المتحدة، دول الحلف) على حساب توجهها الأوراسي ناحية كل من روسيا والصين وإيران، فإن التوتر بين الجانبين مرشح للتصعيد، خاصة تجاه الملفات التي تشكل أهمية حيوية بالنسبة لأنقرة ولا تدخلها ضمن طاولة التفاوض على غرار المسألة الكردية ودعم واشنطن لتلك العناصر في المناطق المتاخمة لحدودها في الشمال السوري. هذا بالإضافة إلى حِزم المساعدات الاقتصادية والاستثمارات التي يمكن أن تحسن الوضعية الاقتصادية لتركيا، وهو ما كانت تستهدفه في شراكاتها مع كلٍّ من روسيا والصين وإيران.

وعزّز من هذا السيناريو حالة التوتر المضاعفة التي نشأت إثر بيان الخارجية الأمريكية حول واقعة مقتل الجنود الأتراك في شمال العراق، والذي رأته أنقرة يشكل دعمًا لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه بالإرهابي، بل ذهب الرئيس التركي إلى اتهام الولايات المتحدة بدعم "الإرهابيين".

أيضًا قد يحفز من هذا السيناريو اتجاه الإدارة الأمريكية الجديدة إلى إثارة ملف حقوق الإنسان والديمقراطية التركية على النحو الذي سيثير التوتر بين الجانبين وإن كان بدرجة تأثير أقل من الملفات الخلافية الأخرى.

3- الإبقاء على الوضع الراهن وفتور العلاقة: قد يتجه الجانبان إلى الإبقاء على ديناميكيات الوضع الراهن من ناحية الفتور والسيطرة على درجات التصعيد بين الجانبين على النحو الذي يشكل خطرًا وجوديًا على العلاقة بينهما، ويؤثر على درجة التماسك في الهياكل المؤسسية التي تجمعهما، وتعد فرص تحقق هذا السيناريو مرهونة بفشل الجانبين في الوصول إلى صيغة توافقية حول الملفات الخلافية بينهما، وانسداد أفق الحوار والتفاوض المفتوح في الفترة الراهنة.