محاكاة الواقع:

كيف تساعد "سيم سيتي" على بناء المدن الافتراضية؟

15 September 2024


عرض: بسنت عادل

تخيل أنك تمتلك عصا سحرية تتيح لك بناء مدينة من العدم؛ إذ يمكنك تصميم الشوارع، وبناء المباني، وحتى التحكم في حياة السكان. هذا هو جوهر لعبة "محاكاة المدينة" أو ما تعرف باسم "سيم سيتي SimCity"، لكن وراء هذه اللعبة البسيطة، تكمن قصة معقدة عن التكنولوجيا والتصميم والإبداع، فضلاً عن تأثيراتها الثقافية والاجتماعية على صعيد بناء مدن أكثر عدالة وشمولية واستدامة.

من هنا، يقدم كتاب "سيم سيتي: كيف يوضع العالم في آلة"، للكاتب تشايم جينغولد، نظرة عميقة على لعبة المحاكاة الرائدة "سيم سيتي"، ويربطها بتاريخ الألعاب والمحاكاة والحوسبة التي تتناول أسئلة وموضوعات وتقنيات تمثيلية. يستخدم جينغولد اللعبة لاستكشاف تطور تصميم المدن بدءاً من الحواسيب القابلة للبرمجة إلى المدن المصغرة المصنوعة من ورق البناء والألعاب التمثيلية، ثم المدن الافتراضية الرقمية، كما يقدم الكتاب تاريخاً غير مسبوق لشركة ماكسيس، التي تأسست لإطلاق "سيم سيتي" في السوق، ويتميز بوفرة من المواد المرئية التي تساعد على إحياء موضوعاته الواسعة، بما في ذلك مخططات مصممة بعناية لشرح تشغيل "سيم سيتي" وصور لنماذج المدن الافتراضية.

منصة للابتكار:

يقدم الكتاب استكشافاً لعالم المحاكاة الحاسوبية؛ إذ يتجاوز حدود اللعبة ليكشف عن تداخلات معقدة بين التكنولوجيا والفن والتصميم العمراني والمجتمعات، من خلال تحليل دقيق للآليات والأنظمة التي تدعم لعبة "سيم سيتي"؛ إذ يشير الكتاب إلى الطرق التي تستخدم بها هذه اللعبة تقنيات متقدمة لإنشاء عوالم افتراضية ديناميكية تتفاعل مع مدخلات اللاعب. ولا يقتصر هذا التحليل على الجانب التقني فحسب، بل يتعمق في فلسفات التصميم التي تقف وراء اللعبة؛ مما يجعلها أداة قيمة لفهم كيفية تطور الألعاب وتأثيرها في الثقافة والمجتمع.

 يطرح الكتاب أيضاً رؤى قيمة حول إمكانات استخدام ألعاب المحاكاة، كأدوات تعليمية وتخطيطية؛ إذ يمكن للتقنيات المستخدمة في "سيم سيتي" أن تسهم في تطوير حلول لمشكلات العالم الحقيقية؛ ومن ثم، فالكتاب ليس مجرد تحليل للعبة؛ بل هو دعوة لمناقشة دور التكنولوجيا في تشكيل عالمنا ومجتمعاتنا، وكيف يمكن للألعاب أن تكون أكثر من مجرد وسيلة للترفيه؛ بل أداة قوية للتعلم والإبداع.

تحاكي اللعبة نمو المدن وتطورها بشكل واقعي؛ مما يوفر للاعبين تجربة غنية ومتعددة الأوجه. ففي هذه اللعبة، يتخذ اللاعبون قرارات تؤثر بشكل مباشر في نمو وتطور المدينة؛ مما يجعلهم يشعرون وكأنهم رؤساء بلديات حقيقيين، كما أنها تقدم للاعبين أدوات قوية للتخطيط والتصميم؛ بما يحولها لأداة تعليمية قيمة في مجالات مثل: الهندسة المعمارية والتخطيط الحضري.

قدّم الكتاب تشبيهاً للمحاكاة بعملية بناء قلعة من مكعبات: كل مكعب يمثل عنصراً، ومجموعة المكعبات تشكل بنية أكبر، لكن بدلاً من المكعبات المادية، تستخدم المحاكاة عناصر افتراضية لبناء عوالم رقمية، هذه العناصر، كالمباني والسكان في لعبة بناء المدن، ترتبط ببعضها لتشكيل نظام متكامل، وتسمح هذه الأنظمة بفهم كيفية عمل الأشياء في العالم الحقيقي، وتجربة سيناريوهات مختلفة، وحل مشكلات معقدة، فألعاب مثل "سيم سيتي" لا تقتصر على تعليمنا كيفية بناء المدن؛ بل تشكل أيضاً طريقة تفكير الأفراد حول التخطيط الحضري وإدارة الموارد؛ إذ تجمع بين الجوانب الكمية والكيفية، وتتيح تحليل البيانات الإحصائية وتجربة سلوك الأفراد.

 لكن "سيم سيتي" لا تقدم مجرد نسخة طبق الأصل من الواقع؛ بل تقدم مساحة للتجريب والابتكار؛ إذ يمكن تجاوز قيود العالم الحقيقي واختبار أفكار جديدة، هذه الحرية الإبداعية، مقرونة بوجود قواعد محددة، وتشجعنا على التفكير بشكل نقدي وتحليلي، وتدفع نحو النظر إلى المشكلات من زوايا مختلفة.

رسائل خفية:

تواجه لعبة "محاكاة المدينة" مثل العديد من ألعاب الفيديو، انتقادات بسبب ما يسمى بـ"المنهج الخفي"؛ إذ قد يتم تقديم أفكار معينة بطريقة غير مباشرة؛ مما يؤثر في تصورات اللاعبين دون أن يدركوا ذلك، وقد تكون بعض هذه الأفكار غير مرغوبة أو مثيرة للجدل؛ مما يثير تساؤلات حول مدى وضوح الرسائل التي تنقلها هذه الألعاب ومدى تأثيرها في اللاعبين على المدى الطويل. ورغم هذه الانتقادات، لا يمكن إنكار أن لعبة "محاكاة المدينة" تمثل إنجازاً كبيراً في مجال ألعاب الفيديو، فهي تجمع بين المتعة والتعليم والتحدي، وتفتح آفاقاً جديدة لاستكشاف إمكانات التكنولوجيا في خدمة الإنسان.

ينتقد بعض الخبراء ألعاب الفيديو مثل "سيم سيتي" التي قد تؤثر في طريقة تفكير الأفراد بطرق غير مباشرة؛ إذ يتأثر الأفراد ببعض الأفكار التي لا ننتبه إليها، والتي قد لا تكون صحيحة تماماً، من خلال الأفكار المخفية، التي لا يتم ذكرها بشكل صريح ولكنها تؤثر في طريقة اللعب وفهم المدينة، هذه الأفكار الخفية قد تشكل طريقة تفكير الأفراد حول المدن والحكومات.

يعتقد الكاتب أن الألعاب يجب أن تكون شفافة وواضحة؛ أي أن تُظهر لنا بوضوح كيف تعمل وكيف تتخذ القرارات، فهذا يساعد الأفراد على التفكير بشكل نقدي حول ما يتم التعرض له في اللعبة. وبينما تقدم لعبة "سيم سيتي" شرحاً وافياً لآليات عملها، إلا أن النقاد يرون أنها تخفي افتراضات غير معلنة قد تؤثر في تصورات اللاعبين حول المدنية والحياة الحضرية.

وعلى الرغم من أن اللعبة تسلط الضوء على الفرق بين الواقع والخيال؛ فإنها تفرض قواعد ثابتة لا يمكن تغييرها؛ مما يحد من تفاعل اللاعبين الفعال، هذه القيود تعكس تحديات أوسع في عالم المحاكاة الرقمية؛ إذ غالباً ما تكون العمليات المعقدة غير مرئية وغير قابلة للتعديل؛ مما يدعو إلى ضرورة تطوير أدوات نقدية تساعدنا على فهم وتحدي هذه العمليات.

الصراع التكنولوجي:

شكلت الحرب العالمية الثانية حافزاً قوياً لدفع عجلة التقدم التكنولوجي قدماً بشكل لم يسبق له مثيل؛ فقد أفرزت الحاجة الملحة إلى حلول مبتكرة وبيئة خصبة للابتكار والإبداع؛ إذ عمل العلماء والمهندسون بلا كلل لتطوير تقنيات جديدة قادرة على تغيير مجرى الأحداث، من بين هذه التقنيات، برز الحاسوب كأحد أهم الاكتشافات التي غيرت وجه العالم، فقد أدى دوراً محورياً في فك الشفرات العسكرية المعقدة، وأظهر قدرات هائلة في معالجة البيانات وحل المشكلات المعقدة.

مع مرور الوقت، تطورت الحواسيب وتحولت إلى أجهزة إلكترونية صغيرة وسريعة، ومع هذا التطور، برزت الحاجة إلى طرق أكثر كفاءة ومرونة لبرمجة هذه الآلات الذكية، وكانت نقطة التحول الرئيسية هي تخزين البرامج داخل الحاسوب نفسه؛ مما سمح بتنفيذ المهام بشكل أسرع وأكثر كفاءة، وشكل بداية عصر جديد في الحوسبة. 

لم يكتف الكتاب بالتقنيات الهندسية من لغات البرمجة والأكواد؛ بل سلط الضوء على العلاقة التفاعلية بين العقل البشري والحاسوب، ويرى الكتاب أن البرمجيات هي نتاج خيال وإبداع الإنسان؛ إذ يقوم المبرمجون ببناء عوالم افتراضية داخل الحاسوب تعكس رؤيتهم وتطلعاتهم، ويقوم الكتاب بدراسة تاريخ تطور هذه العوالم الافتراضية، وكيف تأثرت بتغير العوامل الاجتماعية والثقافية والتاريخية، كما ينظر إلى البرمجيات على أنها أكثر من مجرد أداة تقنية؛ بل هي وسيلة للتعبير عن الذات، ورواية القصص، وبناء مجتمعات افتراضية، فالألعاب الإلكترونية، على سبيل المثال، ليست مجرد تسلية، بل هي وسيلة لنقل الأفكار والقيم والثقافات، وتشكيل وجهات نظرنا حول العالم من حولنا. 

محاكاة المدن المستقبلية:

يقدم الكتاب نظرة عميقة لتجربة بناء المدن الافتراضية، متجاوزاً حدود اللعبة كترفيه محض ليطرح تحليلاً شاملاً لأثرها الثقافي والاجتماعي، فمن خلال لعبة "سيم سيتي"، لا يقتصر الأمر على بناء مدن افتراضية؛ بل يتعلق بتشكيل تصوراتنا عن المدن الحقيقية وكيفية تفاعلنا معها، فقد استغلت اللعبة بشكل ماهر شغف الإنسان الأزلي ببناء وتشكيل بيئته؛ مما جعلها تتجاوز كونها مجرد لعبة مسلية لتتحول إلى ظاهرة ثقافية واسعة الانتشار.

إن تأثير "سيم سيتي" يتجاوز عالم الألعاب الرقمية ليصل إلى مختلف أوجه حياتنا، فقد ألهمت العديد من الأعمال الإبداعية، من الأفلام والمسلسلات إلى الروايات؛ مما يشير إلى عمق أثرها على الثقافة الشعبية، وبينما ركز الكتاب بشكل خاص على تأثير اللعبة في الثقافة الغربية، إلا أنه يدعونا إلى توسيع نطاق البحث لدراسة كيفية استقبالها في ثقافات مختلفة؛ مما يساعدنا على فهم تأثيرها العالمي المتنامي.

 لكن لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فـ"سيم سيتي" تُعد نافذةً مشرعة على إمكانات التكنولوجيا في تشكيل مستقبل مدننا. فمن خلال محاكاة عملية بناء المدن، تسمح لنا اللعبة بتجربة أفكار جديدة وحلول مبتكرة لمشكلات العالم الحقيقية قبل تطبيقها على أرض الواقع؛ فباستخدام أدوات المحاكاة، يمكننا تخطيط مدن أكثر استدامة، وتوقع التحديات المستقبلية، وتطوير استراتيجيات للتعامل معها.

مع ذلك، يُنبهنا الكتاب إلى أهمية استخدام هذه التكنولوجيا بشكل مسؤول؛ فالقرارات التي نتخذها في عالم المحاكاة يمكن أن تكون لها عواقب حقيقية على تصميم مدننا ومجتمعاتنا؛ لذلك، يجب أن نكون واعين بالآثار الأخلاقية والقيمية لهذه التقنيات، وأن نسعى إلى استخدامها لبناء مدن أكثر عدالة وشمولية؛ حيث تسود مبادئ الاستدامة والمساواة.

ختاماً، فإن مجال الحوسبة شهد تطورات هائلة على مر السنين، بدءاً من الحواسيب الضخمة إلى الأجهزة المحمولة، ومن بين هذه التطورات، برزت النماذج الحسابية المعقدة مثل الأوتوماتا الخلوية؛ ويعكس هذا التطور التنوع الكبير في تطبيقات الحوسبة وكيف يمكن لأفكار بسيطة أن تؤدي إلى نتائج معقدة ومفاجئة، فالمحاكاة ليست مجرد شيء نفعله؛ بل هي أيضاً شيء نتحدث عنه ونكتبه ونفكر فيه؛ مما يساعدنا على فهم المحاكاة بشكل أفضل ونشرها بين الناس.

المصدر:

Chaim Gingold, Building SimCity: How to put the world in a Machine, The MIT Press, 2024.