قمة كامب ديفيد:

هل تنجح واشنطن في تأسيس "ناتو آسيوي"؟

22 August 2023


عقد الرئيس الأمريكي جو بايدن، في 18 أغسطس 2023، قمة ثلاثية، مع نظيره الكوري الجنوبي يون سوك يول، ورئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، في منتجع كامب ديفيد الرئاسي شمال العاصمة واشنطن، بولاية ميريلاند، وهي الأولى من نوعها التي يلتقي فيها القادة الثلاثة بشكل رسمي معاً، وذلك بهدف مناقشة سُبل تعزيز العلاقات المشتركة، ومواجهة التحديات الأمنية العالمية والإقليمية، في محاولة من جانب الدول الثلاث لتشكيل شراكة أمنية ودفاعية على غرار حلف "الناتو" في الغرب.

سياقات مُضطربة:

جاءت قمة كامب ديفيد الثلاثية في سياق أوضاع إقليمية ودولية يغلب عليها الاضطراب والتأزم، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:

1. تصاعد الخلاف بين الصين واليابان: شهدت الفترة الأخيرة، بروز عدد من المؤشرات التي تُدلل على توتر العلاقات بين بكين وطوكيو، إذ أجرى نائب رئيس الحزب الليبرالي الديمقراطي ورئيس وزراء اليابان الأسبق تارو آسو زيارة إلى تايوان، أثارت غضب الصين، إلى جانب الخلاف بين البلدين، بسبب رغبة طوكيو في التخلص من المياه الملوثة من محطة فوكوشيما النووية، بصرفها في المحيط، وهو الأمر الذي ترفضه الصين بشدة. وقد ترتب على هذا التوتر في العلاقات غياب أي فعاليات رسمية للاحتفال بالذكرى الـ45 لتوقيع اتفاقية الصداقة بين البلدين.

وفي السياق ذاته، فقد كان التقارب الأمني والدفاعي بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، أحد الدوافع البارزة وراء توتر العلاقات بين الأولى والصين. وتمثلت أبرز مؤشرات هذا التقارب، في موافقة طوكيو وواشنطن على التعاون بشأن التطوير المشترك لصاروخ اعتراضي، لمواجهة الصواريخ فرط الصوتية التي طورتها الصين وروسيا وكوريا الشمالية.

2. التوترات في بحر الصين الجنوبي: جاءت القمة في أعقاب التوتر الذي شهدته منطقة بحر الصين الجنوبي، على خلفية اتهام مانيلا لبكين باستهداف زوارق تابعة لها، فضلاً عن مطالبة الصين، الفلبين بإبعاد سفينة حربية مُعطلة، تركتها الأخيرة بشكل متعمد، في إحدى الجزر المتنازع عليها بين البلدين، قبل ما يزيد عن 20 عاماً، وقد أيدت واشنطن موقف الفلبين في هذه الإجراءات، الأمر الذي أثار استفزاز الصين، والتي طالبت واشنطن بالتوقف عن استخدام قضية بحر الصين الجنوبي لزرع بذور الفتنة بين دول المنطقة.

ومن جهة أخرى، فقد أجرت الصين وروسيا مناورات بحرية مشتركة في المحيط الهادئ، وتشمل تدريبات على عمليات الإنقاذ والتصدي لضربات جوية، كما قامتا بتسيير دوريات جوية مشتركة فوق بحر اليابان وبحر الصين الشرقي في يوليو 2023، وقد أسفرت تلك التدريبات عن رصد طوكيو طائرتيْن روسيتيْن لجمع المعلومات، من طراز "إل- 38"، تحلقان ذهاباً وإياباً بين بحر اليابان وبحر الصين الشرقي، الأمر الذي دفع طوكيو لنشر مقاتلات عسكرية للرد على تلك الاستفزازات، الأمر الذي يؤجج التوترات في المنطقة. 

3. استمرار استفزازات بيونغ يانغ: تشهد العلاقات بين الجارتين الشمالية والجنوبية في شبه الجزيرة الكورية توتراً ملحوظاً، وذلك في ظل تزايد استفزازات كوريا الشمالية، عبر عمليات إطلاق الصواريخ البالستية المتكررة، وخطواتها لتحديث برنامجها النووي. وقد تجلت أبرز مظاهر هذا التوتر في دعوة زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، إلى تعزيز قدرات بلاده في مجال إنتاج الصواريخ البالستية، بما فيها النووية التكتيكية. وتصريح نائب كوري جنوبي، بأن بيونغ يانغ قد ترسل قمراً اصطناعياً مخصصاً لأغراض التجسس إلى الفضاء في أواخر أغسطس أو أوائل سبتمبر من العام الجاري.

4. استعراض للقوة العسكرية: كشفت الصين وروسيا، قبل انعقاد القمة الثلاثية بأيام قليلة، عن مجموعة من أحدث الأسلحة المتطورة التي انضمت إلى ترسانتيهما العسكريتين، والتي تضمنت غواصات ومدمرات ذات قدرات تدميرية عالية. ومن بينها السفينة الروسية التي يُطلق عليها "المشروع 1224"، المخصصة لرصد الغواصات وتدميرها، والتي تمتاز بصغر حجمها وتنوع وظائفها. وكذلك، المدمرة البحرية الصينية الجديدة "نانتشانغ"، التي يُطلق عليها "القبضة الحديدية". 

نتائج القمة:

في ضوء ما صدر عن القمة من بيان مُشترك، وإعلان "مبادئ كامب ديفيد"، يمكن توضيح أبعاد ومخرجات القمة على النحو التالي:

1. تعزيز التعاون الأمني: اتفقت الدول الثلاث على تعزيز التعاون ضد التحديات الإقليمية المشتركة، وإجراء تدريبات عسكرية منتظمة، وإنشاء خط ثلاثي ساخن للتعامل مع الأزمات، بما يكرس لعلاقات طويلة الأمد. وقد وصف بايدن تعزيز الروابط بين الدول الثلاث بـ«أولوية» ستجعل الدول الثلاث أقوى في مواجهة التهديدات المختلفة. كما أكد وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، أن القمة ستمثل "حقبة جديدة من التعاون الثلاثي". علاوة على الاتفاق على عقد القمة الثلاثية سنوياً.

ومن جهة أخرى، فقد التزم بايدن ويون وكيشيدا بالتشاور الفوري في حالة وجود تهديد مُشترك، والتعاون الوثيق معاً من أجل دفاع صاروخي أقوى ضد كوريا الشمالية. ويُلاحظ أن مخرجات القمة لم تتضمن أي إشارة إلى ترتيبات أمنية رسمية تلزم الدول بالدفاع عن بعضها بعضاً، أو التزام دفاعي جماعي. وهو ما يؤشر على هشاشة التعاون العسكري بين الدول الثلاث، ولاسيما في ضوء إعلان واشنطن التزامها بالدفاع عن كل دولة بشكل منفصل عبر آليات التعاون الثنائي، وليس بشكل جماعي، وذلك بخلاف رغبة طوكيو وسيول، اللتان كانتا تأملان في الحصول على التزام أمريكي رسمي بالدفاع عن كل منهما.

2. لهجة مُتشددة ضد بكين: تمت الإشارة إلى الصين، في البيان المُشترك للقمة، بشكل مُباشر وصريح، وليس ضمنياً، حيث تم ذكر الصين باسمها الرسمي "جمهورية الصين الشعبية"، وهي المرة الأولى التي يتم فيها إدراج الصين صراحة وباسمها الرسمي في بيان مشترك بين الولايات المتحدة وبعض حلفائها، والذي تضمن إدانة الدول الثلاث ما وصفته بـ "السلوك الخطر والعدواني" للصين، و"مطالبها البحرية غير القانونية" في بحر الصين الجنوبي. وهو ما يمثل "استفزازاً كبيراً" لبكين. الأمر الذي يمكن تفسيره بأنه نتيجة على ما يبدو لنجاح الولايات المتحدة في إقناع اليابان وكوريا الجنوبية باستخدام لهجة قوية لإدانة الممارسات الصينية. وهو ما يُعد تحولاً كبيراً في توجهات ومواقف طوكيو وسيول تجاه الصين، واللتان عادة ما تتبنيان مواقف متحفظة حيال بكين مقارنة بالولايات المتحدة. وهو الأمر الذي من شأنه إثارة غضب الصين ضد الدولتين.

3. مواجهة تهديدات كوريا الشمالية: أعلنت الدول الثلاث التزامها بالنزع الشامل للسلاح النووي لكوريا الشمالية، وإنشاء مجموعة عمل لمكافحة التهديدات السيبرانية من جانب بيونغ يانغ، فضلاً عن بدء تبادل المعلومات حول اختبارات إطلاق الصواريخ التي تقوم بها بيونغ يانغ بحلول نهاية العام الجاري. علاوة على التزام الدول الثلاث باستئناف الحوار مع كوريا الشمالية من دون شروط مُسبقة. كذلك، تعهدت واشنطن بالتنسيق مع كوريا الجنوبية للرد على استفزازات كوريا الشمالية وتجاربها الصاروخية، وتلويحها باستخدام الأسلحة النووية. 

4. تطبيع العلاقات بين طوكيو وسيول: نجحت الإدارة الأمريكية، من خلال الجمع بين الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول، ورئيس وزراء اليابان فوميو كيشيدا، في القمة الثلاثية بكامب ديفيد، في إذابة جليد الخلافات التاريخية السابقة بين البلدين. وهو ما يتضح من حرص الرئيس بايدن، في مبادرة رمزية، على تنظيم هذه القمة في هذا المنتجع المرتبط بمفاوضات السلام في الشرق الأوسط، وما يعنيه ذلك من نجاح إدارته في تطبيع العلاقات بين البلدين. وقد أثنى بايدن على "الشجاعة السياسية للقائدين الآسيويين، اللذين اجتمعا رغم خصومة الماضي للعمل «كقوة خير» عبر المحيطين الهندي والهادئ وفي جميع أنحاء العالم".

ويؤشر ذلك على أن العلاقات بين طوكيو وسيول، ستتجه نحو مزيد من التعاون والانفراج في الفترة المقبلة، وهو ما سيصب في مصلحة الولايات المتحدة، في ضوء أهمية دور طوكيو وسيول لاستراتيجية واشنطن الأمنية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وذلك رغم بروز مخاوف من احتمالات حدوث خلافات دبلوماسية بين البلدين في المستقبل.

تداعيات مُحتملة:

قد تُسفر قمة كامب ديفيد الثلاثية، عن عدد من التداعيات المُحتملة، والتي يمكن تسليط الضوء عليها على النحو التالي:

1. تدشين "الناتو الآسيوي": يتمثل أحد أبرز التداعيات التي يُحتمل أن تسفر عنها القمة الثلاثية، في وضع النواة الأولى لتأسيس ما يُطلق عليه "الناتو الآسيوي"، وذلك بهدف وضع قيود على تحركات الصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ومن شأن تلك الخطوة توسيع المجال أمام التحركات العسكرية لواشنطن في المنطقة. وبالتالي، إمكانية تدخلها لصالح اليابان وكوريا الجنوبية في حالة حدوث أي نزاع مستقبلي مع الصين.

وفي المقابل، يستبعد البعض تشكيل تحالف عسكري بين الدول الثلاث، لعدم استعداد واشنطن لفتح جبهة أخرى ضدها بموازاة الجبهة الأوكرانية. وهو ما سيجعل هذه الدول تركز على تطوير التعاون الدفاعي فيما بينها، عن طريق زيادة المناورات والتنسيق وتشكيل لجان اتصال مشتركة. 

2. زعزعة الأمن والاستقرار الإقليمي: بالنظر إلى الدور القيادي للولايات المتحدة في حلف "الناتو"، فإنه من المحتمل أن يؤدي تعزيز التعاون العسكري بين الدول الثلاث إلى تعزيز علاقاتها مع "الناتو"، وهو الأمر الذي قد يترتب عليه تعزيز نفوذ هذه الدول في المنطقة، وما يطرحه ذلك من تهديدات عسكرية فيها، ما يُثير المخاوف بشأن التأثير المحتمل لذلك في مستقبل الأمن والاستقرار في المنطقة، في ظل وجود توجه لدى واشنطن لإثارة عدم الاستقرار الإقليمي، من خلال تعزيز التعاون مع حليفيها الآسيويين.

3. تنامي الاستقطاب في شمال شرق آسيا: يتوقع أن يترتب على إضفاء الطابع المؤسسي على التعاون العسكري بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، والذي دفعت هذه القمة إليه، زيادة الاستقطاب في شمال شرق آسيا، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى استفزاز بيونغ يانغ، ويزيد من مخاوفها بشأن الأمن الإقليمي. وبالتالي، اتجاهها نحو مزيد من التشدد في مواقفها، مما يعقد من إمكانية التوصل إلى حل سلمي لأزمة شبه الجزيرة الكورية. 

وهو ما يتضح من انتقاد وزير الدفاع الكوري الشمالي، كانغ سان نام، خلال مشاركته في مؤتمر موسكو الحادي عشر للأمن الدولي، للولايات المتحدة، متهماً إياها بقيادة الوضع في شمال شرق آسيا إلى حافة اندلاع الحرب النووية.

4. تنامي التقارب العسكري الصيني الروسي: شهدت الفترة الماضية تنامياً ملحوظاً في وتيرة التعاون العسكري والأمني بين بكين وموسكو. وبالتالي، فإن من شأن تحركات واشنطن وحلفائها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، أن تدفع الصين وروسيا، إلى تعزيز التعاون الاستراتيجي بينهما لمحاولة تحقيق التوازن في المنطقة، وربما عبّر عن ذلك، خلال الفترة الأخيرة، زيارة وزير الدفاع الصيني لي شانغ فو، إلى روسيا، للمشاركة في مؤتمر موسكو للأمن العالمي، بجانب المناورات التي يجريها الجانبان بشكل متكرر.

وفي التقدير، يمكن القول إن قمة كامب ديفيد الثلاثية، التي استضافها الرئيس الأمريكي، جو بايدن، وما تمخض عنها من تشدد في المواقف تجاه الصين وكوريا الشمالية من جهة، في مقابل تعزيز العلاقات بين كل من الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية من جهة أخرى، من شأنه أن يؤدي إلى زيادة حدة الاستقطاب في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ما يترتب عليه تفاقم عدم الاستقرار الإقليمي. ورغم ما أثارته القمة حول تشكيل "الناتو الآسيوي"، فإنه من غير المرجح أن يشهد المستقبل القريب تأسيس تحالف عسكري على غرار حلف "الناتو" في الغرب، وذلك في ضوء تنامي التعاون العسكري بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية، وهشاشة التعاون العسكري بين واشنطن وطوكيو وسيول وفقاً للبيان المشترك للقمة، علاوة على ارتباط تحقق ذلك بديناميات السياسة الداخلية في الدول الثلاث.