جهود مستمرة:

حدود الانخراط العسكري الفرنسي في منطقة الساحل والصحراء

03 December 2019


كشف إعلان الحكومة الفرنسية عن مقتل 13 جندياً فرنسياً في مالي، في 25 نوفمبر 2019، بسبب حادث تصادم طائرتين مروحيتين خلال عملية عسكرية ضد إرهابيين، عن أن التحديات التي تواجه القوات الفرنسية الموجودة في منطقة الساحل والصحراء لا تبدو هينة، حيث أن هذا العدد يعد الخسارة الأكبر التي تعرضت لها باريس منذ عام 1983. ورغم عدم وجود تفاصيل عن أسباب الحادث حتى الآن، إذ لم تكشف لجنة التحقيق التي تشكلت للنظر فيها عن نتائجها بعد، إلا أن رئيس الأركان الفرنسي الجنرال فرنسوا لوكوانتر كان حريصاً على تكذيب ادعاءات تنظيم "داعش" بأنه مسئول عن هذا الحادث، على نحو يوحي بأن الحرب ضد التنظيمات الإرهابية ما زالت مستمرة حتى رغم الضربات القوية التي تعرضت لها في الفترة الأخيرة ورغم محاولاتها الترويج لمزاعم قد لا تتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض. 

أعباء أمنية:

ترى باريس أنها تقوم بالدور الرئيسي في مواجهة التنظيمات الإرهابية المنتشرة في منطقة الساحل والصحراء، على نحو يبدو جلياً في العمليات العسكرية التي تشارك فيها قواتها. ومع أن هذه المشاركة حققت نتائج إيجابية بارزة، على غرار نجاح العملية النوعية التي أسفرت عن قتل أحد أبرز قيادات تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" والرجل الثاني في تنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين" يحيى أبو الهام أو جمال عكاشة الذي كان يمتلك خبرات تنظيمية وعسكرية كبيرة، في 21 فبراير 2019، إلا أن ذلك جعل قواتها في مرمى نيران التنظيمات الإرهابية بشكل مستمر، وهو ما فرض مزيداً من الأعباء الأمنية عليها.

وقد دفع ذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع أمين عام حلف الأطلنطي في 29 نوفمبر 2019، إلى إعلان استعداده لإعادة النظر في أشكال العملية الفرنسية، مشيراً إلى أنه "ينتظر انخراطاً أكبر من شركاء فرنسا في الحرب على الإرهاب"، على نحو يوحي بأن باريس سوف تبدأ حملة دبلوماسية لإقناع الدول الأوروبية بالمشاركة في جهود مكافحة الإرهاب في تلك المنطقة، باعتبار أن ذلك يمثل دفاعاً عن مصالحها، حيث أن هذه المشاركة تأتي في سياق استراتيجية "الضربات الاستباقية" التي تهدف إلى منع تلك التنظيمات من الوصول إلى حدود الدول الأوروبية وتنفيذ عمليات إرهابية داخلها، على غرار ما حدث في الفترة الماضية.

وبالتوازي مع ذلك، سوف تعمل باريس على رفع مستوى التعاون الأمني والاستخباراتي مع دول تلك المنطقة، حيث أنها ترى أن ذلك يمثل متغيراً نوعياً سوف يكون لها تأثير مهم في نجاح الجهود المبذولة في الوقت الحالي لتقليص التهديدات التي يفرضها نشاط التنظيمات الإرهابية. وبالطبع، فإن ما يزيد من أهمية هذا التنسيق هو أن المعلومات أصبحت عاملاً مهماً في الحرب ضد تلك التنظيمات، خاصة بعد أن انتقلت عناصر عديدة من بعض المناطق في الشرق الأوسط، على غرار سوريا والعراق، إلى تلك المنطقة، عقب الهزائم العسكرية التي تعرضت لها وانحسار نفوذها على ضوء التطورات والترتيبات الأمنية الجديدة التي شهدتها الدولتان في الأعوام الثلاثة الأخيرة. وربما تحاول التنظيمات الإرهابية استغلال الافتقاد إلى المعلومات حول تلك العناصر من أجل تكليفها بتنفيذ عمليات إرهابية جديدة تستهدف القوات الفرنسية والمحلية فضلاً عن المنشآت الحكومية والمدنيين.

عقبات محتملة:

رغم ذلك، يتوقع أن تواجه المساعي الفرنسية عقبات عديدة في الفترة القادمة، يمكن تناولها على النحو التالي:

1- عدم تجاوب بعض دول المنطقة: ترى اتجاهات عديدة أن بعض دول المنطقة لا تبدي تجاوباً ملحوظاً مع الجهود التي تبذلها فرنسا، في ظل مخاوفها من أن ذلك قد يساهم في تكريس سيطرة الأخيرة على الترتيبات الأمنية، وربما السياسية في مرحلة لاحقة، في تلك المنطقة، بشكل قد لا يتوافق كلية مع مصالحها وحساباتها. لكن ربما يؤدي تصاعد حدة العمليات الإرهابية إلى دفع تلك الدول إلى رفع مستوى انخراطها في جهود مكافحة هذه التنظيمات، فضلاً عن أنه سيساهم في توسيع نطاق التنسيق بين فرنسا والدول المشاركة بالفعل في تلك الجهود، على غرار مالي، وهو ما يبدو جلياً في تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي، في أول ديسمبر 2019، التي قالت فيها أن "تشاد وافقت على تعبئة مزيد من الجنود في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينافاسو".

2- تباين الأولويات: لا يمكن الحديث عن سياسة أوروبية واحدة إزاء التهديدات التي تفرضها التنظيمات الإرهابية في تلك المنطقة، حيث تتباين رؤى وسياسات الدول الأوروبية في هذا الصدد، على نحو يمكن تفسيره في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في اختلاف أولوياتها، بين تعزيز المصالح الاقتصادية ورفع مستوى التعاون الأمني والاستخباراتي، على نحو وضع حدوداً للتنسيق بين الدول الأوروبية تجاه الترتيبات الأمنية التي يجري العمل على صياغتها في تلك المنطقة. وربما لا يمكن استبعاد وجود تباين أوروبي في ما يمكن تسميته بـ"مدركات التهديد"، حيث قد ترى بعض الدول الأوروبية أن مصادر التهديد الرئيسية التي تواجه أمنها تكمن في مناطق أخرى، على غرار سوريا، بعد أن استغلت التنظيمات الإرهابية، في الأعوام الماضية، موجات اللاجئين والمهاجرين، من أجل تجاوز الإجراءات الأمنية التي اتبعتها تلك الدول، على نحو دعم قدرتها على تنفيذ عمليات إرهابية داخل بعض العواصم والمدن الأوروبية.

3- تعقد خريطة التنظيمات الإرهابية: أدى تردي الأوضاع الأمنية وتصاعد حدة عدم الاستقرار على المستويات المختلفة إلى تعزيز قدرة التنظيمات الإرهابية على الانتشار والتمدد في تلك المنطقة، على نحو شكل في النهاية خريطة معقدة لتلك التنظيمات، يصعب التعامل معها دون أن يكون هناك تنسيق عالي المستوى بين القوى الإقليمية والدولية المناوئة لها. فإلى جانب المجموعات "القاعدية" الموجودة على غرار تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، وفروعه المختلفة مثل "إمارة الصحراء" و"المرابطون" و"عقبة بن نافع"، توجد بعض المجموعات "الداعشية"، مثل مجموعة "داعش في الصحراء الكبرى" التي يقودها أبو الوليد الصحراوي، والتي اختفت لفترة ثم عادت مجدداً لتمارس نشاطها مطلع عام 2018. وبالطبع، فإن ذلك يساهم في تشتيت جهود القوى المعنية بالحرب ضد الإرهاب، وتعزيز قدرة التنظيمات الإرهابية على استهدافها، وهو ما يبدو جلياً في إعلان الجيش المالي، في 2 نوفمبر 2019، عن مقتل 49 جندياً في هجوم إرهابي استهدف موقعاً عسكرياً في اينديليمان بالقرب من النيجر.

4- الظهير الاجتماعي: حرصت التنظيمات الإرهابية على استقطاب دعم بعض القبائل في المناطق التي تتواجد فيها، من أجل تكوين رصيد اجتماعي يساعدها في تقليص حدة الضغوط التي تتعرض لها أو تقليل مستوى الخسائر التي تتكبدها في مواجهاتها مع القوى المناوئة لها، وهو ما يعني أن العمليات العسكرية التي تقوم بها الأخيرة يمكن أن تتسبب في نشوب توترات عرقية وقبلية في بعض المناطق تؤدي إلى استمرار حالة عدم الاستقرار التي تعاني منها في الأساس.

وعلى ضوء ما سبق، يمكن القول إن الحرب ضد التنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء سوف تستمر خلال المرحلة القادمة دون تراجع، بعد أن كشفت التطورات التي شهدتها تلك المنطقة في الفترة الأخيرة عن أن هذه التنظيمات ما زالت لديها القدرة على مواصلة عملياتها رغم كل الضربات التي تتعرض لها.