إلحاح المساعدات الدولية:

كيف يؤثر التصعيد العسكري بالمنطقة في الاقتصادين اللبناني والسوري؟

15 October 2024


تتجه الأنظار إلى الاقتصاد اللبناني وسط التصعيد الأخير بين إسرائيل من جهة وإيران وحزب الله من جهة أخرى؛ إذ من المتوقع أن يواجه النشاط الاقتصادي هناك ضغوطاً غير مسبوقة بسبب العمليات العسكرية في الجنوب اللبناني. حتى قبل هذا التطورات، كان الاقتصاد اللبناني يعاني بالفعل من تدهور اقتصادي بسبب أزمتي الديون وقطاع المصارف، مع ارتفاع الدولرة في الاقتصاد. وألحق التصعيد العسكري الأخير في منطقة الجنوب اللبناني أضراراً كبيرة بالقطاعات الحيوية مثل: الزراعة والسياحة؛ ما من شأنه أن يفاقم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في الداخل اللبناني. فإلى جانب الأزمات السابقة؛ تسببت التطورات الأخيرة في حركة نزوح كبيرة قدرت بالآلاف تجاه سوريا؛ ما يحمل سوريا أعباء مالية واجتماعية جديدة، تتجلى مظاهرها في زيادة الضغوط التضخمية والضغط على الخدمات العامة. من هنا، يتضح مدى التأثير المحتمل للتصعيد العسكري الأخير، والذي لا تقتصر خسائره المحتملة على الاقتصاد اللبناني فحسب، وإنما تمتد لباقي اقتصادات المنطقة كافة وخاصة دول الجوار.

الاقتصاد اللبناني قبل الحرب:

ليس هناك دليل على خضم ما يعانيه لبنان من ضغوط اقتصادية ممتدة، أكثر مما أشار إليه البنك الدولي سابقاً بأن "الأزمة الاقتصادية والمالية التي يشهدها لبنان تأتي ضمن الأزمات الاقتصادية الأسوأ على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر". وتتجلى مظاهر الأزمة في انكماش حجم الاقتصاد اللبناني على مدار خمس سنوات، على خلفية ركود غالبية القطاعات الاقتصادية، وعلى الأخص قطاع الخدمات، بما في ذلك السياحة.

وقد انكمش حجم الاقتصاد اللبناني بنسبة 38% في الفترة بين عامي 2018 و2022، متراجعاً من 54.9 مليار دولار إلى نحو 21 مليار دولار في الفترة المذكورة. واستمر هذا الأداء السلبي حتى العام الماضي، فقد سجل الاقتصاد اللبناني نمواً سلبياً بنسبة 0.2% في عام 2023، بعد نمو صفري في عام 2022. وبسبب فجوة النقد الأجنبي بسوق الصرف، فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 98% من قيمتها في السوق الموازية منذ عام 2019؛ مما أضعف قدرة المواطنين الشرائية بشكل كبير. في هذه الأثناء أيضاً، ارتفع معدل الفقر في لبنان من 12% في 2012 إلى 44% في عام 2022.

كما تفاقمت أزمة الديون في لبنان، وبلغت ذروتها عندما تخلفت الحكومة اللبنانية عن سداد مستحقات السندات الأجنبية المستحقة في 9 مارس 2020 بما مقداره 1.2 مليار دولار. ويتحمل لبنان أعباء مديونية تبلغ ثلاثة أضعاف حجم ناتجه المحلي، ففي عام 2022 بلغ رصيد الدين الخارجي الإجمالي نحو 67.1 مليار دولار (أو ما يعادل 309.2% من الناتج المحلي لعام 2022، البنك الدولي).

خسائر متزايدة:

إضافة إلى الأزمة الهيكلية السابقة، جاء التصعيد العسكري بين إسرائيل من جهة وحزب الله وإيران من جهة أخرى؛ ليفرض مزيداً من التحديات على الاقتصاد اللبناني المتعثر. وقد ألحقت العمليات العسكرية في جنوب لبنان أضراراً ملحوظة بقطاعي السياحة والزراعة هناك، ولم تقتصر تلك الخسائر على منطقة الجنوب اللبناني، بل امتد تأثيرها لكافة أنحاء البلاد. 

 بالأساس، تؤدي الزراعة دوراً حيوياً في الاقتصاد اللبناني؛ إذ يشكل القطاع الزراعي نحو 9% من الناتج المحلي الإجمالي. وتمثل الزراعة النشاط الاقتصاد الرئيسي لدى كثير من بلدات الجنوب، بحصة تصل 80% من ناتجها المحلي سنوياً. ومنذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023 وحتى 12 سبتمبر الماضي، تعرضت الأصول الزراعية لتدمير، جزئي أو كلي، شمل ذلك تخريب نحو 1879 فداناً من الأراضي الزراعية، إلى جانب تدمير الغابات ومعظم الثروة الحيوانية. 

وأثرت العمليات العسكرية الإسرائيلية، التي دفعت المزارعين لهجران أراضيهم، في إنتاج العديد من المحاصيل الزراعية، خاصة قطاع التبغ، وهو المحصول النقدي الرئيسي بالمنطقة. وفي المجمل، قدرت خسائر القطاع الزراعي منذ بداية حرب غزة وحتى يونيو الماضي بنحو 3 مليارات دولار وفق حسابات وزارة الاقتصاد اللبنانية، وهي مرشحة أن تتضاعف في ظل التصعيد العسكري الأخير.

وبينما كان قطاع السياحة اللبناني في طريقه للتعافي، بعد عدة أعوام من الانكماش، بات يواجه الآن رياحاً معاكسة، خاصة مع تعليق العديد من الشركات الأجنبية رحلاتها من وإلى لبنان، إلى جانب تحذير العديد من الحكومات الأجنبية من السفر إلى لبنان. كما توضح الأرقام، فقد بلغ عدد السائحين الوافدين إلى لبنان نحو 1.6 مليون سائح في عام 2023، بنمو نسبته 13.7% على أساس سنوي، مقارنة بــ1.4 مليون سائح في عام 2022. بينما بحلول النصف الأول من العام الجاري، بلغ عدد السياح الوافدين إلى لبنان نحو 630 ألف سائح، بانخفاض بنسبة 16.1% مقارنة بالفترة نفسها من العام 2023.

ومع تصاعد التوترات الأمنية مؤخراً، من المرشح أن تشهد الحركة السياحية مزيداً من التراجع حتى نهاية العام الجاري. وقد اضطرت المنشآت الفندقية والمطاعم اللبنانية (ولاسيما بمنطقة الجنوب) على إثر هذه الظروف للإغلاق، فيما انخفض معدل الإشغال بالفنادق اللبنانية إلى نحو 7% وفق بيار الأشقر، رئيس اتحاد نقابات المؤسسات السياحية في لبنان. وبالمجمل، قد يفقد القطاع السياحي إيرادات سنوية تتراوح بين 3 إلى 4 مليارات دولار؛ نتيجة التطورات الأخيرة.

كرة الثلج:

وفق التقديرات الأولية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، من المقدر أن ينكمش الاقتصاد اللبناني، في ظل توقف النشاط السياحي والزراعي وغيرهما، بنسبة 7.2% بنهاية عام 2024، وهو معدل مرشح للزيادة بنهاية العام الجاري. وإذا ما أضفنا التكاليف غير المباشرة؛ أي البنية التحتية المدمرة، فقد تزيد خسائر الاقتصاد اللبناني إلى نحو 10 مليارات دولار أو أكثر (ما يقترب من نصف الناتج المحلي اللبناني).

ويتمثل السيناريو الأكثر تشاؤماً للاقتصاد اللبناني أن تستمر التوترات الأمنية حتى العام المقبل. فكلما طال أمد الصراع، كلما زادت حدة خسائر الاقتصاد اللبناني. وسيصاحب ذلك بالتأكيد مزيداً من تراجع سعر صرف الليرة، وارتفاع التضخم. وعلى الأرجح أن تزيد الأوضاع الأمنية من احتمالية زيادة الفقر والبطالة وتدهور مستويات المعيشة أيضاً. 

وسيكون الخيار الأمثل لتخفيف حدة هذه الأزمة توفير خط تمويلي مستدام لصالح بيروت، بما من شأنه أن يعزز قدرة الحكومة اللبنانية على مواجهة الأزمة الاقتصادية الملحة بالوقت الراهن، مع توفير الاحتياجات الأساسية الإنسانية لأولئك السكان الذين نزحوا من جنوب لبنان إلى المناطق الشمالية. ومن دون حصول بيروت على المساعدات المالية الكافية، لن يكون بمقدورها أيضاً تمويل الواردات الأساسية من الغذاء والوقود والسلع الأساسية الأخرى.  

الجوار السوري:

بالأصل، تواجه سوريا تحديات اقتصادية كبيرة نتيجة الحرب المستمرة منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً، تتمثل في تراجع العملة وزيادة التضخم، ونقص الاستثمارات وغيرها من الإشكاليات الهيكلية الأخرى. وتأتي الأزمة في جنوب لبنان لتضيف أعباء جديدة على الاقتصاد السوري، بحسب تقديرات المؤسسات الاقتصادية الدولية. وهنا، قدر أن نحو 235 ألف شخص نزحوا من لبنان إلى سوريا براً خلال الفترة من 21 سبتمبر إلى 3 أكتوبر الجاري، طبقاً لمنظمة الدولية للهجرة.

من المرجح أن تؤدي موجات النزوح المتزايدة من لبنان تجاه سوريا لفرض مزيد من الضغوط على أسواق السلع الأساسية والعقارات؛ مما سينجم عنه زيادة الضغوط التضخمية بالداخل السوري. وإن كان من الممكن للحكومة السورية احتواء التضخم الناجم عن موجات النزوح المحدودة، فسيبدو الأمر أكثر صعوبة؛ إذا تزايدت تدفقات النازحين اللبنانيين لداخل سوريا، حال طول أمد الصراع. في المجمل، سيعكس أي تصعيد إضافي، التأثير المتزايد للصراع في الوضع الإنساني والاقتصادي في المنطقة وخاصة سوريا.

يأتي إغلاق معبر المصنع بين سوريا ولبنان ضمن الآثار السلبية الأخرى للصراع على الاقتصاد السوري، وذلك بعد أن تم استهدافه من قبل الجيش الإسرائيلي في الرابع من أكتوبر. ويُعد هذا المعبر حيوياً لتزويد الأسواق السورية بالسلع والنقد الأجنبي عبر وسطاء لبنانيين؛ مما يلحق إغلاقه، ولو بشكل مؤقت، بمزيد من الخسائر للاقتصاد السوري، وقد تتمثل في نقص بعض السلع، وزيادة الأسعار. تلخيصاً لما سبق، قد تتفاقم الأوضاع الاقتصادية في سوريا مع استمرار تدفق النازحين؛ مما يعقد جهود الإغاثة الإنسانية، ويزيد من التحديات في توفير الاحتياجات الأساسية لهم.

ولكن كملح إيجابي للأزمة، سوف تساعد حركة النزوح اللبنانية تجاه سوريا على تعزيز تدفقات العملات الصعبة في سوق الصرف السورية، وهو الأمر الذي رحبت به الحكومة السورية علناً، متخذة إجراءات لتيسير عمل البنوك السورية عبر المعابر الحدودية مع لبنان. ومن شأن ذلك أن يدعم سعر صرف الليرة السورية وإن كان بشكل طفيف، ذلك بالنظر إلى فجوة النقد الأجنبي الكبيرة، التي تعاني منها سوريا منذ سنوات طويلة.

ومع ذلك، يبدو أن حجم مكاسب الاقتصاد السوري من التصعيد العسكري الأخير أقل من الخسائر المحتملة، فمن المحتمل إجمالاً أن يفقد الناتج المحلي السوري ما يقارب 4.8% من قيمته في عام 2024، جراء فقدان النشاط التجاري، بالإضافة إلى أعباء توفير الخدمات العامة والضغوط التضخمية الناجمة عن استقبال تدفقات النازحين، ذلك وفق الحسابات الأولية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

 ختاماً، يمكن القول إن التصعيد العسكري في منطقة الجنوب اللبناني سيفرض ضغوطاً اقتصادية لن تقتصر على الاقتصاد اللبناني فقط، وإنما ستمتد لباقي دول المنطقة خاصة سوريا. ولتفادي حدوث سيناريو أسوأ للاقتصاد اللبناني ومزيد من تفاقم الأوضاع الإنسانية هناك؛ يقتضي الأمر توفير المؤسسات الدولية والحكومات مساعدات دولية عاجلة ومستدامة للحكومة اللبنانية، من أجل مساندة اقتصادها أثناء فترة الصراع الراهن.