صراعات الأفيون:

ملامح الحرب الكيمائية الباردة بين بكين وواشنطن

13 February 2023


يبدو أن القضية الأكثر دموية في العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين في الوقت الحالي ليست احتمال نشوب صراع عسكري على تايوان، ولكن الآلاف من الوفيات بسبب الجرعات الزائدة في الولايات المتحدة كل عام من الفنتانيل غير المشروع المصنوع من المواد الكيميائية، وما يقابله من وفيات مماثلة بنفس السبب في الصين. فهناك حرب باردة من نوع جديد دائرة بينهما حول صناعة الأفيون الاصطناعي، يمكن أن يُطلق عليها "الحرب الكيمائية الباردة". 
وفي ذلك الشأن، تتمتع الصين بذاكرة تاريخية قوية، فما عانت منه سابقاً في حرب الأفيون الأولى والثانية وهزيمتها الساحقة أمام بريطانيا في القرن التاسع عشر تثأر به لنفسها حالياً ضد منافستها العالمية الولايات المتحدة الأمريكية. وهنا يتجلى الأفيون الاصطناعي والكيماويات المخدرة السامة كأداة استراتيجية مهمة في حرب خفية باردة تدور رحاها الآن بينهما.
الوباء القاتل
تُعد المواد الأفيونية سبباً لأخطر وباء للمخدرات في الولايات المتحدة على الإطلاق، فبين أكتوبر 2020 وسبتمبر 2021، توفي رقم قياسي جديد آخر من الأمريكيين - 104288 شخصاً - بسبب جرعة زائدة من المخدرات. وأصبح الوباء مميتاً بشكل خاص عندما دخلت المواد الأفيونية الاصطناعية، مثل الفنتانيل ونظائرها، أسواق الولايات المتحدة قبل عقد من الزمان، وأزاحت كل من المواد الأفيونية النباتية وأصبحت مختلطة بشكل متزايد من قبل مهربي المخدرات بالعقاقير الأخرى، مثل الميثامفيتامين.

في البداية، كانت الصين هي المورد المباشر للفنتانيل - أخطر المواد الأفيونية الاصطناعية - إلى الولايات المتحدة، وذلك فقاً للرواية الأمريكية. حيث تعتبر الصين الأكبر في العالم من حيث صادرات المكونات والسلائف الكيميائية الأساسية – وهي مواد كيميائية "غير مجدولة" تستخدم في العديد من الصناعات خاصة الدوائية كما أنها قد تستخدم في صناعة المواد المخدرة الاصطناعية-، ولديها آلاف المصانع والموزعين للمواد الكيميائية؛ ويعمل العديد منهم من دون موافقة قانونية، والبعض الآخر يختبئ وراء شركات وهمية، ومعظمها قادر على إنتاج الفنتانيل وإخفائه بين الإنتاج الضخم. وحتى عام 2019، قام عدد كبير من شركات المكونات والسلائف الكيميائية والوسطاء الصينيين بتصدير الفنتانيل إلى الولايات المتحدة على الرغم من أن هذه الواردات كانت غير قانونية.
وتحت ضغوط الدبلوماسية الأمريكية المكثفة، وضعت الحكومة الصينية فئة كاملة من الأدوية من نوع الفنتانيل تحت نظام خاضع للرقابة في مايو 2019 واثنين من سلائف الفنتانيل الرئيسية بالفعل في عام 2018. وهو ما اضطر التجار الصينيين إلى التحول نحو بيع المواد الكيميائية السليفة لعصابات المخدرات المكسيكية، والتي تقوم بدورها بصناعة الفنتانيل عبر مختبراتها السرية، ثم نقلها إلى الولايات المتحدة الأمريكية. 
فقد تكيف موردو المخدرات الصينيون والجماعات الإجرامية المكسيكية مع تصنيع الفنتانيل من المواد الكيميائية غير المجدولة - ما يسمى بالسلائف المسبقة - ومعظمها ثنائي الاستخدام، مما يعني أنه يمكن استخدامها أيضاً لإنتاج أدوية مشروعة. فعلى عكس المواد المحظورة الجاهزة، فإن التحكم الفعال في السلائف الكيميائية بات أكثر تعقيداً، خاصة في حالة العقاقير الاصطناعية. فلم تتم جدولة معظم العوامل الأولية والعديد منها عبارة عن مواد كيميائية ثنائية الاستخدام ذات تطبيق قانوني واسع النطاق. وقد أثبت سوق السلائف الكيميائية أيضاً أنه ديناميكي للغاية، ويتكيف بسرعة مع جهود التنظيم والرقابة الجديدة.
في مارس 2021، أشار نائب رئيس العمليات الخارجية لإدارة مكافحة المخدرات، ماثيو دوناهو، إلى أن المهربين الصينيين قد توقفوا فعلياً عن إنتاج نظائر الفنتانيل والتركيز فقط على السلائف، "مع إمداد غير محدود من المواد الكيميائية الأولية القادمة من الصين إلى المكسيك "حيث يتم تحويلها إلى فنتانيل وتهريبها إلى الولايات المتحدة.
ووفقاً لوجهة نظر واشنطن ومراكز الفكر الأمريكية، فإن العديد من المسؤولين الصينيين يترددون في مراقبة أو تحقيق أو مقاضاة الفاعلين المهمين في الصناعة، وذلك نظراً للقوة السياسية للصناعات الكيماوية والصيدلانية في الصين ومدى عائدات الضرائب والوظائف التي تولدها. ومن المرجح، وجود تعاون بين الجهات الرسمية الفاعلة الكبيرة والمتوسطة المستوى مع المنظمات الإجرامية المهربة.
كما أن فرض الضوابط على الفنتانيل وسلائفه معقد بسبب التحدي المتمثل في الفساد المنهجي في الصين. حتى مع جهود شي جين بينغ المكثفة لمكافحة الفساد، والتي تهدف بشكل أساسي إلى تعزيز سلطته، وتحسين صورة الحزب الشيوعي الصيني (CCP)، مايزال العديد من مسؤولي الحزب الشيوعي الصيني من المستوى المتوسط والكبار يبحثون عن الربح، ومايزال تعزيز السلطة مرتبطاً بشكل أساسي بخلق فرص العمل والنمو الاقتصادي في مناطقهم، حتى لو تم تحقيق هذه الأهداف من خلال وسائل غير قانونية، وفقاً للرواية الأمريكية.
السياق الجيوسياسي
لعدد من السنوات، كان المسؤولون الحكوميون الأمريكيون يأملون في أن توفر المشاركة في قضايا مكافحة المخدرات مع الصين فرصاً للحفاظ على بعض الجوانب الإيجابية في العلاقات الثنائية بينهما. ولكن أدت التوترات المستمرة بين البلدين إلى قيام الصين بتقليص التعاون في مكافحة المخدرات بشكل كبير. ففي أحسن الأحوال، تسير مشاركة الولايات المتحدة والصين في مكافحة المخدرات على فترات متقطعة، تحددها البيئة الجيوسياسية العامة.
لاحظ المسؤولون والدبلوماسيون الدوليون والإقليميون في مكافحة المخدرات تدهوراً ملموساً في تبادلات مكافحة المخدرات بين البلدين في المنتديات متعددة الأطراف على مدار السنوات الأربع الماضية، ولاسيما منذ بداية جائحة "كوفيد19" وانتقاد الولايات المتحدة اللاحق للصين بسبب ذلك.
وذكر العديد من مسؤولي إنفاذ القانون الحاليين والسابقين في جنوب شرق آسيا – كسوق آخر رائج للأفيون الصيني - أيضاً أن قضايا الفنتانيل والميثامفيتامين بالنسبة للصين "اختلطت مع الجغرافيا السياسية، مما يجعل من الصعب جداً الحصول على أي معلومات، ناهيك عن المعلومات الاستخبارية من الصين إلى أي شخص تربطها به علاقات سيئة، فوق كل ذلك علاقتها المتوترة مع الولايات المتحدة". 
كما يؤكد المسؤولون الصينيون أن استمرار الولايات المتحدة في معاقبة الكيانات والشركات والأفراد الصينيين بسبب الاتجار في المخدرات قد أثر بشكل كبير في إمكانية التعاون في مكافحة المخدرات. وأكد ممثلو الدبلوماسيين الصينيين أن مثل هذه العقوبات تقلص بشكل كبير المساحة المتبقية للتعاون في مكافحة المخدرات وتشكل ضربة كبيرة لإمكانية التعاون بين الولايات المتحدة والصين في مجال مكافحة المخدرات.
حرب الأفيون الثالثة
ربما سيدفع النمو في استخدام الفنتانيل والمواد الأفيونية الاصطناعية الأخرى في الصين نفسها الحكومة الصينية لقمع إنتاج الفنتانيل غير المشروع في البلاد. على الرغم من أن المجتمع الصيني حذر جداً من المواد الأفيونية ومسكنات الألم بسبب ذكريات حروب الأفيون في القرن التاسع عشر، والاعتقاد الراسخ بأن بريطانيا أطعمت الأفيون بالقوة للمستهلكين الصينيين وأطلقت العنان لإدمان مدمر في البلاد، حيث تولد رفض ثقافي قوي للمخدرات وقليل من التعاطف المجتمعي تجاه أولئك الذين يعانون من اضطراب تعاطي المخدرات. وبدلاً من المواد الأفيونية الصيدلانية، اتخذ بعض الصينيين الطب الصيني التقليدي لجميع أنواع الاستخدامات العلاجية.
ومع استعارة سيناريو وباء المواد الأفيونية في الولايات المتحدة، وجهت شركات الأدوية الأمريكية نفسها، والعديد من شركات الأدوية الدولية الأخرى، أنظارها إلى الصين وغيرها من الأسواق في الخارج. وعلى الرغم من أن ممارساتهم الخادعة وجهودهم المنهجية في الاستيلاء التنظيمي أدت إلى الدمار في الولايات المتحدة التي يواجهون بسببها دعاوى قضائية، فإن شركات مثل مونديفارما "Mundipharma" تشارك في نفس الممارسات من أوروبا إلى أمريكا اللاتينية إلى الصين لتطوير أسواق جديدة للمواد الأفيونية الموصوفة، وفقاً لتحليلات صادرة عن الأسوشيتدبرس وبلومبرج.
في الصين، تنظم الشركات الأمريكية والدولية ندوات تدريبية، تحث الأطباء على التغلب على "رهاب الأفيون" ووصف OxyContin – أحد سلائف الفنتانيل - في الوصفات العلاجية من قبل الآلاف من الأطباء الصينيين الذين شاركوا فيها. وقد قامت مونديفارما "Mundipharma" أيضاً برعاية التجارب السريرية لـعقاقير مثل OxyContin وTargin في المستشفىات في جميع أنحاء الصين بين عامي 2011 و2016. كما وظفت شركة مونديفارما أكثر من 1000 موظف، معظمهم من مندوبي المبيعات، لعملياتها في الصين وحضرت في 300 مدينة صينية. ومع تعهد حكومة الصين بأن يحصل جميع مواطني البلاد البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة على تأمين صحي في العقد المقبل، تأمل شركة مونديفارما أن يشتمل ذلك على المسكنات. وحالياً، يمكن للمرضى الصينيين فقط شراء OxyContin من مستشفى أو مؤسسة طبية أخرى.
للتغلب على الخوف الصيني المتأصل من المواد الأفيونية، ترعى شركات الأدوية الدولية أيضاً حملات توعية عامة تحث الناس على التماس العلاج الطبي للألم المزمن، ففي أحد مقاطع الفيديو على موقع شركة مونديفارما "Mundipharma" في الصين، أخبرت ممرضة مريض سرطان مسن، أعرب عن خوفه من أن يصبح مدمناً، "بأنه لن يصبح مدمناً إذا تناول الحبوب وفقاً لتعليمات الطبيب". وقال ممثلو مونديفارما "Mundipharma"، لمجلة أعمال آسيوية في يناير 2019 "إن الصين على وشك أن تصبح ثاني أكبر مستهلك لعقار OxyContin، وسيتجاوز سوق المبيعات الصينية المتوقعة المبيعات الأمريكية بحلول عام 2025".
ويتُرك الشعب الصيني غير مهيأ بشكل جيد للتعامل مع المخاطر من شركات الأدوية العدوانية التي تضغط على الوصفات الطبية التي تسبب إدمان المواد الأفيونية. في الواقع، فإن الإفراط في وصف الأدوية الأفيونية من قبل الأطباء الناجم عن تسويق شركات الأدوية وتدابير الرقابة السيئة على الحبوب غير المستخدمة - وكلاهما من السمات المميزة للمرحلة الأولى من وباء المواد الأفيونية في الولايات المتحدة في التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين – سوف يسهم بالفعل في إدمان المواد الأفيونية التي تصرف بوصفة طبية في الصين.
تماماً كما هو الحال في الولايات المتحدة، فإن أولئك الذين يصابون باضطراب استخدام المواد الأفيونية في البداية من خلال وصفة طبية يسعون للحصول على المزيد من المواد الأفيونية من خلال القنوات غير المشروعة، غالباً عبر الإنترنت. كما يتم بيع الحبوب غير المستخدمة بشكل متزايد من قبل المرضى أو أقاربهم في السوق السوداء.
ونظراً لقلقها بشأن زيادة إساءة استخدام المواد الأفيونية الموصوفة، سحبت الحكومة الصينية مجموعة المواد الأفيونية من معظم الصيدليات في عام 2019، ولكن من غير المرجح أن يوقف مثل هذا الإجراء المحدود لمرة واحدة الزيادة في اضطراب استخدام المواد الأفيونية. كما لم تتخذ الصين بعد تدابير لجمع الحبوب غير المستخدمة بشكل آمن. 
ربما قد يؤدي ظهور وباء أفيوني صناعي في الصين إلى تحفيز بكين على تبني سياسات أكثر فاعلية ضد الإنتاج غير المشروع للفنتانيل والاتجار به في البلاد، الأمر الذي يتطلب التعاون الدولي، وسط تنافس جيوستراتيجي متفاقم. لكن حتى هذا السيناريو بعيد كل البعد عن اليقين، بالنظر إلى التنظيم الضعيف الذي تفرضه الصين على صناعة الأفيون الفتاكة لعقود من الزمن، حيث وضعت بكين بشكل منهجي الأهداف الاقتصادية للمصالح الخاصة قبل الصحة العامة. 
وختاماً، فإن تجارة الفنتانيل وسلائفه تُستخدم كسلاح في حرب باردة من نوع جديد "كميائية" بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية. وذلك ينبئنا بتفاعلات جديدة على المستوى الداخلى يكمن في تقاطع المجال الرسمى "الحكومات" مع الفواعل غير الرسمية "شركات الأدوية والجماعات الإجرامية وتجار المخدرات" في تطوير تلك الصناعة. وعلى المستوى الخارجى، فإن ذلك يخبرنا بظهور "شركات الأدوية وتجار المخدرات والجماعات الإجرامية الدولية"، إلى جانب الحكومات، كفواعل مهمة يمكن أن تغير معادلة توازن القوى بين الصين والولايات المتحدة على المدى البعيد، وتغير طبيعة ومفهوم الحرب الباردة، حيث يخلو منه "سباق التسلح" ويحل محله سباق "إنتاج الأفيون".