منطقة مضطربة:

تحديات واشنطن في أمريكا اللاتينية

04 October 2015


إعداد: ناهد شعلان


كانت زيارة رئيسة البرازيل "ديلما روسيف" Dilma Rousseff إلى واشنطن في يونيو الماضي بمثابة مؤشر على إعادة اتجاه الولايات المتحدة مرة أخرى إلى منطقة أمريكا اللاتينية، والتي أغفلتها لعقود بالرغم من أهميتها الاستراتيجية، فاستقرار ورخاء هذه المنطقة أمر ضروري لحفظ أمن واستقرار الولايات المتحدة. غير أن إدارة الرئيس "أوباما" قد أخفقت في الدفاع عن مصالح بلدها في أمريكا اللاتينية وتحقيق أهدافها ونشر قيمها وتقوية علاقاتها الاستراتيجية في قطاع التجارة والبترول.

وقد ترتب على غياب الدور الأمريكي في تلك المنطقة معاناة دولها من التدهور الاقتصادي، وعدم الاستقرار والأمان، وانتشار الفساد، إضعاف المؤسسات الديمقراطية، وانتهاكات حقوق الإنسان. ولكن الأسوأ من ذلك هو ترك الساحة أمام قوى دولية أخرى مثل الصين لملء الفراغ في أمريكا اللاتينية واستغلال الموقف لتحقيق مصالحها الخاصة.

وفي هذا السياق، تأتي الدراسة التي أعدها "روجر نوريجا" Roger F. Noriega - السفير السابق للولايات المتحدة في منظمة الدول الأمريكية، وزميل معهد المشروع الأمريكي لأبحاث السياسات العامة- وهي بعنوان: "أمريكا اللاتينية: انطباعات حول منطقة مضطربة"، حيث ترصد هذه الدراسة الاضطرابات في دول أمريكا اللاتينية والتي تمثل تحدياً بالنسبة لدور الولايات المتحدة في هذه المنطقة. كما يوضح الباحث الاستراتيجية التي يمكن أن تتبعها واشنطن للتعامل مع مختلف الأزمات والتحديات لتحقيق مصالحها في تلك المنطقة، حيث يرى أن الفرصة مازالت سانحة أمام الولايات المتحدة لإثبات دورها وإحكام نفوذها في مواجهة الدور الصيني المتزايد.

البرازيل: التراجع الاقتصادي وأزمة الحكم

في البداية ترصد الدراسة معاناة البرازيل – سادس أكبر اقتصاد في العالم- من أزمة اقتصادية طاحنة نتيجة للسياسات التي يتبعها قادة الدولة، والتي قد تهدد رخاء واستقرار المنطقة. فمنذ بداية الولاية الثانية لرئيسة البلاد "ديلما روسيف"، وهي تواجه أسوأ ظروف اقتصادية مرت بها البرازيل منذ عدة عقود، فضلاً عن فضيحة الفساد التي تتورط فيها أكبر شركات البترول المملوكة للدولة "بتروبراس". وقد أدت هذه العوامل إلى إضعاف شعبية "روسيف" وتشكك البرازيليين في قدرتها علي إعادة النمو الاقتصادي، ومواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، حيث أن 62% منهم يرون أن حكومة "روسيف" شديدة السوء.

ويطالب العديد من المتظاهرين خاصةً اللذين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة، بسحب الثقة من رئيسة البلاد. وفي محاولة لإصلاح الوضع القائم، قامت "روسيف" بتعيين فريق اقتصادي جديد لإعادة الثقة والنمو إلى الاقتصاد. وبدأ الكونجرس البرازيلي في وضع قواعد خطة التقشف الجديدة التي من المفترض أن تضع النفقات الحكومية تحت المراقبة.

ويرى الكاتب أنه من المتأخر جداً إعادة إصلاح العلاقات بين الولايات المتحدة والبرازيل، بيد أن إدارة "أوباما" يمكن أن تستفيد من زيارة "روسيف" بأن تُبقي قناة مفتوحة للاتصال بين البلدين، حيث أن هذا النوع من العلاقات الدبلوماسية على مستوى القادة ضروري لإعادة توجيه السياسات الخارجية البرازيلية التي ترى أن علاقاتها مع الولايات المتحدة هي "لعبة صفرية النتيجة".

ويؤكد الباحث على أهمية تدشين حوار على مستوى القطاع الخاص الذي يمكن أن يصوغ أجندة من أجل إرساء بعض الإصلاحات الداخلية التي تسمح بالتعاون المستقبلي بين الولايات المتحدة والبرازيل، وتطوير إنتاجية قطاع الطاقة وجذب الاستثمارات والتكنولوجيا الحديثة.

فنزويلا: الانهيار الوشيك

تفتقر حكومة فنزويلا التي يقودها " نيكولاس مادورو" للشعبية، خاصةً بين الطبقات الأكثر فقراً، ويعزز من ذلك تفاقم الصراعات بين مختلف الفصائل التي يقودها "مادورو"، والذي يراه البعض خاضعاً لرئيس البرلمان "كابللو" المُتهم من قِبل وزارة العدل الأمريكية بتورطه في الإتجار بالمخدرات.

ويرى قادة المعارضة أن الانتخابات البرلمانية القادمة المزمع إقامتها في السادس من ديسمبر 2015 قد تُشكل فرصة لتوطيد نفوذهم وتبديد الأزمة. في حين أن الجانب الأخر من المعارضة بقيادة المعارض الشاب "ليوبولدو لوبيز"، يفضلون تحدي شرعية النظام عن طريق المظاهرات والعصيان المدني ومشاركة المجتمع الدولي، خشية تزوير الانتخابات.

وعلى الرغم من أن القانون الأمريكي الذي يُدعم نفاذ التحقيقات في تورط "مادورو" في الإتجار بالمخدرات، قد يُفسد من محاولة الولايات المتحدة تطبيع علاقاتها مع فنزويلا، إلا أن الكاتب يؤكد على ضرورة أن تسعى السياسات الخارجية الأمريكية لتحقيق الاستقرار مهما كان الثمن؛ فالتعامل مع فنزويلا سيكون من أصعب التحديات للقيادة الجديدة لمنظمة الدول الأمريكية التي اختارت "لويس المارجو" وزير خارجية الأوروجواي ليكون أميناً عاماً لها والذي يتشكك فيه بعض قادة المعارضة في فنزويلا.

لذلك يتعين على الأجهزة الفيدرالية الأمريكية المنوط بها تطبيق القانون، الاستمرار في التحقق من انتهاك قانون الولايات المتحدة الخاص بالإتجار في المخدرات وغسيل الأموال، وفرض العقوبات على القادة الفنزويليين المتورطين في ذلك الأمر.

المكسيك: الفوضى الأمنية تقوض الإصلاحات

ليس هناك دولة في أهمية المكسيك بالنسبة لأمن الولايات المتحدة، وبالرغم من استقرارها الاقتصادي مع انخفاض معدلات النمو إلا أنها تعاني من صراعها مع أزمة تجارة المخدرات الدولية. وقد استطاع الرئيس المكسيكي "إنريكي بينا نييتو" المُضي قُدماً على الطريق الصحيح باتباع حزمة من الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، ولكن يتوقف نجاحها على مدى سماح "الحزب الثوري المؤسسي" الحاكم بذلك، والذي يمكث في السلطة منذ 12 عاماً. وفي المقابل أدى إهمال "نييتو" للمشاكل الأمنية إلى تهديد شرعيته والإصلاحات التي قام بها، فيبدو أنه ليس لديه استراتيجية واضحة للتعامل مع الفوضى في أرجاء مختلفة من الدولة.

وفي ظل تشارك المكسيك والولايات المتحدة في العديد من التحديات مثل الجريمة المنظمة العابرة للحدود وتجارة المخدرات، يشدد الكاتب على ضرورة إقامة حوار جاد لمواجهة هذه التحديات، وإعادة تطبيق القانون، وتدشين التعاون الاستخباراتي اللازم لحل الأزمات الأمنية المستعصية. ومن ناحية أخرى، يعتمد الاقتصاد المكسيكي بصورة غير طبيعية على نظيرة الأمريكي، لذلك سيكون من الجيد بالنسبة للدولتين اتباع سياسات اقتصاد السوق المفتوح، وتحسين السياسات المالية.

كولومبيا: إخفاق عملية السلام

علق الرئيس الكولومبي "مانويل سانتوس" مسيرته المهنية على محادثات عملية السلام مع متمردي ميليشيا القوات الثورية المسلحة (فارك)، والتي هدفت إلى التوصل لحل سياسي لصراع دام أكثر من خمسين عاماً. ولكن استمرار هؤلاء المتمردين في أعمال العنف وقتلهم ما يقرب من 11 جندياً وإصابة 20 أخرين أدى إلى توقف محادثات السلام، حيث أن ثلاثة أرباع الشعب الكولومبي لن يوافق على شروط (فارك) للسلام، والتي تتعلق بالعفو عن قادتهم السابقين المتورطين في عمليات الاغتيال وتجارة المخدرات. وإلى جانب ذلك، فقد الرئيس "سانتوس" الدعم الشعبي نتيجة لتردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي.

ومنذ شهور، قام وزير الخارجية الأمريكي "جون كيري" بتعيين مساعد وزير الخارجية الأسبق "برنارد أرونسون" كممثل خاص لعملية السلام، والمعروف عنه بأنه مفاوض قاسي ولن يسمح بتقديم أي تنازلات في صالح ميليشيا (فارك) من شأنها أن تؤثر على الأمن الأمريكي.

كوبا: تطبيع العلاقات مع ديكتاتور

ترى الدراسة أن قرار الولايات المتحدة باستعادة وتطبيع العلاقات مع حكومة كوبا لن يؤدي إلى أي إصلاحات، حيث أنه عزز من شرعية نظام سياسي سلطوي. وقد تجاوب النظام الكوبي مطالباً برفع الحظر والقيود الأمريكية على التجارة والسفر، في حين استمر النظام في تجاهل حقوق 11 مليون مواطن كوبي. كما أدى رفع كوبا من على قائمة الدول الداعمة للإرهاب، إلى مزيد من تعنت حكومة "كاسترو".

ويشير الكاتب إلى أنه لا يمكن استعادة العلاقات التجارية الطبيعية مع كوبا وإدماجها في النظام العالمي إلا عندما تستوفي الشروط اللازمة لممارسة التجارة الطبيعية والخضوع لأحكام منظمة التجارة العالمية ومنظمة العمل الدولية. ويرى "أوباما" أن الانفراجة مع كوبا قد تكون بمثابة فرصة تدفع الدول الأخرى في المنطقة لمساعدة الولايات المتحدة في القضايا التي تتعلق بحقوق الإنسان وبعض المشاكل الأخرى، ولكن في حقيقة الأمر لم يحدث ذلك، بل على العكس صمتت دول المنطقة - ومن بينها واشنطن – إزاء أعمال القمع المستمرة بلا هوادة في كوبا.

أمريكا الوسطي: دائرة الفساد والفقر وعدم الأمان

تشير الدراسة إلى أن عدم الاستقرار في أمريكا الوسطى يرجع إلى تفشي الفساد والعنف المُمول من قِبل العصابات المنظمة؛ ففي السلفادور أدى سقوط الحكومة إلى الوقوع في دائرة العنف هي الأسوأ من نوعها منذ الحرب الأهلية عام 1992. بينما في جواتيمالا يتورط العديد من المسئولين في مجموعة من قضايا الفساد المتعلقة بالرشاوى والعمولات. وفي الهندوراس، تلقى الرئيس "أورلاندو هرنانيدز" تمويلاً من مجموعة من رجال الأعمال ثبت تورطهم في فضيحة فساد تتعلق بنظام التأمين الاجتماعي في الدولة.

وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن المشكلة الأساسية لها والناتجة عن ضعف حدودها الجنوبية الغربية، هي الهجرة غير الشرعية. وقد انخفض العدد نسبياً هذا العام نتيجة الجهود التي تقوم بها المكسيك في القبض على هؤلاء المهاجرين قبل وصولهم إلى حدود الولايات المتحدة.

وتبحث كل من حكومات السلفادور وجواتيمالا والهندوراس مع الولايات المتحدة تخصيص مبلغ مليار دولار للتعامل مع أسباب الهجرة غير الشرعية في هذه المنطقة. ومنذ عقد مضى، دشنت واشنطن منطقة تجارة حرة مع أمريكا الوسطي وجمهورية الدومينيكان، بيد أن غياب دور القيادة الأمريكية أدى إلى عدم استفادة حكومة هذه الدول من فرصة دخول السوق الأمريكي، وتعاني تلك الدول الآن من الفقر وعدم الأمان، وتطالب بتدخل الولايات المتحدة لحل مشاكلها، وتقديم الدعم لها.

النفوذ الصيني المتزايد في أمريكا اللاتينية

تتطرق الدراسة في الجزء الأخير إلى تزايد النفوذ الصيني في أمريكا اللاتينية، مشيرةً إلى أن إغفال الولايات المتحدة لدورها في هذه المنطقة ترتب عليه تعاظم نفوذ بكين فيها. ويوضح الكاتب أن احتياج الصين المتزايد إلى المواد الخام، وفرص الاستثمار، جعل منها شريكاً مرغوب فيه من قِبل دول أمريكا اللاتينية. وقد ازداد حجم التجارة المتبادلة بين الصين ودول أمريكا اللاتينية من 10 مليار دولار عام 2000 إلى 263 مليار دولار عام 2014.

وينصح الكاتب بضرورة ألا تترك الولايات المتحدة سوقها الطبيعي في أمريكا اللاتينية لأي دولة منافسة، كما يتعين على الشركات الأمريكية أن تنقل خبراتها للاستثمار والتجارة في أمريكا اللاتينية والكاريبي، إلى جانب إجراء المسئولين الأمريكيين حوار مع الجانب الصيني للتأكد من تفهمه لمخاوف الولايات المتحدة.


* عرض مُوجز لدراسة بعنوان: "أمريكا اللاتينية: انطباعات حول منطقة مضطربة"، والصادرة في يونيو 2015 عن معهد المشروع الأمريكي لأبحاث السياسات العامة.

المصدر:

Roger F. Noriega, Latin America: Impressions of a Troubled Region, (Washington, American Enterprise Institute, June 2015).