المصري اليوم:

ما بعد القمة العربية.. أسئلة استراتيجية مُلِحّة

22 June 2023


انعقدت القمة الثانية والثلاثون لجامعة الدول العربية فى المملكة العربية السعودية، فى 19 مايو، فى الوقت الذى يواجه فيه النظام العالمى «عاصفة عاتية»، ويمر الشرق الأوسط بمرحلة «إعادة تعريف». لقد كنت سعيدًا لرؤية سوريا تشارك فى اجتماعات جامعة الدول العربية على الرغم من معارضة بعض الدول العربية لذلك، بالإضافة إلى ذلك، كان للاتفاق السعودى الإيرانى الأخير تأثير كبير قبل القمة.

يعتمد نجاح القمة أو فشلها على قدرتها على معالجة ثلاثة مستويات من القضايا فى وقت واحد: قضايا الأزمات الفورية، وقضايا التحديات التى تتطلب خطط عمل قريبة أو متوسطة المدى، وقضايا المسائل الاستراتيجية المهمة التى تتطلب خطط عمل طويلة الأمد. وتُعد معالجة مثل هذه القضايا مهمة بشكل خاص خلال أوقات التحولات العالمية ومحاولات إعادة تعريف الشرق الأوسط.

معالجة الأزمات والتحديات

تستحق دبلوماسية المملكة العربية السعودية، فى فترة ما قبل القمة، كل التقدير. والدليل على ذلك هو مشاركة بشار الأسد فى القمة، مما يشير إلى التزام سوريا بالاندماج الكامل فى العالم العربى، ومعالجة القضايا السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية. وكان لإعلان عمان، فى الأول من مايو، والقرار الوزارى رقم 8914 لجامعة الدول العربية دور مهم فى المشاركة السورية، فقد أكدت مثل هذه المبادرات أهمية التقدم التدريجى المتبادل، وسلطت الضوء على أهمية بناء الثقة واعتماد ممارسات جديدة.

لقد مثّل قرار إزالة اللافتات الإيرانية من الأماكن العامة بسوريا بادرة رمزية، ولكن يظل من المتوقع أن تحافظ سوريا على ارتباطاتها الإيرانية، وذلك بغرض مواجهة الضغوط الغربية والإسرائيلية. ولذا فمن الضرورى التأكد من أن ذلك الأمر لن يأتى على حساب المصالح العربية. ومن التطورات الأخرى الجديرة بالملاحظة فى المنطقة تدخل الأردن عسكريًّا فى سوريا ضد مهربى المخدرات. وتتوقع سوريا من الدول العربية استئناف العلاقات الدبلوماسية على مستوى السفراء، وتقديم الدعم المالى لإعادة الإعمار وعودة اللاجئين والنازحين. فى حين أن هناك الكثير من الأمل فى المستقبل، ولكن يبقى من الضرورى التصرف بحكمة ورزانة.

ويُعد الصراع فى السودان من القضايا الأخرى المُلِحّة بالمنطقة، والذى أسفر عن عواقب إنسانية وخيمة وتداعيات إقليمية ضخمة. لقد كان إعلان جدة بشأن الالتزام بحماية المدنيين فى السودان، بقيادة المملكة العربية السعودية بالمقام الأول، بمثابة خطوة أولى فى معالجة الجانب الإنسانى للأزمة. ومع ذلك، كان ينبغى للقمة أن تتطرق إلى ما هو أبعد من ذلك، من خلال وضع آليات متابعة، ومراقبة، ومفاوضات بين الأطراف المتصارعة لوقف العنف وتسهيل استئناف الحوار السودانى.

وتُعد الأوضاع فى ليبيا واليمن، والعلاقات مع إيران وتركيا وإسرائيل، من بين التحديات المُلِحّة الحالية والمستقبلية بالمنطقة العربية، وفى هذا الإطار فأنا غير راضٍ عن نتائج القمة فيما يتعلق بليبيا، فعلى أقل تقدير، كان ينبغى للقمة أن تقوم بتعيين مبعوث جديد من جامعة الدول العربية خصيصًا لليبيا للتنسيق مع الأمم المتحدة وأصحاب المصلحة المختلفين بالمنطقة، فقد أنهى ناصر القدوة، آخر مبعوثى جامعة الدول العربية، خدمته بهذا الصدد منذ ما يقرب من عقد من الزمن. وكذلك، كان ينبغى للقمة أن تتخذ موقفًا من ضرورة تبنى الفصائل الليبية لبرنامج مشترك، إن لم يكن مثاليًّا، لإجراء انتخابات وطنية، وإعطاء الأولوية لتوحيد المؤسسات الحكومية بدلًا من استمرار التنافس فيما بينها.

أما على الصعيد اليمنى، فقد تم مدّ وقف إطلاق النار مرة أخرى، ونأمل أن يعزز الحوار بين إيران والمملكة العربية السعودية إحراز المزيد من التقدم فى هذا الصدد. ويبدو أن القوى الإقليمية تتحرك فى الاتجاه الصحيح فيما يخص هذه القضية، وإن كنا لا نستطيع الجزم بوجود نتيجة مؤكدة. ونظرًا لأهمية وقرب اليمن، أتوقع أن يبقى الوضع هناك على رأس أولويات القمة العربية فى الأشهر المقبلة.

التعاون حول القضايا الاستراتيجية

فيما يخص المستوى الثالث من القضايا التى يجب أن تعمل القمة العربية على معالجتها فهى تلك القضايا التى لها أهمية استراتيجية، والتى تكون فى العادة طويلة الأجل. لقد عالجت القمة المخاوف المتعلقة بالتنمية المستدامة، وندرة المياه، والإمدادات الغذائية الاستراتيجية. ومع ذلك مازلت آمل أن تتخذ قيادة القمة المزيد من الخطوات لحل مختلف القضايا المُلِحّة، وذلك من خلال تشكيل فرق عمل مشتركة. ويشمل هذا النوع من القضايا أمورًا عديدة مثل: «ندرة المياه وإدارتها»، و«أمن الغذاء والصحة العامة»، و«الأمن العربى والإقليمى، خاصة فيما يتعلق بالأسلحة النووية»، و«الآفاق السياسية والعسكرية والاجتماعية المستقبلية فى الشرق الأوسط»، و«الأدوار الجيوسياسية للقوى العظمى التقليدية والناشئة»، و«التنمية الاقتصادية وتكامل السوق العربية»، وأخيرًا «تطوير مبادئ حقوق المواطنين إقليميًّا» لتعزيز الشمولية مع احترام هوياتنا الوطنية.

لقد أظهرت الجهود الدبلوماسية الأخيرة التى بذلتها المملكة العربية السعودية روحًا جديدة من التعاون والإبداع البَنّاء، وآمل أن يؤدى ذلك إلى تسهيل التفكير الاستراتيجى.

لقد عكست لغة الخطاب الختامى للقمة العربية بجدة واقعية جديدة واحترافية كبيرة، فقد شدد هذا الخطاب على أهمية زيادة التعاون بين الأطراف العربية المختلفة بدلًا من الاعتماد على الخطاب العربى التقليدى القائم على الإجماع والمواقف المتطابقة، كما كان هناك تأكيد لأهمية تعزيز القدرات والمهارات البشرية إدراكًا لأهميتها فى تحقيق الأهداف المشتركة.

صحيح أنه تم عقد العديد من الاجتماعات الثنائية للقيادات المختلفة فى جدة، ولكن تدعو الحاجة إلى إجراء تغييرات كبيرة فى شكل انعقاد هذه الاجتماعات لتمكين القادة من الانخراط فى حوار متعدد الأطراف يتجاوز البيانات الرسمية. وبالفعل، فإن العديد من الاجتماعات الدولية الناجحة تتبنى هذا النهج لأنه يمهد الطريق لإجراء مناقشات أكثر جدوى وانفتاحًا، فضلًا عن أنه يعزز العلاقات الودية بين القادة. ولكن للأسف لم يتم استغلال مثل هذه الفرص فى هذه القمة العربية، وسيكون من المفيد معالجة ذلك فى القمم المستقبلية.

ألقيت أخيرًا كلمة رئيسية فى مؤتمر دولى كبير فى موسكو، ولم أتردد فى التأكيد أن احتلال الأراضى بالقوة، كما حدث فى أوكرانيا أخيرًا، يُعد انتهاكًا للقانون الدولى، بغض النظر عن أى أعمال استفزازية سابقة من قِبَل الغرب. ولكن على الجانب الآخر، كان من المقلق أن أجد أنه خلال انعقاد القمة العربية الإقليمية، حين اختار الرئيس الأوكرانى زيلينسكى أن يتحدث لم يأتِ على ذكر الحالة الأكثر وضوحًا للاحتلال، ألَا وهى الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية المستمر منذ سبعة عقود، مما يُعد مثالًا واضحًا على ازدواجية المعايير. وهكذا فمن خلال تجاهل الرئيس الأوكرانى لهذه القضية، فإنه يضعف من قضيته، ويُفوت الفرصة لمعالجة مسألة مهمة ومُلِحّة.

* وزير الخارجية السابق

■ يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى

*لينك المقال في المصري اليوم*