أزمات مضاعفة:

تأثير حرب أوكرانيا في اقتصادات دول الصراعات بالإقليم

22 April 2022


يتابع العالم الحرب الروسية - الأوكرانية وما تسفر عنه من انعكاسات سلبية ممتدة، سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها. واقتصادياً، أدت هذه الحرب إلى حدوث ضغوط كبيرة، خاصة في مجالات الأمن الغذائي، وإمدادات الطاقة، وسلاسل التوريد، بحيث قادت إلى ارتفاع شديد في أسعار السلع والخدمات؛ أي زيادات حادة للتضخم العالمي المُرتفع بالأساس. وفي هذا الإطار، من المُتوقع أن تتفاقم التأثيرات المُحتملة للحرب الجارية على اقتصادات دول الصراعات والأزمات في منطقة الشرق الأوسط، على غرار سوريا واليمن والسودان وليبيا، لتشمل زيادات حادة في معدلات التضخم، وتهديد الأمن الغذائي في هذه البلدان، فضلاً عن الضغوطات على الموازنات الحكومية، وغيرها من التداعيات الإنسانية والاجتماعية.

تأثيرات مختلفة:

من المُحتمل أن تؤدي الحرب الروسية – الأوكرانية إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية في دول الصراعات بالإقليم، والتي تضررت اقتصاداتها في السنوات الأخيرة بسبب ظروف عدم الاستقرار السياسي والأمني، ويتضح ذلك على النحو التالي:


1- ارتفاع معدلات التضخم: تسبب التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، في ارتفاع لافت لأسعار الحبوب عالمياً، باعتبار أن البلدين من أكبر منتجي الحاصلات الزراعية في العالم. إذ قفزت أسعار القمح والذرة مع بداية الحرب بنسبة تراوحت بين 4 و6%، واستمرت في الزيادة لتتراوح بين 40 و60% حتى الآن. وهذا سوف يشكل ضغوطاً إضافية على دول المنطقة المُستوردة للغذاء والمُحملة بأعباء الصراعات الداخلية وتعاني بالفعل معدلات تضخم عالية، مثل السودان وسوريا. 

وعلى خلفية الحرب الراهنة، رفع السودان أسعار الوقود ثلاث مرات في فبراير 2022، بعد الارتفاع القياسي لأسعار النفط العالمية، ولتبلغ نسبتها 30% عما كانت عليه في يناير2022. كما شهدت أسعار الوقود زيادات متتالية في اليمن خلال الفترة الأخيرة. وفي سوريا التي تعتمد بشكل أساسي على استيراد القمح من روسيا وأوكرانيا لسد حاجتها المحلية، تعاني هي الأخرى زيادات كبيرة في أسعار الأغذية ومنتجات الدقيق.

2- الضغوط على الموازنات الحكومية: سيؤدي ارتفاع الأسعار العالمية للسلع الأساسية إلى تفاقم عجز الحسابات المالية والجارية في دول الصراعات، علاوة على زيادة مستويات الدين العام بها. وفي هذا السياق، من المُتوقع أن يؤدي ارتفاع فاتورة استيراد القمح والطاقة إلى ارتفاع عجز الموازنات العامة في سوريا واليمن والسودان خلال العامين الجاري والمقبل. 

ومن المُرجح أن يزيد العجز المالي للموازنة في سوريا لعام 2022 عن المستوى المُقدر في السابق بـ 4118 مليار ليرة (ما يعادل 8 مليارات دولار)، خاصة مع ضعف الإيرادات الحكومية، وتفاقم النفقات، في ظل الحرب في أوكرانيا. كما سيتزايد عجز موازنة العام الحالي في السودان، الذي يعاني بالأساس تراجعاً في احتياطاته النقدية منذ توقف المساعدات الدولية له، وذلك في ظل الارتفاع المُتوقع للنفقات الحكومية لدعم الوقود وقطاع الكهرباء. 

3- تأثيرات متفاوتة على الطاقة وإمداداتها: بالرغم من السلبيات السابقة، قد تستفيد الدول المُصدرة للنفط مثل ليبيا، من الارتفاع القياسي لأسعار النفط منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، وربما تحقق زيادات كبيرة في الإيرادات النفطية؛ مما سيعوض الزيادات المُحتملة لتكاليف الدعم الحكومي للمواد الغذائية والوقود. بيد أن تحسن الإيرادات النفطية في ليبيا، سيظل مشروطاً باستقرار وتحسن إنتاج النفط الليبي في الأشهر المقبلة. 

وفي هذا السياق أيضاً، تمتلك ليبيا مخزونات كبيرة من الغاز باحتياطي بلغ 1.4 تريليون متر مكعب بنهاية عام 2020، وهناك إمكانية لزيادتها مع حدوث اكتشافات جديدة؛ مما يجعل ليبيا أحد الخيارات الرئيسية المُحتملة لتصدير الغاز إلى دول أوروبا التي تسعى لتعويض أي نقص مُحتمل في تدفقات الغاز الروسي للقارة. لكن يتمثل التخوف الرئيسي هنا في أن الوضع السياسي المُضطرب في ليبيا، وغياب تخصيص ميزانية لصيانة الحقول النفطية؛ قد يؤدي إلى ضياع الفرصة على ليبيا لزيادة دورها في أسواق النفط والغاز العالمية في الأمد القصير. وهذه المخاوف تعززت في الأيام الماضية بعد إغلاق ميناء الزويتينة النفطي وحقلي الشرارة والفيل، ثم بعدها إعلان "حالة القوة القاهرة" في ميناء البريقة النفطي يوم 19 أبريل 2022؛ وذلك في إطار استمرار الصراع على السلطة في ليبيا بين حكومتي فتحي باشاغا وعبدالحميد الدبيبة.

على جانب آخر، ستجد دول أخرى مثل سوريا، صعوبات في تلبية الاحتياجات المحلية للنفط والوقود الخاص بإنتاج الكهرباء، في ظل ارتفاع تكاليف الاستيراد، وأزمة شح العملات الصعبة، وذلك في الوقت أيضاً الذي قد تلجأ فيه الحكومة السورية إلى رفع أسعار المشتقات النفطية لتغطية زيادات الأسعار العالمية. والحال نفسها تنطبق على اليمن الذي قد يعاني شح الوقود في الفترة المقبلة، خاصة في ظل ما تسبب فيه التصعيد العسكري الحوثي من تأخير في إعادة تأهيل قطاع النفط المحلي، الذي كان أكبر مصدر للعملة الأجنبية في اليمن قبل الانقلاب الحوثي على الشرعية ومن ثم اندلاع الحرب في هذا البلد.

مخاطر الأمن الغذائي: 

تعتبر روسيا وأوكرانيا من أكبر منتجي القمح والحبوب على مستوى العالم، وهما تزودا معاً دول العالم بربع صادرات القمح. وتسببت الحرب الحالية في تعطل جزئي لصادرات الحاصلات الزراعية، في ظل الاختناقات اللوجستية في بداية الأزمة، ثم حظر أوكرانيا تصدير القمح وغيره من المواد الغذائية مؤخراً.

ومن دون شك ستكون دول الصراعات في الشرق الأوسط الأكثر تضرراً بسبب الحرب الأوكرانية؛ نظراً لتدهور الأنشطة الزراعية المحلية بها على مدار السنوات الأخيرة، واعتمادها على الخارج في تلبية معظم احتياجاتها من الأغذية. فمثلاً، تستورد ليبيا قرابة نصف احتياجاتها من القمح من روسيا وأوكرانيا، أي ما يعادل 650 ألف طن سنوياً. أما اليمن، فيستورد حوالي ثُلث احتياجاته من القمح من روسيا وأوكرانيا. فيما تستورد سوريا نحو 2.1 مليون طن قمح سنوياً. 

ومع ارتفاع أسعار القمح والحبوب، وصعوبة وصول الشحنات أو ارتفاع تكاليف البدائل الأخرى؛ سوف تخلق تلك الاعتبارات تحديات خطيرة للأمن الغذائي في دول الصراعات، وبما سوف يسفر عنه من عواقب اجتماعية وصحية، خاصة أن تلك الدول تحتل مراتب متأخرة على مؤشر الأمن الغذائي العالمي، كما هو موضح في الجدول التالي.


ففي اليمن، وهو البلد الأكثر تهديداً بتأزم وضعه الغذائي أكثر مما هو عليه، يوجد نحو 16 مليون شخص مُعرضون لخطر المجاعة، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة. وفي سوريا، من المرجح أن تزيد معاناتها جراء ارتفاعات أسعار القمح والحبوب الزراعية، فضلاً عما تواجهه من أزمة الجفاف والمياه التي تعانيها البلاد منذ سنوات. فوفقاً لبرنامج الأغذية العالمي، تسببت الحرب السورية في تعرض نحو 12.4 مليون سوري لمخاطر الجوع.

كذلك، فإن ليبيا التي لديها بنية تحتية هشة لا تسمح بتخزين كميات من القمح، مهددة بتراجع مستوى الأمن الغذائي فيها. كما أن مخزون القمح في السودان منخفض للغاية، ولا يغطي سوى أسابيع معدودة. وإذا كانت منحة القمح الروسية الأخيرة المُرسلة السودان في مارس الماضي والبالغة نحو 20 ألف طن، ستخفف من أزمة نقص القمح والدقيق بالبلاد في المدى القصير، لكن يتعين الإشارة هنا إلى أنه ليس مرجحاً استمرار الدعم الروسي للسودان في الغذاء خلال المستقبل القريب، خاصة مع الضغوط الاقتصادية الشديدة الواقعة على موسكو.

تراجع المساعدات:

من المُحتمل أن تتأثر المساعدات الإنسانية لدول الشرق الأوسط بشكل كبير، في حال استمرار الحرب الروسية - الأوكرانية، حيث سيتم تحويل جزء كبير من الموارد المالية الدولية المُخصصة للمساعدات لصالح احتواء الأزمة الإنسانية في أوكرانيا، وذلك في الوقت الذي لم تكن فيه إسهامات الدول المانحة للمساعدات الإنسانية كافية لمواجهة الأزمات في عدة دول مثل سوريا واليمن.

بالإضافة إلى ما سبق، تواجه العديد من الدول الرئيسية المانحة تحديات اقتصادية داخلية في ضوء الحرب الأوكرانية، حيث قامت بتوجيه مزيد من مخصصاتها المالية لاحتواء ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، علاوة على زيادة إنفاقها العسكري. وفي هذا الصدد، أعلنت العديد من الحكومات الأوروبية مؤخراً تسريع وتيرة الإنفاق العسكري لمواجهة التهديدات الأمنية المتزايدة في شرق أوروبا. فألمانيا، على سبيل المثال، أعلنت عن زيادة إنفاقها العسكري إلى 100 مليار يورو مقارنة بالخطة الأصلية التي تقضي بإنفاق 53 ملياراً في عام 2022. وفي الوقت نفسه، سيتعين على الاقتصاد الألماني أن يدفع أسعار طاقة وغذاء أعلى بكثير. ومن ثم، فإنه في ظل تلك التحولات الطارئة، من المتوقع حدوث تراجع نسبي في المساعدات الإنسانية المُوجهة لدول الشرق الأوسط، لاسيما سوريا واليمن والسودان.

مُجمل القول إن الحرب الروسية - الأوكرانية ستفرض تأثيرات اقتصادية واسعة على المستوى العالمي، وستتزايد آثارها بالنسبة لبعض الدول الهشة اقتصادياً والمُثقلة بأعباء الصراعات في الشرق الأوسط، حيث من المرجح أن تتسبب هذه الحرب في مزيد من تفاقم الأوضاع الاقتصادية، إلى جانب تأزم الأوضاع المعيشية في دول الصراعات، وذلك على الرغم مما تتيحه من فرص كزيادة الإيرادات الحكومية النفطية، إلا أن المحصلة النهائية لتلك الحرب هي حدوث مزيد من الخسائر الاقتصادية لدول الصراعات في الإقليم.