موازنات براغماتية:

إدارة التحالفات الجيوسياسية الجديدة في آسيا الوسطى 2024

07 January 2024


تاريخياً، كانت آسيا الوسطى - والتي تتألف من كازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وتركمانستان، وأوزبكستان- بمثابة نقطة جيوستراتيجية مفصلية، تربط بين قارتي آسيا وأوروبا من خلال البنية الأساسية والتجارة والطاقة. وتُعد آسيا الوسطى أكبر إقليم مغلق بالعالم، إذ يحيط بالإقليم كل من: روسيا والصين وباكستان وإيران ودول قوقازية أخرى، وهو الأمر الذي يفرض على دول الإقليم تحدياً كبيراً.

على صعيد السياسة الداخلية والخارجية، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي، واجهت دول آسيا الوسطى معضلة كبيرة. فمن الناحية الجيوسياسية، عززت دول الإقليم بنيتها التحتية من خلال زيادة العلاقات مع الصين. ومن الناحية الاقتصادية، استهدفت دول الإقليم الأموال الغربية من أجل جلب الاستثمارات والدعم التنموي. لقد قامت دولتان رئيسيتان في آسيا الوسطى – هما كازاخستان وأوزبكستان- بتنفيذ مبدأ "سياسة خارجية متعددة الاتجاهات" بهدف اتباع نهج عملي غير أيديولوجي. وقد ساعد هذا كازاخستان وجيرانها على الانضمام إلى رابطة الدول المستقلة التي تهيمن عليها روسيا، فضلاً عن الانضمام إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) ومنظمة شنغهاي للتعاون (SCO) بقيادة الصين.

على الرغم من أن الجهات الفاعلة الدولية الغربية لم تهتم كثيراً بآسيا الوسطى فيما مضى، فإن الوضع قد تغير الآن منذ دخول دول الإقليم المشهد الجيوسياسي، إذ أصبح بؤرة اهتمام الجغرافيا السياسية في المنطقة الأوراسية. ولهذا نجد أنه وللمرة الأولى، يلتقي رئيس أمريكي برؤساء الدول الخمس لآسيا الوسطى (كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان) في الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك في سبتمبر 2023. وقد وصف رئيس الولايات المتحدة، جو بايدن، هذا اللقاء بأنه "لحظة تاريخية". وعلى الرغم من أن صيغة الحوار الدولي لمجموعة (C5+1) كانت موجودة بالفعل منذ عام 2015، فإنها كانت دائماً ما تتم على مستوى وزارات الخارجية فقط.

لقد أدى الانسحاب المفاجئ للولايات المتحدة من دولة أفغانستان المجاورة في عام 2021، إلى جانب التنافس الروسي الصيني بالمنطقة، إلى خلق سياقات لتحالفات جديدة في آسيا الوسطى. بمعنى آخر فإن الإقليم لم يعد "منطقة منسية"، بل أصبح منطقة ناشئة تتهيأ لـ"لعبة عظيمة". ومع ذلك ما تزال هناك العديد من التحديات بالإقليم، مثل: الاشتباكات على الحدود القيرغيزية الطاجيكية، والنزاعات على المياه مع أفغانستان، فضلاً عن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية. ولكن على الرغم من وجود كل هذه التحديات فإن زعماء دول آسيا الوسطى مستمرون في العمل على إضفاء الطابع المؤسسي على تحالفاتهم، خاصة فيما يتعلق بدول العالم الثالث وكذلك الاجتماعات السنوية لتهيئة الظروف للتجارة والاستثمار.

تصاعد أهمية الممر الأوسط: 

لقد أدى غزو روسيا لأوكرانيا إلى خلق الحاجة إلى ممرات بديلة لإيجاد مرونة اقتصادية وتنويع الروابط التجارية. ونتج عن ذلك ظهور ممر للنقل متعدد الوسائط، يطلق عليه اسم "الممر الأوسط لآسيا الوسطى" (ويسمى أيضاً "ممر الصين الوسطى وغرب آسيا" أو "طريق النقل عبر بحر قزوين")، وهي شبكة عبور تربط الأسواق الأوروبية بآسيا عبر دول إقليم آسيا الوسطى وبحر قزوين والقوقاز. ويُعد هذا الطريق منافساً شديداً للطرق التي تسيطر عليها روسيا. 

فقد أكد تقرير البنك الدولي الذي صدر في  عام 2023 أنه: "من خلال السياسات الصحيحة، يمكن للممر الأوسط لآسيا الوسطى الذي يربط الأسواق الصينية والأوروبية عبر آسيا الوسطى والقوقاز أن ينشط التجارة الإقليمية، ويعزز الاتصال بين البلدان على طول الطريق، ويوفر المرونة، وينوع الطرق لتجارة الحاويات بين الصين وأوروبا، موفراً بذلك الحماية للبلدان وللتوريدات من الصدمات الجيوسياسية". ولكن على صعيد آخر، فإن هذا الطريق نفسه يعاني من مشكلات تتعلق بالحدود وبنقل الشحنات، مما أدى إلى قيام أذربيجان وجورجيا وكازاخستان وتركيا بالتوقيع على "خارطة طريق" في نوفمبر 2022 للاستثمارات ذات الأولوية التي يجب تمريرها بالطريق الأوسط لآسيا الوسطى.

وعلى الرغم من أن الممر الأوسط لآسيا الوسطى ممر إقليمي، فإنه يهدف إلى زيادة تجارة البضائع بنسبة 40% بحلول عام 2030، لتصل إلى 11 مليون طن. ومن شأن السلع ذات القيمة العالية مثل: الأسمدة والمواد الكيميائية والآلات والمعادن أن تعزز معدل حركة البضائع.

إحياء "خط أنابيب الغاز D":

تستورد الصين 40% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي عبر الغاز الطبيعي المسال وخطوط الأنابيب المنقولة بحراً. ويُعد أكبر خط أنابيب بالمنطقة هو خط أنابيب غاز آسيا الوسطى D والذي يمر عبر كازاخستان وتركمانستان وأوزبكستان. وفي الوقت الحالي، تستعد شركة "بتروتشاينا" (PetroChina) - وهي شركة صينية للنفط والغاز- لاستئناف بناء وتشغيل الخط D خلال عام 2024. ويتم تمويل الخط D – الذي تم التخطيط له في البداية للاستفادة من احتياطيات غاز جالكينيش في تركمانستان التي تُعد واحدة من أكبر احتياطيات الغاز في العالم– من بنك التنمية الصيني. وكان الرئيس الصيني شي جين بينغ، قد اقترح إقامة شراكة لتنمية الطاقة بين الصين ودول إقليم آسيا الوسطى خلال قمة الصين وآسيا الوسطى والتي أقيمت في مايو 2023. 

وفي الوقت نفسه، تدرس الصين أيضاً الاقتراح الروسي بإمداد دول آسيا الوسطى بالغاز عبر كازاخستان لتلبية احتياجاتهم المحلية، بحيث يوفر ذلك لخطوط أنابيب الغاز الصيني الاحتياطيات الكافية لتزويد الصين. ومع ذلك، يجب أن يشهد كلا الاقتراحين سلسلة من المفاوضات حول تكاليف التصدير والاستيراد، والبنية التحتية، والقدرة على الاستمرار في الأشهر المقبلة. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن الصين هي أكبر شريك تجاري لقيرغيزستان وتتحمل 40% من ديون الدولة، وهو صراع اقتصادي تواجهه العديد من الدول العالقة في "فخ الديون" بسبب مبادرة الحزام والطريق الصينية. وكنتيجة لعدم القدرة على سداد القروض الصينية، شهدت كل من طاجيكستان وقيرغيزستان حصول بكين على مكاسب إقليمية وحقوق للتعدين داخل أراضيهما، وهو ما يشكل مصدر قلق عميق لدول آسيا الوسطى.

جهود هندية للحضور: 

إن الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية لآسيا الوسطى لهما قيمة قصوى بالنسبة للهند، هذا إلى جانب الروابط الثقافية والتاريخية العميقة بين الجانبين. فقد عُقدت القمة الهندية المركزية الأولى في 27 يناير 2022 عندما التقى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، برؤساء كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان. وأدت هذه القمة إلى التوقيع على "إعلان دلهي" الذي تضمن ثلاثة قرارات رئيسية. أولاً، التضامن من أجل حكومة سلمية وشاملة في أفغانستان. ثانياً، تسهيل خدمات محطة الشهيد بهشتي الواقعة في ميناء تشابهار في إيران لربط آسيا الوسطى بالهند. ثالثاً، إضفاء الطابع المؤسسي على الاجتماعات التي ستعقد كل عامين والتي من شأنها أن تركز على التجارة، والأمن السيبراني، والبنية التحتية الرقمية، وعناصر الأتربة النادرة، والاتصالات، ومكافحة الإرهاب والاتجار بالمخدرات. وفي الوقت نفسه، واجه تحالف الهند المتنامي مع آسيا الوسطى منافسة شديدة من الصين، ومبادرة الحزام والطريق، التي اخترقت بلدان آسيا الوسطى بعمق.

خروج رمزي من العباءة الروسية: 

كانت روسيا تمثل "الضامن الأمني" لدول آسيا الوسطى من خلال الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وكذلك منظمة معاهدة الأمن الجماعي. فعلى سبيل المثال، هناك حضور عسكري مكثف لموسكو في قيرغيزستان، فضلاً عن أن التحويلات المالية للعمال المهاجرين في روسيا تؤدي دوراً مهماً في اقتصاد دول المنطقة، فهي تمثل حوالي 30% من الناتج المحلي الإجمالي لقيرغيزستان. ومن جانبها، قامت روسيا أيضاً بعقد قمة روسيا وآسيا الوسطى بأستانا، عاصمة كازاخستان في 14 أكتوبر 2022. وقد أوضحت روسيا دبلوماسياً أن أوروبا والولايات المتحدة لا يمكن أن تكونا شريكتين مجديتين على المدى الطويل لدول إقليم آسيا الوسطى. 

ولكن كان هناك تحول ملحوظ في السياسة الإقليمية العامة لدول آسيا الوسطى عندما استقبل رئيس كازاخستان، قاسم جومارت توكاييف، الرئيس الروسي بوتين في 9 نوفمبر في أستانا، وخاطب الرئيس الزائر باللغة الأم. فقد كانت هذه البادرة الدبلوماسية كافية لإظهار أن آسيا الوسطى لم تعد مجرد "الفناء الخلفي لروسيا"، وأنها باتت تهدف إلى إنشاء سيادتها التاريخية والاجتماعية والثقافية الخاصة.

توجه الشرق الأوسط للإقليم:

تم الاتفاق على التعاون الإقليمي بين بعض الدول العربية والخليجية ودول آسيا الوسطى في القمة الأولى التي عقدت بالمملكة العربية السعودية في 19 يوليو 2023. وكان الموضوع الرئيسي للقمة يدور حول النسب التاريخي والأعراق المشتركة، والوحدة الإسلامية الإقليمية بين الجانبين. وتم الاتفاق على خطة تعاون 2023-2027 التي تتضمن حوار السياسات الأمنية والدبلوماسية، إلى جانب التعاون في مجالات الاستثمار والأعمال. كما قامت تركيا أيضاً بتكثيف طموحاتها الدبلوماسية والعسكرية في إقليم آسيا الوسطى، خاصةً مع عظم حجم التجارة بين الجانبين (4.7% في كازاخستان وطاجيكستان، و5.3% في قيرغيزستان، و6.4% في أوزبكستان). وفي الوقت نفسه، خلقت العلاقات العدائية بين الولايات المتحدة وإيران حافزاً ضرورياً لطهران لتعزيز علاقاتها الاقتصادية والأمنية مع دول آسيا الوسطى.

هذا وحث مؤتمر الأمم المتحدة الأخير لتغير المناخ "كوب28"، الذي عقد في نوفمبر 2023، حكومات الشرق الأوسط ودول آسيا الوسطى على محاولة التكيف مع تغير المناخ وتقليل مساهماتها في ظاهرة الاحتباس الحراري. ووفقاً لدراسات صندوق النقد الدولي الأخيرة حول كيفية التكيف مع تغير المناخ والتخفيف من الانبعاثات الضارة بالبيئة، فإن هناك حاجة ماسة إلى استثمار ما يصل إلى 4% من إجمالي الناتج المحلي للدول سنوياً لتعزيز القدرة على التكيف بشكل كافٍ مع تغير المناخ، وتحقيق أهداف خفض الانبعاثات الضارة بالبيئة بحلول عام 2030.

توسيع سياسة الجيرة الأوروبية: 

يركز الاتحاد الأوروبي حالياً على سياسة "الجيرة" لتعزيز العلاقات مع دول آسيا الوسطى، وقد تم إدراج دول الإقليم في سياسة الجوار الأوروبية الأوسع (ENP). وقد التقى رئيس قيرغيزستان، صدر جباروف، ورئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل، في 2 يونيو 2023، في شولبون آتا في قيرغيزستان كجزء من قمة آسيا الوسطى والاتحاد الأوروبي. كما حضر القمة رئيس كازاخستان، قاسم جومارت توكاييف، ونظيراه من أوزبكستان وطاجيكستان، شوكت ميرزيوييف وإمومالي رحمون. ومثّل تركمانستان نائب رئيس الوزراء، نور محمد أمانيبيسوف. 

وفي نهاية القمة، تم اعتماد تصريح مشترك شمل مجالات التجارة والاستثمارات المتبادلة ونقل التكنولوجيا والاتصال الرقمي. ويلاحظ أن الاتحاد الأوروبي يلجأ إلى الوسائل الدبلوماسية لمجازاة دول آسيا الوسطى على علاقاتها الثنائية مع روسيا بدلاً من العقوبات. كما يعمل الاتحاد الأوروبي أيضاً على تطوير "خط أنابيب بحر قزوين - البحر الأسود، وإنشاء طريق الحرير الإلكتروني السريع" لدمج أسواق الطاقة في آسيا الوسطى. ولكن نظراً لبطء خطوات الاتحاد الأوروبي للحضور في الجغرافيا السياسية لآسيا الوسطى، فإن هذا لن يمنحه نفوذاً كافياً بالمقارنة مع الصين وروسيا.

سعي اليابان لآسيا الوسطى:

من المثير للاهتمام أن اليابان قد بدأت تسعى هي الأخرى لدخول اللعبة الجيوسياسية المتمثلة في التودد لدول آسيا الوسطى. فعلى الرغم من أن طوكيو ودول آسيا الوسطى لديهما روابط تاريخية مشتركة منذ القدم، فإنه يمكن القول إن اهتمام اليابان بالإقليم بدأ يزداد حديثاً خاصةً مع تخطيط رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، لزيارة آسيا الوسطى في عام 2024 لحضور قمة افتتاحية مع قادة دول مجموعة الخمس (قيرغيزستان وأوزبكستان وكازاخستان وطاجيكستان وتركمانستان). وفي الوقت نفسه، قام الرئيس القيرغيزي، صدر جباروف، بزيارة طوكيو في الثاني من نوفمبر 2023، بهدف التقليل من اعتماد دول آسيا الوسطى على روسيا والصين. وفي مؤتمر صحفي مشترك، أكد رئيس الوزراء الياباني أهمية تطوير التحالفات مع إقليم آسيا الوسطى، خاصة فيما يتعلق بالتنمية المستدامة، ودعم البنية التحتية، وتنمية الموارد البشرية، وكذلك مختلف التبادلات بين الشعبين. هذا وقد تساعد اليابان مستقبلاً على تطوير طريق النقل في بحر قزوين والذي سيمر عبر روسيا، وقد تقدم طوكيو أيضاً التدابير اللازمة لتعزيز استخدام الطاقة المتجددة والتخلص من الكربون في دول آسيا الوسطى.

ختاماً، لقد نجحت التغيرات الجيوسياسية الحالية في إقناع دول آسيا الوسطى بالانتقال من العزلة النسبية واتخاذ وضع استراتيجي أكثر حضوراً. ولكن وبالرغم من ذلك، فإن الوجود في عالم مليء بالصراعات والصدمات الجيوسياسية يفرض على دول آسيا الوسطى أن تزن إيجابيات وسلبيات سياستها الخارجية "متعددة الاتجاهات". فمع تصاعد التعددية القطبية في السياسات العالمية، فإن آسيا الوسطى تحتاج إلى موازنة سياستها الخارجية بعناية وأن تقوم بتشكيل تحالفات، من دون الإخلال بوضعها الراهن وتوازنها الهش مع روسيا والصين والولايات المتحدة وتركيا وأوروبا.