بين الاستثمار والضبط:

دوافع تباين علاقة حكومات الشرق الأوسط بـ "مؤثري الويب"

12 May 2022


تتباين تجارب الدول في منطقة الشرق الأوسط على صعيد تنظيم أوضاع صانعي المحتوى الرقمي أو "مؤثري الويب"، بين إطلاق العنان لهم، وتقنين أوضاعهم، وتقييد نشاطهم أحياناً. وفي ظل ما يشهده الإقليم من تنامي أعداد هؤلاء المؤثرين، ومتابعيهم، ومن ثم قدراتهم على التأثير؛ تعددت في المقابل سُبل استجابة الحكومات لهم ما بين حكومات رأت فيهم تهديداً يستوجب التقييد، وأخرى أدركت تأثيرهم المجتمعي فسعت إلى الاستفادة منهم لصالحها، وثالثة نظرت إلى أرباحهم فعملت على فرض ضرائب عليهم. 

استجابات متفاوتة:

تباينت استجابات الحكومات في منطقة الشرق الأوسط لصانعي المحتوى الرقمي من دولة إلى أخرى، ويمكن الوقوف على أبرز أنماط تلك الاستجابات على النحو التالي:

1- دولة الإمارات: أولت الإمارات اهتماماً خاصاً بصانعي المحتوى الرقمي؛ فأطلقت "أكاديمية الإعلام الجديد"، على سبيل المثال، الموسم الثاني من برنامجها "فارس المحتوى" في مايو 2021 للارتقاء بالمحتوى الرقمي العربي، وتأهيل نخبة من صانعي المحتوى العرب وتنمية مهاراتهم كمؤثرين على المنصات الرقمية المحلية والعالمية. وفي أكتوبر 2020، أطلقت "جمعية كلنا الإمارات" فريق صانعي المحتوى الرقمي؛ بهدف تعزيز المحتوى في منصات الجمعية على نحو يخدم جميع شرائح المجتمع من خلال تقديم مواد علمية وتوعوية وترفيهية مفيدة، تتوافق مع خصوصية الثقافة والعادات الاجتماعية والهوية الوطنية. وجاء ذلك إدراكاً من الدولة ومؤسساتها للتطورات المضطردة للتقنيات الحديثة والتكنولوجيا الرقمية من ناحية، ورغبة منها في تمكين المجتمع ونشر المعرفة من ناحية ثانية.

2- مصر: طالبت مصلحة الضرائب المصرية، في سبتمبر 2021، صانعي المحتوى من المدونين وأصحاب القنوات على منصة "يوتيوب"، بالتوجه إلى مأمورية الضرائب "لفتح ملف ضريبي للتسجيل بمأمورية الضريبة على الدخل المختصة"، إلى جانب القيام بالتسجيل في مأمورية القيمة المُضافة المختصة إذا بلغت إيراداتهم 500 ألف جنيه خلال 12 شهراً من تاريخ مزاولة النشاط. كما أصدرت مصلحة الضرائب المصرية دليلين إرشاديين، يضم أولهما قواعد المعاملة الضريبية للتجارة الإلكترونية والتعليم الإلكتروني والعاملين لحسابهم الخاص أونلاين ((Freelancers، فيما يتضمن ثانيهما قواعد المعاملة الضريبية لصانعي المحتوى على نحو يشمل "اليوتيوبرز" Youtubers، و"البلوجرز" Bloggers، والمؤثرين Influencers.

3- المغرب: استعانت الحكومة المغربية، ممثلة في وزارة السياحة، في أبريل 2022، بـ "مؤثري الويب" من أجل الترويج لبرنامج "فرصة" الذي يشمل الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 18 عاماً من حاملي الأفكار والمشروعات المبتكرة. ويتمثل الهدف من البرنامج، الذي تبلغ ميزانيته الإجمالية 1.25 مليار درهم لعام 2022، في تخصيص قروض من دون فائدة بحد أقصى 100 ألف درهم لكل مستفيد. فعند إطلاق الحكومة المنصة الرقمية لبرنامج "فرصة"، حيث يُفترض أن يقدم المرشحون طلباتهم، وُجهت الدعوة بالدرجة الأولى إلى عدد من "مؤثري الويب" في أحد المؤتمرات الرسمية، على نحو أثار استياء الصحفيين المغاربة.

4- سوريا: أصدرت حكومة بشار الأسد، مُمثلة في لجنة صناعة السينما والتلفزيون، في 5 يناير 2022، قراراً يفرض قيوداً على صانعي المحتوى والناشطين العاملين في المجال الفني. وبموجبه، بات كل من ينشر أو يصور لوحات درامية أو يقدم أي محتوى فني على مواقع التواصل الاجتماعي مُطالباً بالحصول على التراخيص اللازمة من الجهات المعنية، على أن تُحال الوقائع المخالفة إلى فرع الجرائم المعلوماتية في إدارة الأمن الجنائي. وهو الأمر الذي برره النظام السوري بالانحلال الأخلاقي والفني والفكري والاستعراض المبتذل الذي تقدمه بعض صفحات مواقع التواصل الاجتماعي على نحو يُسيء للمجتمع.

5- تركيا: فرضت وزارة الخزانة والمالية التركية، في 12 يناير 2022، ضريبة على دخل صانعي محتوى الشبكات الاجتماعية ومطوري تطبيقات الهواتف المحمولة، على أن يتمتع أولئك الذين يشاركون النصوص والصور والفيديوهات والصوت على الشبكات الاجتماعية أو الذين يطورون تطبيقات الهواتف المحمولة بخصم يصل إلى 15%. إذ سيتعين على دافعي الضرائب الذين يرغبون في الاستفادة من الإعفاء الضريبي، التقدم بطلب إلى مكتب الضرائب، والحصول على شهادة إعفاء، ولا يشمل ذلك دخل الأشخاص العاملين على منصات تقدم محتوى تفاعلي مثل مواقع الويب الشخصية أو مواقع التجارة الإلكترونية أو المواقع الإخبارية.

دوافع مختلفة:

تدور أبرز الأسباب الدافعة إلى اهتمام حكومات المنطقة بصانعي المحتوى الرقمي، حول الآتي:


1- تقنين أوضاع "مؤثري الويب": هدفت الحكومة المصرية إلى تقنين عمل صانعي المحتوى الرقمي وحماية أعمالهم أمام الجهات الرسمية من دون تفرقة بين أصحاب المحتوى الهادف الذين قد تتراجع أعداد مشاهديهم ومن ثم أرباحهم المادية من ناحية، وأولئك الذين يحققون أرباحاً قد تصل إلى الملايين من ناحية ثانية. وهو ما يعني بالضرورة تطوير صناعة المحتوى الرقمي بشكل غير مباشر؛ إذ إنه من المفترض أن يتوقف صانعو المحتوى غير الهادف عن تقديم ذلك النوع من المحتوى، لأنه لن يصبح مجانياً في حالات، وستزداد تكلفة إنتاجه في حالات أخرى. ومن المفترض أيضاً أن يقابل التقنين خدمات تُقدم لصُناع المحتوى الرقمي كتلك المتعلقة بتقنين أوضاعهم ككيانات تجارية، بما يدعم موقفهم الائتماني ويسهل حصولهم على تسهيلات بنكية، على سبيل المثال.

2- تعظيم الموارد المالية للدول: تنظر بعض الدول إلى أرباح صانعي المحتوى الرقمي انطلاقاً من حقيقة مفادها أن أية إيرادات ناتجة عن أي مهنة أو نشاط في الداخل أو إذا كان الأخير هو مركز لمزاولة المهنة أو النشاط؛ فهي إيرادات خاضعة للضريبة دون تمييز في المعاملة الضريبية بين التجارة التقليدية والإلكترونية، وذلك بالنظر إلى تساويهما أمام القانون في بعض الدول. ولا يمكن إغفال المكاسب المادية التي تحققها المنصات الإلكترونية من وراء أنشطتها من ناحية، والربح المادي الذي يحصل عليه صانع المحتوى من ناحية ثانية، وهي الأرباح التي لا تعود بالنفع في الحالتين على الدول، لذا نظرت بعضها في آليات ممكنة للاستفادة منها لاسيما أنها تخرج عن نطاق الاقتصاد الرسمي. وهذا ما حدث في بعض الدول التي يعاني اقتصادها القومي أزمات متلاحقة، دفعت بها للبحث عن مصادر تمويل جديدة تزيد من خلالها حصيلتها الضريبية.

3- الاستفادة من التأثير المجتمعي لصانع المحتوى: أدركت بعض الدول مدى تصاعد تأثير صانعي المحتوى الرقمي بالنظر إلى قدرتهم على التأثير في الرأي العام، وتنامي أعداد معجبيهم، وتأثيرهم المباشر في بعض المفاهيم الحديثة والصور الذهنية، علاوة على مشاركة الجماهير في موضوعات حياتية عديدة. ولذا عمدت تلك الدول إلى الاستفادة من القدرات التسويقية لهؤلاء المؤثرين كبديل مُحتمل لوسائل الإعلام التقليدية، خاصة للتأثير الإيجابي على الشباب كونهم الفئة الأكثر تأثراً بهم. 

4- الحد من التأثير السلبي لبعض صانعي المحتوى: في اتجاه مضاد لتأثيرهم الإيجابي، قد يلعب صانعو المحتوى الرقمي و"مؤثرو الويب" أدواراً سياسية ترى فيها حكومات بعض الدول تهديداً مُحتملاً؛ إما لمواقفهم السياسية المعارضة أو لتشويههم بعض القيم المجتمعية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، قيام شيماء بن محمود (إحدى المؤثرات التونسيات التي تبلغ من العمر 21 عاماً)، في فبراير 2022، بتوثيق رحلة هجرتها غير الشرعية من خلال مقطع فيديو على متن قارب خشبي وسط البحر، لتوضح فيه كيف خضعت للحجر الصحي في أحد مراكز الاحتجاز الإيطالية لمدة أسبوعين بسبب فيروس كورونا، وكم تكبدت للحصول على مكان في قارب السفر، وغير ذلك من تفاصيل قد تشجع البعض على خوض غمار التجربة عينها، وربما تروج للهجرة غير الشرعية على الرغم من خطورة تبعاتها.

5- قطع الطريق على الأصوات المعارضة: تُحكم حكومات دول في المنطقة، على غرار تركيا وسوريا، مراقبة ما ينشر على منصات التواصل الاجتماعي، الأمر الذي وصفه البعض بأنه وسيلة لتقييد الأصوات المعارضة في هذه الدول. إذ تتخوف تركيا، على سبيل المثال، من إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أو توظيفها من قِبل المعارضة السياسية لاسيما مع قرب موعد الانتخابات العامة في عام 2023، وهو الأمر الذي ظهر بعد اعتماد البرلمان التركي في يوليو 2020 مشروع قانون يوسع رقابة السلطات على شبكات التواصل الاجتماعي.

تداعيات مُحتملة:

تتفاوت الآثار الناجمة عن سياسات دول المنطقة تجاه صانعي المحتوى الرقمي أو "مؤثري الويب"، من حالة إلى أخرى، ويمكن الوقوف على أبرز هذه التداعيات من خلال النقاط التالية:


1- خلق كيانات تسويقية جديدة: تعكس سياسات الحكومة المغربية، على سبيل المثال، كيف أضحى صانعو المحتوى الرقمي وسيلة تسويقية قادرة على الوصول إلى أعداد كبيرة من المتابعين قد تفوق تلك التي تحظى بها بعض وسائل الإعلام التقليدية في ظل التحديات التي تواجهها، وهو ما يعني أن جمهور المؤثرين قد يفوق جمهور الصحفيين وغيرهم من الإعلاميين في بعض الحالات، وأن المؤثرين أحدثوا تغييراً كبيراً في ثقافة التسويق وآلياته المستخدمة. إذ لم يعد التسويق مقتصراً على المنتجات والعلامات التجارية فحسب، بل امتد ليشمل سياسات الدول. ويمكن الترويج للأخيرة من خلال مقاطع الفيديو القصيرة على حسابات المؤثرين بمواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي ساهم في تحول بعضهم إلى رواد أعمال، خاصة في أعقاب جائحة كوفيد-19 التي عززت المعاملات الإلكترونية.

2- منافسة الإعلام التقليدي: اقتصرت صناعة المحتوى سلفاً على دارسي الإعلام والصحافة، أما الآن ومع وجود أعداد غير متناهية من صانعي المحتوى، وتلاشي شرط التخصص والدراسة، وترك الأمر للمتابعين كي يقرروا المحتوى الأجدر بالمشاهدة؛ بات على صانعي الإعلام التقليدي مجاراة التطورات المتلاحقة وإلا تخلفوا عن الركب، ما خلق واقعاً جديداً ينشر فيه المحتوى الملائم الذي يلتزم بمعايير العمل الإعلامي جنباً إلى جنب مع آخر قد يكون غير ملائم، لاسيما أن صانعي المحتوى الرقمي يحتاجون فقط إلى الإنترنت والهواتف الذكية وليس لأدوات مُعقدة بالضرورة، وهذا ما صاحبته دعوات تطالب بتحديد هوية هؤلاء لأن زيادة المحتوى قد لا تضمن جودته بالضرورة.

3- تسييس منصات التواصل الاجتماعي: وفقاً للبيانات الرسمية، احتلت تركيا المرتبة الثانية بعد روسيا في إرسال طلبات إلى منصة "تيك توك" في العام الماضي فحسب، وذلك على خلفية تزايد المحتوى السياسي الساخط على ارتفاع الأسعار وتزايد تكاليف المعيشة على منصة يغلب عليها الطابع الترفيهي في المقام الأول. وفي هذا السياق، أنشأت منصة "تيك توك" قناة اتصال محددة للطلبات المُرسلة من قِبل المحاكم التركية لإزالة المحتوى وحظر الحسابات بزعم الامتثال للقانون التركي المُنظم لعملية النشر على شبكة الإنترنت.

4- ملاحقة "المحتوى الضار": أعطت بعض حكومات دول المنطقة لنفسها الحق في ملاحقة وتطويق المحتوى "الضار"، بدعاوى تأثيره السيئ على المواطنين أو القيم المجتمعية. كما انخرطت منصات التواصل الاجتماعي بدورها في عمليات حجب بعض المحتويات، استجابة لشكاوى بعض الدول. ويمكن تفسير الأسباب التي تدفع الشبكات الاجتماعية إلى الأخذ بتلك الشكاوى بل والاستجابة لها وصولاً إلى فرض قيود على النشر وحظر بعض المحتويات غير المرغوبة، بالنظر إلى حجم الدولة المعنية، ومدى أهميتها، ونسبة الشباب من إجمالي عدد السكان، ودرجة الاعتماد على خدمات الهواتف الذكية، وذلك من ضمن عوامل أخرى.

ختاماً، لم يعد ممكناً تجاهل وجود صانعي المحتوي الرقمي أو التقليل من دورهم في مناقشة بعض القضايا الساخنة التي قد يحجم الإعلام التقليدي عن تناولها، ولن يجدي نفعاً تقييد أصواتهم أو حظر محتوياتهم أحياناً، لاسيما في الحالات التي يُضيّق فيها الخناق على المجال العام، ما يدفع المؤثرين إلى البحث الدائم عن منصات وقنوات بديلة للتعبير عن آرائهم بحرية. وقد يكون الحل الأمثل هو تطوير مهارات جيل جديد من صانعي المحتوى يضمن لهم الاستقلال المالي، ويكفل لهم الاستثمار الناجع لمواهبهم، ويروى قصصهم الملهمة على نطاق أوسع. وهذا ما يُثري بشكل غير مباشر المحتوى العربي على شبكة الإنترنت، ويزيد من مساهمة الاقتصاد الرقمي في الناتج الإجمالي لدول المنطقة.