الشريك المحتمل:

تحولات العلاقة بين القوى الدولية والميليشيات في الإقليم

10 November 2016


تتعدد مؤشرات التغير في أنماط العلاقات بين القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وهما أبرز الفاعلين الدوليين المعنيين بأزمات منطقة الشرق الأوسط، وبين الفاعلين من غير الدول المنخرطين في الأزمات ذاتها. 

وبينما كانت واشنطن تنتقد أدوار تلك الأطراف في وقت سابق، وتسعى إلى دعم قوى مناهضة لها في الصراعات المختلفة، إلا أنها قامت مؤخرًا -على ما يبدو- بتغيير تلك الاستراتيجية، بهدف توظيف دعمها لصالح بعضها، مثل ميليشيا "الحشد الشعبي" والأكراد في العراق وسوريا، كجزء من استراتيجية عامة لمكافحة التنظيمات الإرهابية على غرار "داعش" و"القاعدة".

ومن هنا ترجح اتجاهات عديدة أن يتصاعد تأثير هذا التحول الملحوظ في العلاقات بين واشنطن وتلك الأطراف في المستقبل ضمن عملية إعادة صياغة الترتيبات الأمنية في مناطق الصراعات.

أما موسكو، ورغم أنها تبنت موقفًا مبدئيًّا قام على عدم دعم أو التعامل مع كيانات من غير الدول بشكل أساسي؛ إلا أن التجربة أثبتت أنها تتجه تدريجيًا إلى تبني السياسة الأمريكية نفسها وإن بدرجة أقل، خاصة في ظل خبراتها السابقة خلال فترة الحرب الباردة، والتي أكدت أن الفواعل من غير الدول كانت الأدوات التي حسمت الحرب لصالح واشنطن.

ومن هنا، ربما يمكن تفسير اتجاه روسيا إلى الانخراط في تفاهمات مع هذه الأطراف في سوريا، خاصة الميليشيات الحليفة لإيران ونظام الأسد، فضلا عن القوى الكردية التي تمارس دورًا رئيسيًا في الحرب ضد "داعش".

تفاهمات أمريكية:

بالتوازي مع تصاعد حدة العمليات العسكرية التي يقودها التحالف الدولي بمشاركة القوات العراقية ضد "داعش" في الموصل، طُرحت فكرة شن الحرب على معقل "داعش" في الرقة أيضًا، الأمر الذي يحتاج إلى ترتيبات مع حلف "الناتو" وتركيا التي سوف تستضيف مركز العمليات هناك من قاعدة "إنجيرليك" على الأرجح.

وعلى ضوء ذلك، قاد وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر، الذي قام بجولة إقليمية بدأها بمتابعة العمليات في الموصل، حيث تمارس واشنطن دورًا رئيسيًّا في إدارة وتنسيق تلك العمليات، حملة لإقناع أنقرة بدور مشترك للميليشيات الكردية في سوريا، وهى السياسة ذاتها التي تبنتها الإدارة الأمريكية من أجل تقليص حدة الخلافات بين بغداد وأربيل، إلا أن "قوات سوريا الديمقراطية" تحركت عسكريًّا وبشكل استباقي باتجاه محافظة الرقة، واللافت أنها أطلقت اسم عملية "غضب الفرات" في محاولةٍ للرد على تركيا التي تشن عملية "درع الفرات" في سوريا أيضًا، والتي تجري بناء على تفاهمات أمريكية-تركية مع "قوات سوريا الديمقراطية".

لكن اللافت أكثر هو أن واشنطن، وقبل إرساء اتفاق جديد مماثل في عملية الرقة بين الطرفين، وفرت غطاءً جويًّا لتحرك الميليشيات الكردية باتجاه محافظة الرقة، في دلالة على أن ثمة تنسيقًا منفردًا بين الطرفين، وهو ترجيح بات يكتسب وجاهة خاصة مع إشارة تقارير عديدة إلى أن واشنطن ستقدم دعمًا عسكريًّا على الأرض، بشكل يكشف عن اتساع نطاق التفاهمات بين واشنطن وأكراد سوريا أكثر من ذي قبل.

وفي هذا السياق، انتقل الدعم اللوجستي من إعداد برامج التدريب إلى تقديم مساعدات عسكرية، حيث زُودت "قوات سوريا الديمقراطية" بأسلحة قبل معركة الشدادي في ريف الحسكة في منتصف ديسمبر 2015، كما وُفِّر لها غطاء جوي في معركة استعادة منطقة "الهول" شرق الحسكة. 

أهداف متعددة:

 وربما يمكن القول إن واشنطن تسعى من خلال ذلك إلى تحقيق أهداف متعددة تتمثل في:

1- تكوين نواة عسكرية مختلفة، من خلال تشكيل ائتلاف من قوى متنوعة تحت مظلة واحدة، يمكن أن يمارس دورًا في تجاوز الانتقادات التي وُجِّهت من قبل للإدارة الأمريكية بأنها تتعامل مع قوى إسلامية مسلحة علي الساحة السورية.

2- تكريس توازن نوعي، خاصة أن "قوات سوريا الديمقراطية" تضم، إلى جانب المكون الكردي الأساسي، مكونًا عربيًّا، حيث يتكون التحالف، بالإضافة إلى "وحدات حماية الشعب الكردي"، من "قوات جيش الثوار"، و"غرفة عمليات بركان الفرات"، و"قوات الصناديد"، و"تجمع ألوية الجزيرة"، و"المجلس العسكري السوري"، و"وحدات حماية المرأة". 

3- تقويض الطموح التركي، الذي سعى، منذ اندلاع الأزمة السورية، إلى إقامة منطقة عازلة في شمال سوريا بحجة حماية السوريين من هجمات النظام وتقليص أعداد اللاجئين إلى الأراضي التركية.

 أما بالنسبة لموقف واشنطن من ميليشيا "الحشد الشعبي"، فقد انتقدت الأولى تداعيات انخراط الأخيرة في عمليات تكريت في مارس 2015 والتي شهدت أعمال عنف طائفي ممنهج. وفي هذا السياق، دعا ديفيد بترايوس الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، في تصريحات لصحيفة "واشنطن بوست" خلال عملية تكريت وتحديدًا في 21 مارس 2015، إلى تكوين قوة سنية مناوئة لتنظيم "داعش" بهدف وقف تجاوزات "الحشد الشعبي" ضد السنة، وتم التوصل إلى ما يسمى بـ"قواعد تكريت" مع الحكومة العراقية التي قامت لاحقًا بخطوات إجرائية، منها إلحاق "الحشد الشعبي" بالمؤسسة الأمنية العراقية دون دمجها في الجيش، لكن كمكون عسكري تابع للقائد الأعلى للقوات المسلحة العراقية وهو رئيس الوزراء.

 لكن من الواضح أن فكرة تكوين تيار سني مكافئ لـ"الحشد الشعبي" لم تنجح أو تتحول إلى خطة عمل، فضلا عن أن الموقف الأمريكي ذاته شهد تغييرًا ملحوظًا، إذ تحول رفض واشنطن لمشاركة "الحشد الشعبي" في العمليات إلى تأييد لا يخلو من تحذيرات من التورط في أعمال طائفية، حيث صرح السفير الأمريكي لدى العراق ستيوارت جونز، في 7 يونيو 2016، على سبيل المثال، بأن واشنطن "تحترم إسهامات الحشد الشعبي في المواجهة مع داعش"، وهي تصريحات كانت متزامنة مع عملية تحرير الفلوجة على الرغم من أن الأمم المتحدة رصدت تجاوزات عديدة في منطقة الصقلاوية غربي الفلوجة.

  فضلا عن ذلك، مارست واشنطن دورًا لتقليص حدة الاحتقان بين "الحشد الشعبي" والميليشيات الكردية على إثر تصادمات وقعت في بداية تشكيل "الحشد" في عام 2014 وخلال عمليات في جبال سنجار ومناطق أخرى تعتبرها كردستان العراق مناطق نفوذ لها.

 وقبيل إطلاق عملية الموصل مباشرة قام وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر بزيارة مسعود برزاني رئيس إقليم كردستان العراق لتثبيت عملية المشاركة في تحرير الموصل، وتجاوز تحديات المشاركة من جانب "الحشد"، لكن بعد أسبوع من العملية عاد التنافس بين "الحشد" والأكراد على كسب أرض محررة على إثر تحرك بدا وكأنه منفرد من جانب "الحشد" في تلعفر، توافر له غطاء جوي أمريكي.

تحركات روسية:

 منذ بداية العمليات العسكرية الروسية في سوريا، شكل الأكراد ما يمكن تسميته بـ"رأس حربة" في تلك العمليات، خاصة في معركة عين العرب/كوباني، وهو ما دفع موسكو إلى رفع مستوى تلك العلاقة من خلال توفير غطاء سياسي ودبلوماسي قوي، حيث فتحت ممثلية لحزب "الاتحاد الديمقراطي الكردي" في موسكو، واستقبلت قيادات الحزب في جولات متعددة، وذلك في إطار سعيها إلى التنافس مع واشنطن على استقطاب تأييد الأكراد، فضلا عن ممارسة ضغوط على تركيا بعد إسقاط المقاتلة الروسية في نوفمبر 2015. 

 وفي هذا الإطار أيضًا، نسّقت روسيا ميدانيًّا مع إيران بشأن عمل الميليشيات الطائفية المسلحة على الساحة السورية، ونطاق ومناطق تمركزها وتحركاتها، حيث كشف أمير عبداللهيان، مستشار رئيس مجلس الشورى الإيراني (مساعد وزير الخارجية سابقًا)، خلال مشاركته في منتدى سياسي في لندن، في أكتوبر 2015، عن مستوى عالٍ من التنسيق المشترك بين طهران وموسكو والنظام السوري في هذا الصدد، وذلك رغم أن اتجاهات عديدة أشارت إلى أن التعامل مع أدوار بعض تلك الميليشيات، على غرار حزب الله اللبناني، مثل محورًا لخلافات بين الطرفين في مرحلة سابقة.

دلالات مختلفة:

إن ما سبق في مجمله يطرح دلالات رئيسية ثلاث: الأولى، أنه يبدو أن هناك تنافسًا بين القوى الدولية الرئيسية المعنية بأزمات المنطقة على تأسيس علاقات مع الفاعلين الإقليميين من غير الدول من أجل توظيف أدوارهم في مناطق الصراعات المختلفة، لكن حدود هذه العلاقات مرتبطة بحسابات تلك القوى لتأثير ذلك على مصالحها وعلى توازنات القوى داخل مناطق الصراعات.

 والثانية، أن هناك تفاعلا مزدوجًا في بعض الحالات، فـ"قوات سوريا الديمقراطية"، على سبيل المثال، نجحت في تأسيس علاقات قوية مع الطرفين، خاصة في ظل دورها البارز في الحرب ضد "داعش" واعتمادها على مكونات عرقية مختلفة، على عكس بعض الميليشيات الأخرى.

 والثالثة، أن تلك العلاقات ربما تتجاوز سقف إسقاط أو إضعاف تنظيم "داعش" في العراق وسوريا، خاصةً أن هناك أدوارًا "موجلة" لبعض الفاعلين من غير الدول، لا سيما الذين حرصوا على تأسيس أجنحة سياسية وعسكرية في آن واحد، بشكل يوحي بأنهم يسعون إلى التحول، على المدى البعيد، لأطراف رئيسية لها دور في إعادة صياغة الترتيبات الأمنية والسياسية في مناطق الأزمات.