قيادة توافقية:

هل تنفرج أزمة مالي بعد تعيين رئيس انتقالي؟

27 September 2020


دخلت مالي في أزمة سياسية ومؤسسية عميقة تزايدت حدتها منذ الانتخابات الرئاسية التي جرت سنة 2018 وفاز فيها الرئيس المعزول "إبراهيم أبو بكر كيتا". وفي الحقيقة، لا تبدو الأزمة الحالية عرضية بقدر ما هي بنيوية. زاد في تعميقها انقلاب 18 أغسطس 2020. باعتبار أنه أزاح كل الطبقة السياسية المدنية، ووضع السلطة من جديد بين يدي مجموعة من ضباط الجيش، وتحليل الأحداث قد لا يبدو بمثل هذا التبسيط، باعتبار أن دخول هؤلاء الضباط للساحة السياسية جاء بدوره نتيجة عجز المدنيين في إيجاد مخرج توافقي بين مختلف العائلات السياسية والحزبية والسلطة القائمة. ومهما يكن من أمر فإن الضغوط الداخلية والخارجية أتت أكلها عندما تم يوم الاثنين 21 سبتمبر الجاري تعيين وزير الدفاع السابق "باه نداو" رئيسًا للمرحلة الانتقالية، والكولونيل "عاصمي جويتا" نائبًا له. وفي انتظار تعيين الوزير الأول الذي يفترض أن يكون مدنيًا. فما هي الدلالات السياسية لهذه التعيينات؟ وما هي المواقف المحلية والإقليمية منها؟ وإلى أي مدى يمكن أن تكون مخرجًا للمرحلة الحالية وتعقيداتها؟

تحفظات "5 يونيو" والمجتمع المدني:

لا تعكس تسمية وزير الدفاع السابق "باه نداو" وجود توافق تام بين أعضاء الهيئة التي اجتمعت يوم الاثنين 21 سبتمبر الجاري، حيث إنه لا علم للمتابعين بالكيفية التي تمت بها عملية الاختيار. لكن من المؤكد أن حركة 5 يونيو أبدت تحفظها باعتبار أنها لم تستشر في الأمر، رغم أن اللجنة الموكل لها اختيار الرئيس ونائبه تتكون من ممثلين عن حركة 5 يونيو، وشخصيات دينية، وممثلين عن المجتمع المدني. ورغم حضور أبرز مرجعيات حركة ٥ يونيو مثل "الإمام محمود ديكو" الجلسة، فالأسماء التي طرحت ثم اختيرت وعُينت لم تكن محل نقاش، إنما جاءت في صورة إملاءات أو طُرحت كأمر واقع. لكن الأكيد أن حركة 5 يونيو والتي تتشكل في تجمع القوى الوطنية كانت قد رفضت في السابق "وثيقة الميثاق" التي أصدرها المجلس العسكري بعد ثلاثة أيام من المشاورات. 

ويمثل هذا الموقف الاتجاه العام الذي تبنّته الحركة التي دعت للإطاحة بالرئيس المعزول، وقادت الاحتجاجات من أجل ذلك منذ الانقلاب العسكري، والذي يعكس خشية المدنيين من سيطرة الجيش على مقاليد السلطة في المرحلة الانتقالية وما بعدها أيضًا. لذلك أكدت في أكثر من مناسبة على ضرورة أن تكون القيادة السياسية للمرحلة الحالية بيد المدنيين. ويمكن القول إن هذا الموقف الذي يتراوح بين الرفض والتحفظ يمثل ضغطًا على العسكريين لعدم التمادي في السيطرة على كل مفاصل سلطة المرحلة الانتقالية، أو استبطان نية البقاء في الحكم لمرحلة طويلة. وإن تم إعلان أن هذه المرحلة ستكون في حدود 18 شهرًا. لكن بالنسبة للمدنيين لا توجد في النهاية ضمانات حقيقية بعد، وبالتالي ستظل حركة 5 يونيو بشعبها ورموزها (الدينية والمدنية) تراقب تطور الوضع، ومستعدة للتحرك من جديد واحتلال الشارع. 

"باه نداو".. شخصية توافقية:

يبدو أن تحفظات المعارضة غير جدية في واقع الأمر، والمجلس العسكري يعلم ذلك. فإن كان "باه نداو" أحد رجالات النظام السابق -وزير الدفاع- إلا أنه عرف بمواصفات قيادية إيجابية، وبحكمة سياسية أكيدة، باعتبار أنه لم يكن صاحب خبرة في القيادة ومعرفة مختلف ملفات البلاد فقط، وإنما كان في الكثير من المحطات التاريخية المهمة صاحب موقف مميز وجريء، سواء في العلاقة بين السلطة والمعارضة أو بعض القضايا المرتبطة بالعلاقات مع دول الجوار والقوى الدولية المؤثرة، خاصة في بعض الملفات الحرجة مثل ملف المصالحة المعروف بمعاهدة الجزائر عام 2015.

لذا لا يمكن للمعارضة أن تشكك في قيمة الرجل وخبرته وتاريخه، مهما كانت علاقته الرسمية أو الشخصية مع مختلف الأنظمة السابقة ورموزها منذ حكم "موسى تراوري" إلى مرحلة "أبو بكر كيتا".

من جهة ثانية، وبصفته عسكريًّا بارزًا ووزيرًا للدفاع سابقًا، ومعروفًا بين العسكريين بمواصفاته المهنية الصارمة؛ يبدو أنه شخصية مقبولة لديهم، كما أنه يمتلك مشروع إعادة بناء وإصلاح الجيش المالي؛ إلا أن استقالته من منصبه عام 2015 منعته من إتمام مشروعه. وهنا تُطرح تساؤلات حول علاقته بقائد المجموعة العسكرية "عاصمي جويتا". فبعض المعطيات تذهب للقول إن "باه نداو" قد يكون أحد شخصيات الظل التي كانت تقف وراء الانقلاب، لكنه لم يظهر للعلن بسبب خلافات كانت له مع أحد أبرز الحاشدين لمظاهرات مالي وهو الإمام "محمود ديكو" أثناء توليه وزارة الدفاع. فرجل الدين كان يتهمه بعجزه في تسوية بعض الملفات الأمنية وخاصة ما يتعلق منها بالتمرد العسكري في الشمال والقضاء على الحركات الإرهابية. لكن اختلفت الأمور اليوم، فالإمام "ديكو" ومن ورائه الشخصيات الدينية والمدنية عامة، يدركون جيدًا أهمية مواصفات الرئيس الجديد في طمأنة المحيط الإقليمي والدولي.

الدعم الدولي:

لكن هل مواصفات وشخصية "باه نداو" مقبولة لدى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا؟ فهذا الإطار الإقليمي المؤثر في المنطقة اشترط أن تكون قيادة المرحلة الانتقالية بيد المدنيين، وبالتالي يفترض أن يكون الرئيس مدنيًّا. ولا يبدو أن للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا اعتراضات تذكر على شخصية عسكرية معروفة ولها تاريخ في التعامل مع الدول المجاورة لكنها شخصية متقاعدة، فالرجل اليوم يمكن أن يعد مدنيًّا، كما عُرف عنه قبوله الاتفاق العسكري الموقع مع فرنسا سنة 2014، وعُرف عنه كذلك عدم قبوله ببعض بنود اتفاق الجزائر الموقّع سنة 2015. 

قد يكون للرجل إذن قبول لدى منظمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا وفرنسا، وفيما يتعلق بالجزائر، فعلى الرغم من أن "باه نداو" يُعد أحد خريجي المدرسة العسكرية الفرنسية، إلا أنه أيضًا، مثله مثل بعض أعضاء المجموعة الانقلابية، محسوب على المدرسة العسكرية السوفيتية، ويتقن اللغة الروسية، وهذا قد يجعله -إلى حدٍّ ما- قريبًا من الجزائر أو يمثل معها نقطة التقاء. وقد أعلن "باه نداو" في خطاب تسلمه السلطة يوم الجمعة ٢٥ سبتمبر ضرورة الإسراع في تنفيذ اتفاقية الجزائر.

لذا يُمكن القول إن الرجل يمثل بصورة ما محور التقاء لمختلف القوى المحلية والإقليمية والدولية، وكل منها يرى في شخصه وبرنامجه شخصية مطمئنة يسهل التعامل معها، ولا تشكل خطرًا على مصالحها، بل وقد تفتح آفاقًا للتعاون معه. لذا تتجه المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا نحو رفع العقوبات عن مالي. كما قد تظهر قريبًا مؤشرات على دعم من بعض القوى الإقليمية والدولية الأخرى لاسيما الجهات المعنية أكثر من غيرها بمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء. لكن لا يمكن أن يُتوقَّع من الرئيس ونائبه إعداد خطة طويلة المدى يفترض أن تكون برنامج الحكومة القادمة. وتبقى العيون متطلعة لإنجازات المؤسسة العسكرية في الأسابيع القادمة في مجال مكافحة الإرهاب والتهريب وكل الجرائم المرتبطة بهذه الظاهرة. وكذلك مدى قدرة الحكومة على محاربة الفساد الذي كان يُتَّهم به نظام الرئيس "كيتا" المخلوع. وكل ذلك مرتهن بمدى التعاون بين الطبقة السياسية المدنية والمؤسسة العسكرية، وتوافر المساعدات والتسهيلات الإقليمية والدولية لإدارة المرحلة الانتقالية.