إصلاحات ضرورية:

كيف ينجو الشرق الأوسط من أزمات ندرة المياه؟

06 May 2024


عرض: سارة عبدالعزيز

في الوقت الذي يعاني فيه ما لا يقل عن نصف سكان الكوكب (4 مليارات نسمة) من نقص المياه لمدة شهر واحد على الأقل في السنة. فإنه من المتوقع بحلول عام 2025، أن يواجه 1.8 مليار شخص "شُح المياه المطلق"، وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة. وفي مواجهة هذه المشكلة، أصدرت جمعية الأمم المتحدة للبيئة، في مارس، قراراً يدعو الدول إلى إدارة النظم البيئية المائية، بشكلٍ أفضل وتعزيز تعاونها في مجال المياه لدعم التنمية المستدامة. كما سلط يوم المياه العالمي لعام 2024، الضوء على الدور المحوري الذي تؤديه المياه في إرساء السلام والاستقرار أو إشعال فتيل النزاع على المستوى العالمي.

في هذا الإطار، تأتي أهمية تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) في واشنطن، المعنون بـ"مواجهة الندرة: المياه ومستقبل الشرق الأوسط"، في مارس 2024، والذي أعدته الباحثة ناتاشا هول، زميل أول في برنامج الشرق الأوسط في المركز. ويستعرض التقرير أهم نتائج مقياس تجارب انعدام الأمن المائي (WISE) الصادر عن المركز ذاته، مع التركيز على وضع دول الشرق الأوسط في ذلك المقياس، ثم السياسات والتجارب المختلفة لمواجهة ندرة المياه في المنطقة. 

مقياس الأمن المائي:

تُعد مقاييس تجارب انعدام الأمن المائي (WISE) بمثابة أدوات مبتكرة يستخدمها الباحثون وصناع القرار على حد سواء؛ بهدف تعزيز القدرة على قياس التجربة الحياتية لانعدام الأمن المائي، وترجمة هذا الفهم إلى إجراءات إنمائية تسهم في تنفيذ السياسات. وقد تم استخدام مقاييس تجارب انعدام الأمن المائي (WISE) من خلال جمع بيانات جميع الدول باستخدام مقياس (IWISE) في استطلاعي مركز غالوب العالمي لعامي 2020 و2022؛ إذ يقيس تجارب الإنسان مع المياه، وما إذا كان بإمكان الأفراد الوصول بشكل موثوق إلى ما يكفي من المياه للاستخدامات المنزلية؛ ومن ثم درجة انعدام الأمن المائي، ومدى انتشاره في مقياس من المتوسط إلى المرتفع.

حتى الآن، تم جمع بيانات تمثيلية على المستوى الوطني لـ40 دولة؛ مما يقدم رؤية حول الدول التي تعاني من انعدام الأمن المائي ودرجته. وجاءت الكاميرون في مقدمة الدول التي يعاني أكثر من نصف سكانها من حالة انعدام الأمن المائي (63.9%)، تليها بيرو (48.2%)، وزامبيا (48.1%). على الجانب الآخر، فإن الدول الكبرى ذات الكثافة السكانية الكبيرة مثل: الهند والصين والولايات المتحدة الأمريكية، تشهد درجة عالية من الأمان المائي. وفيما يتعلق بدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإن ربع سكان الجزائر (28.9%)، ومصر (27.2%)، وتونس (22.9%) تقريباً؛ يعانون من انعدام الأمن المائي، بينما يتمتع (85.5%) من سكان المغرب بدرجة عالية من الأمان المائي.    

تحديات شرق أوسطية: 

على الرغم من محورية الدور الذي تؤديه الممرات المائية في دول الشرق الأوسط، فقد أرجعت الباحثة أسباب أزمة المياه التي تواجهها المنطقة إلى العقود المتتالية من سوء إدارة المياه، والانفجار السكاني، وارتفاع درجات الحرارة؛ وهو ما أدى إلى تدهور أراضي المنطقة، واستنزاف إمداداتها المحدودة من المياه. ويمكن توضيح تلك التحديات على النحو التالي: 

- ارتفاع درجات الحرارة: فبحلول عام 2050، ستعيش كل دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحت ضغط مائي مرتفع للغاية. علماً بأنه إذا ارتفعت درجات الحرارة بمقدار 4 درجات مئوية، فستشهد المنطقة انخفاضاً بنسبة 75% في توافر المياه العذبة، ومن المتوقع أن ترتفع درجات الحرارة في العديد من دول المنطقة بنحو 5 درجات مئوية بحلول نهاية القرن.

- الصراعات العابرة للحدود: أما عن العلاقة بين المياه والصراعات، فقد أشارت الباحثة إلى أن الدول الأكثر عرضة لتغير المناخ هي أيضاً المتضررة من الصراعات. فدول مثل: سوريا واليمن والعراق ولبنان والأردن، هي إما متورطة في صراعات خاصة بها أو متأثرة بالعنف في الدول المجاورة. ومن ثم، فإن انعدام الأمن المائي يعرض هذه الدول للمزيد من الخطر، كما أنه قد يجرها للمزيد من الأزمات خارج حدودها. 

- التحديات الاقتصادية: تواجه دول الشرق الأوسط ارتفاع مستويات انعدام الأمن المائي في ظل العديد من التحديات الاقتصادية؛ إذ اقترن تحول الطاقة بعيداً عن الوقود الأحفوري مع إرهاق المانحين إلى تقليص الخزائن العامة لدول المنطقة. هذا بالإضافة إلى أنه من المتوقع أن تؤدي ندرة المياه المرتبطة بالمناخ إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي في الدول العربية بنسبة تصل إلى 14% بحلول عام 2050.

وعلى الرغم من التحديات السابقة، فإن الباحثة قد أوضحت بشيء من التفصيل، أن السبب الرئيس في الأزمة الحالية للمياه التي تواجهها دول منطقة الشرق الأوسط؛ هو الممارسات التي تم تبنيها في عصر التوسع في استهلاك المياه منذ خمسينيات القرن الماضي، والتي اقترنت بمعدلات مرتفعة من النمو السكاني، وهو ما دفع الحكومات نحو التوسع في الزراعة؛ ومن ثم، بدأت موارد المياه العذبة المتجددة في الانخفاض بشكل حاد.

على جانب آخر، قامت حكومات الشرق الأوسط ببناء مئات السدود، التي تم تصنيف بعضها بين أكبر السدود في العالم. إلا أن الأمر لم يقتصر على جني الفوائد فقط؛ إذ سرعان ما طفت التحديات على السطح مع انخفاض منسوب المياه، وارتفاع معدلات تبخر المياه المخزنة، وبعد عصر التوسع في استخدام المياه، نشأت المعاناة من الندرة المائية في دول الشرق الأوسط؛ نتاجاً لعوامل مضافة أخرى، من أبرزها: 

- نقص وتدهور التدفقات المائية: تعاني المنطقة من تداعيات العقود السابقة من التوسع غير المستدام في استخدام الموارد المائية؛ وهو ما أدى إلى تجفيف الممرات المائية والواحات. فأصبحت بعض الأنهار في المنطقة مجرد مجرى صغير من تدفقاتها السابقة. كما أدت مياه الصرف الصحي غير المعالجة والمياه الرمادية والجريان السطحي الزراعي إلى تفاقم ندرة المياه من خلال تلويث إمدادات المياه العذبة المحدودة؛ إذ يقضي التلوث والملوحة على ما تبقى من المياه العذبة المحدودة. 

- مخاطر الضخ الزائد لطبقات المياه الجوفية: واصلت الحكومات البحث عن المياه لتلبية الطلب غير المستدام الذي خلقته. وقدمت العديد من الدول إعانات دعم الديزل؛ مما سمح للمزارعين بضخ المياه الجوفية من أعماق متزايدة. وفي حين اتجهت دول المنطقة إلى طبقات المياه الجوفية الضحلة والعميقة لتلبية احتياجات الري، فإن المستويات الحالية لاستخدام المياه تفوق بكثير قدرات تجديد تلك المياه. 

- تقلص نصيب الفرد اليومي من المياه: مع تقلص توافر المياه، يعيش السكان على كميات أقل من المياه المتوفرة. وهو ما يوضحه مقياس الاستخدام اليومي للمياه، والذي يقيم مدى حصول السكان على المياه لتلبية احتياجاتهم الأساسية. ويتفاقم الوضع فيما يخص توافر المياه للفقراء والنازحين في المنطقة.

- عدم مواكبة السياسات الحكومية لمواجهة الندرة: على الرغم من أن الزراعة تشكل جزءاً متقلصاً من العديد من اقتصادات الشرق الأوسط، فإنها تظل مستخدماً كبيراً للمياه، كما أن هنالك نسباً من المياه المفقودة بسبب التسربات والسرقة، والتي يسميها خبراء المياه "المياه غير المدرة للدخل". على جانب آخر، نجد أنه في مواجهة الندرة المتزايدة، تضطر السلطات المحلية إلى قطع المياه عن الناس. 

- التداعيات الاجتماعية لندرة المياه: يدفع تقنين المياه المخصصة للزراعة بشكل أو بآخر أولئك الذين يعتمدون على القطاع الزراعي المتعثر لمحاولة العثور على عمل في أماكن أخرى. ومن دون شبكة أمان، ينتقل الكثير منهم إلى المدن بحثاً عن الفرص؛ مما يضاعف من الأعباء المتعلقة باستيعاب النمو الحضري السريع، وتفاقم معدلات البطالة أو معدلات الجريمة على نحو آخر. 

اتجاهات مواجهة الندرة:

في حين ترسخت ممارسات الاستخدام غير المستدام للمياه في النسيج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمجتمعات، إلا أن الطريق لا يزال مفتوحاً أمام الحكومات لتبني السياسات، التي من شأنها محاولة مواجهة حالة ندرة المياه، من خلال التركيز على إدارة المياه إلى جانب زيادة الإمدادات، وذلك من خلال ما يلي:

- تقنين الطلب الزراعي على المياه: رجحت الباحثة أن سياسات الحد من الطلب الزراعي على المياه في موطن الزراعة المستقرة، قد تشكل نقطة بداية صعبة سياسياً ولكنها ضرورية. وهنا ضربت المثال، بمشروع تقنيات ابتكارات المياه (WIT) في الأردن؛ والذي يهدف إلى مساعدة الأسر والمزارعين على تنفيذ عدد من الأنشطة والحلول البسيطة لتوفير المياه؛ إذ قسمت تكلفة كل نشاط على حجم المياه التي تم توفيرها؛ للحصول على رقم فعالية التكلفة لكل متر مكعب من المياه. وكان هذا الرقم أكبر بحوالي 170 مرة بالنسبة للاستثمارات الزراعية مقارنة بالاستثمارات المنزلية. 

- الاستعانة بالتكنولوجيا: يسهم الري بالتنقيط وأجهزة الاستشعار في تحديد التوقيتات التي تحتاج فيها التربة إلى المزيد من المياه بدقة، وهو أمر يبدو معقداً، ولكنه يطرح حلولاً منخفضة التقنية والتكلفة نسبياً. كما تقوم محطات الأرصاد الجوية الزراعية بقياس بيانات الأرصاد الجوية مثل: درجة الحرارة والأمطار ورطوبة الهواء.

- المواءمة بين برامج الحوافز والقيود: لا يكفي فقط فرض القيود على استهلاك المياه، بل تتضح بشكل جلي أهمية ضخ الحوافز للتشجيع على الحفاظ على المياه، وبصفة خاصة للمزارعين؛ إذ إن توفير الدعم المستمر للمزارعين الذين يستخدمون أنظمة الحفاظ على المياه يُعد أمراً ضرورياً على المدى القريب. وقد يكون دعم المحاصيل الأقل استهلاكاً للمياه ضرورياً أيضاً للابتعاد عن المحاصيل الأكثر استهلاكاً للمياه. 

- تبني أساليب الزراعة المائية والزراعة العمودية: تُعد هذه الأساليب من الأساليب الواعدة أيضاً؛ إذ تُمكن المزارعين من استخدام مياه أقل بحوالي (80-99%) من الزراعة في الحقول المفتوحة. كما أنه إذا أمكن تشغيل هذه الممارسات كثيفة الاستهلاك للطاقة عن طريق الطاقة المتجددة، فمن المحتمل أن يتم توسيع نطاقها.

- استخدام المياه المعالجة: تُعد إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة، أمراً آخر أكثر جدوى من الناحية السياسية؛ إذ إن معالجة مياه الصرف الصحي والمياه الرمادية تحمي إمدادات المياه العذبة، وتزيد من إمدادات المياه للاستخدامات الأخرى غير المنزلية، وتحسن النتائج الصحية، وتخفف من تغير المناخ.

- بناء الثقة للمضي قدماً: أكدت الباحثة أن هناك حاجة إلى المزيد من التخطيط والتعاون على المدى البعيد لتحسين الأمن المائي داخل الدول وفيما بينها؛ الأمر الذي يحتاج إلى المزيد من الشفافية من جانب الحكومات، والمزيد من الوعي من جانب المواطنين. كذلك فإن إشراك المجتمع المدني باعتباره حليفاً، وليس تهديداً، يمكن أن يؤتي نتائجه؛ إذ يمكن للنشطاء والعلماء والأكاديميين المساهمة في ضبط هدر المياه ورفع مستوى الوعي بين المجتمعات المحلية حول الحاجة إلى التغيير.

ختاماً، خلص التقرير إلى أنه في حين تُعد إصلاحات الممارسات غير المستدامة للمياه، ذات أساس فني تكنولوجي، إلا أن تنفيذ تلك الإصلاحات يتطلب عقلية سياسية تسعى لتطوير المزيج الصحيح من الاستثمارات والحوافز والقيود لأصحاب المصلحة في كل سياق. وإن كان التقرير قد أقر بصعوبة ذلك في ظل عقود من السلوكيات والسياسات غير المستدامة التي ترسخت لأجيال، فضلاً عن محدودية عنصر الوقت، إلا أنه يتعين على الحكومات، ومؤسسات التنمية المتعددة الأطراف، ومنظمات المعونة أن تدرك أن الاستقرار ومستقبل الشرق الأوسط؛ يتوقف على توفير هذا العنصر الأساسي للوجود الإنساني.

المصدر:

Natasha Hall, “Surviving Scarcity: Water and the Future of the Middle East”, CSIS, March 22, 2024, Accessible at: https://features.csis.org/surviving-scarcity-water-and-the-future-of-the-middle-east/.