استعادة القيادة:

ماذا تريد واشنطن من إعلان استراتيجية دبلوماسية الفضاء؟

13 June 2023


على خلفية تصاعد التوترات في الفضاء الخارجي، وازدياد ازدحام المدار الأرضي المنخفض، وتنامي الاعتماد على الأقمار الاصطناعية في مختلف الجوانب الحياتية، قام مكتب المحيطات والشؤون البيئية والعلمية الدولية (OES) في وزارة الخارجية الأمريكية، ومكتب مراقبة الأسلحة والتحقق والامتثال (AVC) في الوزارة - بالتعاون مع الإدارات المعنية ومختلف الشركاء- بصياغة ما يُسمى بـ"إطار العمل الاستراتيجي لدبلوماسية الفضاء" (Strategic Framework for Space Diplomacy). وهو إطار العمل الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية في صورة وثيقة مكونة من 25 صفحة في 30 مايو 2023، وهو أقرب ما يكون إلى المبادرة الدولية الرامية إلى توطيد أواصر التعاون الدولي، وتقنين السلوك المسؤول في الفضاء الخارجي، وضمان القيادة العالمية للولايات المتحدة في هذا المجال. 

الملامح العامة: 

بشكل عام، تدور أهداف "إطار العمل الاستراتيجي لدبلوماسية الفضاء" حول ضمان التفوق الأمريكي في الفضاء الخارجي، وبناء شراكات دولية جديدة، والعمل مع الحلفاء والدول ذات التفكير المماثل، وإقرار قواعد السلوك المسؤول في الفضاء الخارجي، وبلورة نظام دولي ذي أطر وقواعد حاكمة، وحماية الولايات المتحدة وحلفائها من التهديدات الفضائية، ورفع مستوى الوعي لدى الحلفاء والشركاء بالمخاطر المُحتملة للتعاون مع المنافسين الاستراتيجيين، وربط شركاء الفضاء الناشئين والطامحين بخبرة الولايات المتحدة وسياسات الفضاء الوطنية وهياكل الوكالات الأمريكية، ودفع الابتكار التكنولوجي، وتعزيز التعاون العلمي في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. وهو ما يعني اتجاه الحكومة الأمريكية لمشاركة قدراتها (مثل تطبيقات الأقمار الاصطناعية، والاستخبارات الجغرافية المكانية، وصور الأقمار الاصطناعية، والاستشعار عن بُعد) لتحقيق تلك الأهداف.

وبعبارة أخرى، تضطلع وزارة الخارجية الأمريكية، بموجب الاستراتيجية الجديدة، بمهمة تعزيز قيادة الولايات المتحدة للفضاء ولاسيما على صعيد استكشافه واستخدامه للأغراض السلمية، وتعزيز أولوياتها الأمنية هي وحلفائها، وتحديد القواعد المنظمة لأنشطة الفضاء الخارجي (بما في ذلك الاستدامة، والتسويق، والاستكشاف، والاستخدام) من أجل تعزيز التحالفات ودعم الاستكشاف بقيادة أمريكية، وتوسيع نطاق الفوائد المكتسبة. كما ستعمل وزارة الخارجية على دفع التعاون مع وكالة "ناسا"، وكذا وزارات التجارة والدفاع والطاقة والأمن الداخلي والنقل، ومكتب مدير الاستخبارات الوطنية، ومكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا، والمجلس الوطني للفضاء، ومجلس الأمن القومي، ولجنة الاتصالات الفدرالية، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، لضمان فعالية "إطار العمل" والجهود الدبلوماسية الأمريكية في هذا الصدد.

وانطلاقاً من هذه الأهداف مجتمعة، يمكن القول إن "إطار العمل الاستراتيجي لدبلوماسية الفضاء" ينهض على ثلاث ركائز هي: النهوض بسياسة الفضاء الأمريكية من أجل الاستخدام الآمن والمسؤول له، وتعزيز التعاون الدولي لحل التحديات القائمة وبالتبعية تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية، وإمداد القوى العاملة في وزارة الخارجية بالمهارات والمعارف ذات الصلة بسياسات الفضاء. وعموماً، تجد كل ركيزة من هذه الركائز هدفاً مقابلاً لها، بما في ذلك دعم آليات نقل التكنولوجيا، وتعزيز مرونة وأمن البنية التحتية الحيوية ذات الصلة بالفضاء الخارجي، وتأكيد أهمية البيانات الفضائية في الاستجابة للكوارث وتغير المناخ مع تكثيف استخدامها.

وتقتضي تلك الأهداف طرح القضايا والأنشطة والبرامج المتعلقة بالفضاء على أعلى مستوى، واستخدام الدبلوماسية لتشكيل سياسات الفضاء العالمية، وتعزيز التعاون الفضائي، وتفعيل دور وزارة الخارجية في تتبع الممارسات الحكومية الأجنبية، وتعزيز صناعة الفضاء التجارية بالتوازي مع وضع أُطر محددة لكيفية استخدام الدبلوماسية لتحقيق تلك الأهداف، لأنها تستلزم بدورها إتاحة الفرص للقطاع الخاص، وتشجيع الدول الأخرى على تبني القواعد الأمريكية المنظمة لصناعات الفضاء التجارية، والتعاون مع رواد تلك الصناعات لحماية الأمن السيبراني للأنظمة الفضائية. 

ويوضح "إطار العمل" أن تعاون الولايات المتحدة مع "المنافسين الاستراتيجيين" للحد من تكوّن الحطام الفضائي الخطر، وتحديد أفضل الممارسات للفضاء الآمن، والاتفاق على تدابير بناء الثقة للحد من الصراعات المُحتملة؛ لا يعدو كونه تعاوناً مشروطاً بمدى التزام تلك الدول بالمعايير الدولية في الأرض والفضاء. ولذا، تجد هذه الوثيقة جذورها في سياسة الفضاء الوطنية الصادرة في عام 2020، وكذا إطار عمل أولويات الفضاء الصادر في عام 2021، و"اتفاقيات أرتميس" (Artemis) التي أطلقتها وزارة الخارجية ووكالة "ناسا" في عام 2020 وحظيت بموافقة 24 دولة، ويعود الفضل فيها لإدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. وتهدف هذه الاتفاقات إلى إنشاء إطار قانوني محدد لسلوك الدول في الفضاء، وتعزيز التعاون السلمي. لذا، تُحتم الالتزام بمجموعة من القواعد، مثل المشاركة العلنية للاكتشافات العلمية، وإنشاء مناطق آمنة تُمكّن الدول من العمل دون أية عوائق على سطح القمر.


كما يوضح "إطار العمل" تعدد التحديات التي تواجه واشنطن في هذا الصدد، لتشمل تعدد المنافسين الاستراتيجيين الذين يملكون القوى القادرة على تقويض أمن الولايات المتحدة وحلفائها في الفضاء الخارجي، مع الإشارة بصفة خاصة إلى الصين التي تسعى إلى تعزيز مكانتها العالمية وتقويض النفوذ العسكري والسياسي والاقتصادي الأمريكي في جميع أنحاء العالم، من خلال استمالة الفاعلين الفضائيين الناشئين. وبذلك، تصبح بكين المنافس الاقتصادي الرئيسي لواشنطن في الفضاء، ما يستلزم توسيع نطاق الالتزامات الدولية ضد تجارب الصواريخ المضادة للأقمار الاصطناعية، لحماية الأمن القومي الأمريكي وتعزيز صناعة الفضاء الأمريكية.

الرسائل والدلالات:

يمكن الوقوف على أبرز دلالات "إطار العمل الاستراتيجي لدبلوماسية الفضاء" الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية، من خلال النقاط التالية:

1- عدم فاعلية القيادة الأمريكية المنفردة: إن "إطار العمل" هو اعتراف ضمني بأن تعدد برامج الفضاء يجعل التعاون الدولي أمراً حتمياً لتجنب الصراعات المستقبلية المُحتملة، وأن العمل المنفرد لن يحقق الأهداف المرجوة منه في عصر فضائي جديد، وأن تعزيز التحالفات الدولية من شأنه أن يساعد الولايات المتحدة على إعادة رواد الفضاء إلى القمر، وتهيئة السُبل لإقامتهم الدائمة عليه. ولا يقتصر هذا التعاون الدولي على الحلفاء التقليديين مثل كندا وفرنسا فحسب، بل يمتد ليطال دول أخرى تسعى إلى بناء برامجها الفضائية (مثل نيجيريا، ورواندا)، ضماناً لشفافية أنشطتها الفضائية أيضاً. 

وفي هذا الصدد، يأخذ التعاون الدولي أشكالاً عدة تشمل بناء محطات أرضية فضائية للاستشعار عن بُعد في البلدان الإفريقية، وتطوير برامج الشركاء الأجانب ذات الصلة باستكشاف القمر والفضاء العميق، وبناء منشأة لإطلاق الصواريخ في جيبوتي. كما تقود وزارة الخارجية الأمريكية في الوقت الراهن جهوداً دولية عدة بهدف بناء الشراكات اللازمة للمهام الفضائية الأمريكية الحالية (بما في ذلك تلسكوب "جيمس ويب" الفضائي، وبعثات أرتميس التابعة لوكالة "ناسا"، ونظام تنسيق حركة المرور الفضائية التابع لوزارة التجارة).

2- تزايد المخاوف السيبرانية: تتعالى التحذيرات من إمكانية استهداف الأنظمة الفضائية بهجمات سيبرانية، وخاصة في أعقاب الهجوم السيبراني الذي استهدف إحدى شركات الفضاء الأمريكية. ولذا، يقود البيت الأبيض الجهود المبذولة لتعزيز الأمن السيبراني لأنظمة الفضاء، انطلاقاً من ثلاث حقائق مفادها أن الأنظمة الفضائية الفريدة والمعقدة تتطلب شراكة وثيقة بين القطاعين العام والخاص، وأن الوثائق المسربة على منصة "ديسكورد" (Discord) أظهرت خطورة التهديدات السيبرانية المُحتملة في الفضاء الخارجي ولاسيما مع اتجاه الصين إلى تطوير أدوات قرصنة للاستيلاء على الأقمار الاصطناعية في خضم الحروب، وأن هناك جهوداً سابقة لفتت النظر إلى ضرورة حماية البنية التحتية اللازمة لأنظمة الفضاء مثل لجنة (Cyberspace Solarium) التي استحدثها الكونغرس.

3- إعادة توزيع الاختصاصات: تاريخياً، عكفت وكالة "ناسا" ووزارة الدفاع الأمريكية على تنظيم الأنشطة الفضائية الأمريكية، بيد أن "إطار العمل الاستراتيجي لدبلوماسية الفضاء" ينقل جزءاً من مهام كلتيهما إلى السلك الدبلوماسي ووزارة الخارجية، تعويلاً على أهمية المساعي الدبلوماسية جنباً إلى جنب مع الجهود العلمية والعسكرية. وبعبارة ثانية، يعكس هذا الإطار ضرورة اقتران الجهود العسكرية بالقوة الناعمة التي يمارسها الدبلوماسيون من خلال تدريب جيل جديد من دبلوماسي الفضاء كي يمتلكوا الخلفية التقنية اللازمة؛ فالأهمية المتزايدة للفضاء تحتم وجود خبراء فضاء من غير التقنيين على الطاولة عند مناقشة القرارات المهمة. وجدير بالذكر هنا أنه في العام الماضي، نشرت مجلة (American Foreign Service Association) مقالاً يدعو العاملين في مجال الشؤون الخارجية الأمريكية إلى "إتقان لغة الفضاء" على اختلاف تخصصاتهم. 

4- تعاظم الأدوار العسكرية والتجارية لأنظمة الفضاء: يؤكد "إطار العمل" تزايد أهمية أنظمة الفضاء لكل قطاعات البنية التحتية الحيوية الأمريكية، بجانب تزايد أهميتها في الأعمال العسكرية والاستراتيجية، مثل: الاستجابات الدولية للكوارث، ومكافحة تغير المناخ، وتتبع الصيد غير القانوني، ومتابعة تدفقات اللاجئين، ومراقبة الامتثال لمعاهدة الحد من الأسلحة، وتقديم الأدلة على جرائم الحرب أو حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان. وهو الأمر الذي دللت عليه الحرب الروسية الأوكرانية التي برز فيها بشكل جلي تزايد الاعتماد على تكنولوجيا الفضاء التجارية، بعد أن أمد الإنترنت الفضائي أوكرانيا بخدمات الإنترنت على الرغم من القصف الروسي، واستُخدمت الأقمار الاصطناعية لمتابعة تطورات المعارك العسكرية في وقتها الحقيقي. 

5- تقويض الخصوم الاستراتيجيين: يسعى "إطار العمل" لوزارة الخارجية الأمريكية إلى تأطير التنافس في الفضاء باعتباره "لعبة صفرية" لن يربح فيها خصوم الولايات المتحدة بالضرورة، ما يستلزم مجابهة قوتهم الناعمة وبرامجهم الفضائية الطموحة، فقد أُعلن عنه عقب يوم واحد فقط من إرسال الصين ثلاثة رواد فضاء إلى محطة "تيانجونغ" الفضائية، وعقب إعلانها أيضاً رغبتها في إرسال بشر إلى القمر بحلول عام 2030، وهو الهدف نفسه الذي تعمل وكالة "ناسا" على تحقيقه، ما يعني انخراط واشنطن وبكين في سباق فضائي محتدم. إذ تولي الولايات المتحدة اهتماماً بالغاً بطموحات الصين الفضائية ولاسيما أن الأخيرة تمكنت في السنوات القليلة الماضية من جمع محطة فضائية في مدار أرضي منخفض، وهبطت بنجاح مركبتها الفضائية وعربة "روفر" على الجانب البعيد من القمر وعلى كوكب المريخ على الترتيب، وتبني ميناءً فضائياً في جيبوتي، خصوصاً أن أنشطتها الفضائية التجارية هي جزء من مبادرة "الحزام والطريق" التي تُعظم نفوذها العالمي، وترغب في مضاهاة الولايات المتحدة أو تجاوزها بحلول عام 2045.

ومع تنامي قدرات الصين، أعرب بيل نيلسون، مدير وكالة "ناسا" عن مخاوفه من طموحات بكين الفضائية وخاصة إذا وصلت إلى القمر أولاً، إذ يمكن لها أن تدّعي تبعيته لها، لتمنع بذلك دولاً أخرى من الهبوط عليه، على نحو ينتهك معاهدة الفضاء الخارجي. ولذا، تزداد أهمية "إطار العمل الاستراتيجي لدبلوماسية الفضاء" لأنه مرآة عاكسة لمخاوف الولايات المتحدة من قدرات الصين الفضائية التي نمت في وقت قصير نسبياً من ناحية، ولأنه يضمن تبادل المعلومات وشفافية الفاعلين الفضائيين من خلال إطار دولي قائم على القواعد من ناحية أخرى.


6- استكمال جهود إدارة بايدن في مجال الفضاء: يأتي "إطار العمل" في ظل جهود إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، وتحديداً الفريق التابع للأمم المتحدة المعني بالحد من التهديدات الفضائية، وإنشاء قوة الفضاء في عام 2019، وإطلاق ونشر تلسكوب "جيمس ويب الفضائي" في عام 2021، وتقديم تقارير أمريكية إلى لجنة الأمم المتحدة لاستخدام الفضاء الخارجي في الأغراض السلمية (COPUOS)، ليوضح جهود الحكومة الأمريكية والقطاع الخاص في التقيد بالمبادئ التوجيهية الرامية إلى استدامة أنشطة الفضاء الخارجي على المدى الطويل، والتي تعزز الاستخدام الآمن والمسؤول له، واتفاقات "أرتميس" التي تسعى لإعادة رواد الفضاء إلى القمر بحلول عام 2024 استعداداً لبعثات بشرية إلى المريخ.

وانطلاقاً من تلك الجهود، يمكن الدفع بتقاطع "إطار العمل" وبشدة مع "مختبر دبلوماسية الفضاء" الذي أسسته جامعة "ديوك" بولاية كارولاينا الشمالية في يناير 2022، للمساعدة في إعداد الجيل القادم من خبراء الفضاء، وتوضيح أهمية "دبلوماسية المدار"، ودفع الحوار حول قواعد السلوك من خلال التعليم الأكاديمي، ومواكبة الديناميكيات الحالية لاقتصاد الفضاء العالمي، والتأكد من استعداد الدارسين للانخراط في مجالات الفضاء التجارية عند دخولهم سوق العمل، والوصول المتزايد إلى المعلومات والصور مفتوحة المصدر، ودفع الجهود الدولية وصولاً لعقد قمة عالمية لأمن الفضاء، وتدريس دورة جديدة حول اقتصاديات الفضاء.

ختاماً، يتأسس "إطار العمل الاستراتيجي لدبلوماسية الفضاء" على القوة الناعمة الأمريكية تحقيقاً لمصالح البلاد الوطنية، فهو أداة لجذب الفاعلين الفضائيين الناشئين بعيداً عن المنافسين الاستراتيجيين وتحديداً الصين التي جعلت التعاون في الفضاء جزءاً أساسياً من قوتها الناعمة العالمية. كما أنه يُعد صياغة شاملة لسياسات الفضاء الأمريكية الحالية بمشاركة أصحاب المصلحة وخاصة في مجالات الفضاء التجارية بقيادة وزارة الخارجية الأمريكية التي من المتوقع أن تعزز صناعة الفضاء الأمريكية في الوقت الذي تشجع فيه الفاعلين الجدد على تبني قواعد السلوك الأمريكية المعتمدة.