صدمة النهاية!!

مشاهد العالقين بالطائرات من سايجون إلى كابول

25 August 2021


في 15 أغسطس 2021 كان العالم على موعد مع حدث تاريخي، فخلال ساعات سريعة على المتابعين وثقيلة على الشعب الأفغاني، سيطرت طالبان على كابول، وكأن عقارب الساعة تعود للوراء، وبدأ العالم يستعرض أحداثاً مرت عليها عشرون عاماً.  

ومنذ اللحظة الأولى اتخذت طالبان بعض التحركات الرمزية لإرسال عدد من الرسائل الضمنية والإشارات المهمة للشعب الأفغاني، وللمجتمع الدولي أو الغربي على وجه التحديد، بشأن أسلوب الحركة في إدارة أفغانستان، حيث تعي الحركة أن أنظار العالم كله صوب أفغانستان في تلك اللحظات. وكانت الرسالة الأولى عندما أعلنت وكالات الأنباء أن مسلحي طالبان دخلوا إلى العاصمة، ثم أعلنت الوكالات نفسها انسحاب طالبان، وبدا أن الحركة تريد أن توضح أنها تستطيع السيطرة على العاصمة بالسلاح ولكنها تفضل أن تتريث وتدخلها من دون معارك لأن كابول تحت أنظار الإعلام الدولي والمؤسسات العالمية. 

ولم ترتبط الرمزية بحركة طالبان فقط، فمع إعلان الحركة السيطرة على كابول ودخول القصر الرئاسي ظهرت مشاهد تاريخية سوف ترتبط بهذه اللحظة الفارقة لسنوات طويلة، وستشكل الصورة الذهنية لها عبر العالم باختلاف رؤيته للأحداث. 

سايجون 2.0


أعادت صور مطار كابول إحياء ذاكرة انسحاب الولايات المتحدة من فيتنام، فالمشاهد تكاد تكون واحدة فقط يفرقها الزمان والمكان، غير أن مشاعر الهلع والخوف ومحاولات فرار المواطنين واحدة، الإخفاق الأمريكي لم يتغير تقريباً، أحداث الفوضى والإجلاء وسقوط ضحايا، سمات التصقت بالنموذج الأمريكي في الانسحاب من كلا البلدين. 

ومن أهم المنتجات الإعلامية التي جسدت تلك اللحظات، الفيديو الذي انتجته صحيفة ديلي تليجراف البريطانية الذي يقارن بين مشاهد الهروب في كابول عام 2021 وسايجون في فيتنام عام ١٩٧٥ وفي الحالتين تدفق الأمريكيون والفيتناميون والأفغان على السفارة الأمريكية، والمطار في ختام مغامرة عسكرية أمريكية انتهت بالفشل، ولم يقتصر الإخفاق على العمل العسكري فحسب، ولكنه امتد إلى مشهد النهاية أيضاً، حيث لم تنجح الولايات المتحدة في إخراج مشهد منظم لإجلاء رعاياها وموظفيها من منطقة الخطر ونقلهم إلى الأراضي الأمريكية. 

وأكد المشهد الأخير فشل الولايات المتحدة في مهتمها في أفغانستان، بعد عشرين عاماً، وبعد أن بلغت حصيلة إنفاق الولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان ترليوني دولار خلال عشرين عاماً. 

وقد وجهت الصحف البريطانية انتقادات لاذعة إلى لندن وواشنطن، وأشارت إلى أن المشهد يعني أن مهمة العشرين عاماً انتهت بالفشل، وتجب محاسبة المسؤولين في الولايات المتحدة وحلفائها.

الفرار من "الماضي"

تداولت وكالات الأنباء عدداً من الصور لمطار كابول خلال ساعات الإجلاء الأمريكي وبعد صعود طالبان، حيث فرت إلى المطار أعداد كبيرة من المواطنين الأفغان، محاولين اللحاق بالمجموعات المغادرة خارج الحدود الأفغانية للنجاة بأنفسهم من حكم طالبان، وكان من بين الصور الأكثر تداولاً المشهد المروع لاكتظاظ مئات المواطنين الأفغان داخل الطائرة الأمريكية، جالسين على أرضها، ناجين بأجسادهم فقط، تاركين وطنهم وأموالهم وممتلكاتهم، ملتحقين برحلة إلى المجهول من دون أي ضمانات أو معرفة إلى أين ستؤول بهم الطائرة العسكرية. 


في تقرير له، أشار موقع ديفينس وان إلى أن حمولة الطائرة قد بلغت ستمائة وأربعين شخصاً، وهي حمولة قياسية بالنسبة لطائرة من هذا النوع، وأشار إلى أن طاقم الطائرة قد تردد قبل أن يقلع بمثل هذا العدد غير المألوف. ولكنه اتخذ القرار بالإقلاع بعد أن أدرك أن الركاب ليس لديهم خيار آخر. 

وخارج إطار مشهد الطائرة، كان هناك آلاف آخرون مكدسين أمام المطار، من بينهم من يحمل تأشيرات سفر إلى دول غربية، ويحاول اللحاق بركاب المغادرين، ومنهم من لا يحمل إلا أمله بالهرب من تداعيات حكم حركة طالبان، منتظرين أي ثغرة تمكنهم من الفرار إلى الخارج.

السقوط من الجو موتاً

لن ينسى التاريخ مشهد هرولة الأفغان وراء طائرة الإجلاء الأمريكية في مطار حامد كرزاي، من بينهم من كان يعمل مع القوات الأجنبية أو الحكومة، وكان يعرف أن حركة طالبان ستنكل به، ومنهم من عاصر حركة طالبان في حكمها الأول ولا يريد أن يعود إلى العصر المظلم، ومنهم من عاش فقط مرحلة ما بعد طالبان ولا يريد أن يتنازل عن الحياة التي عرفها على مدار الأعوام العشرين الماضية، فأجمعوا أن اللحاق بالطائرات الأمريكية واللجوء إلى الولايات المتحدة هو الحل الوحيد للهرب من براثن طالبان.


ولكن الوصول إلى الطائرات الأمريكية لم يكن سهلاً، فالفوضى كانت سيدة الموقف، وبسط حركة طالبان سيطرتها على العاصمة أصاب كثيرين بالصدمة، وتدفق الأفغان على المطار زاد الموقف صعوبة، وهو الأمر الذي أجبر الأمريكيين على تعليق عمليات الإجلاء لعدة ساعات، ودفع دولاً مختلفة من بينها بريطانيا والولايات المتحدة إلى إرسال قوات خاصة لإتمام عمليات إجلاء رعاياها والأفغان الموظفين لديها، ويبدو أن حركة طالبان كانت سعيدة بالموقف، حيث أدى إلى تكثيف اتصالات الولايات المتحدة بالحركة لضمان استئناف عمليات الإجلاء وكان ذلك إقراراً جديداً من الولايات المتحدة بسيطرة حركة طالبان على العاصمة. 

لم تقتصر التفاصيل الحزينة على مشهد هرولة الأفغان للحاق بطائرة الإجلاء، وإنما امتدت إلى تعلقهم بجناحها، وسقوط بعضهم إلى الموت، وكان مشهد "تطاير" المواطنين، الذي نقلته وسائل الإعلام صادماً ومريراً على الإنسانية جمعاء. وكأننا أمام مشهد سينمائي، يصعب تصديقه، وقد وضعت دوائر حمراء للتأكيد أن الذي يتطاير ليس جماداً من جسم الطائرة، وإنما إنسان يلفظ أنفاسه الأخيرة.


وقد نقلت شبكة أريانا التلفزيونية الأفغانية عن مسؤولين تأكيدهم أن زكي أنوري لاعب منتخب الشباب لكرة القدم كان بين المتعلقين بجسم الطائرة ولقي حتفه. ملخصاً بقصته حال ملايين الشباب الأفغان الذين يرون أن الانتحار في سبيل الحرية أفضل من الرضوخ لحركة طالبان. 

وعلى الجانب الآخر، فالأفغان تدافعوا للوصول إلى طائرات الإجلاء وقد أدى التدافع إلى وقوع ضحايا وأسفر عن زيادة عدد الأيتام في أفغانستان وفق ما قالت صحيفة ديلي ميل البريطانية وأضيف هؤلاء القتلى إلى حصيلة ضحايا الحرب المدنيين في أفغانستان والذين بلغوا سبعة وأربعين ألف مدني أفغاني كما ذكر تقرير وكالة أسوشيتد بريس الأمريكية.

رمي الأطفال خارج الحدود

وفقاً لحسابات الكثير من المواطنين الأفغان البسطاء، يمثل سور مطار كابول الحد الفاصل بين حكم طالبان وحلم الحرية، ومن لم يستطع الفرار بنفسه وأسرته لعبور هذا الحد، يرمي بأبنائه للجانب الآخر من السور بحثاً عن مكان لهم في مستقبل يحمل فرصاً أكثر للحياة، حتى ولو كانت تكلفة ذلك الانفصال الأبدي بين الآباء والأبناء. وهو المشهد الذي تم تجسيده في عدد من الصور المتداولة لأطفال يتم تسليمهم للجنود الأمريكيين والبريطانيين من فوق الأسلاك الشائكة المنتشرة فوق سور المطار.

 ومن بينهم المشهد الذي نشره ناشط أفغاني مقيم في ألمانيا في التاسع عشر من أغسطس ويظهر التقاط جندي أمريكي رضيعاً أفغانياً. 

وقد تم استغلال هذه الصورة من الجانب الأمريكي، حيث أعلن الميجور جيم استنجر في بيان نشرته وسائل إعلام غربية أن الطفل ليس وحيداً وراء أسوار المطار، وإنما تم لم شمل الأسرة، وأصبح الطفل والوالدان  يتمتعوا  بحماية القوات الأمريكية بعيداً عن مسلحي حركة طالبان الذين يرهبون المواطنين خارج المطار ويطلقون النار في الهواء في محاولة لفرض السيطرة.

وهذا الطفل لم يكن الوحيد الذي التقطته أيادي الجنود من فوق السور، فقد وثقت صحيفة الإندبندنت البريطانية مشهداً آخر لسيدة تسلم طلفها لجندي بريطاني على أمل أن يصل الطفل إلى واحدة من طائرات الإجلاء البريطانية. ونقلت مراسلة الصحيفة في كابول في التقرير نفسه شهادة ضابط بريطاني قال فيها إن الأمهات الأفغانيات يتعرضن للضرب من عناصر حركة طالبان ولا يجدن سبيلاً لإنقاذ أبنائهن إلا تسليمهم للجنود البريطانيين عبر الأسوار، وأضاف أن بعض الأطفال سقطوا على الأسلاك الشائكة وتعرضوا للإصابات، وأن تلك المشاهد أبكته وزملاءه الجنود المكلفين بتسهيل إجلاء الدبلوماسيين البريطانيين والأفغان الذين كانوا يعملون مع الجيش البريطاني والمؤسسات البريطانية. 

وتفرط الصحف البريطانية في نشر صور إنقاذ أطفال أفغانستان ولكن المراقب لا يستطيع أن يغفل أن القوات البريطانية والأمريكية تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن الموقف الحالي في أفغانستان.


حجاب مراسلة لا يكفي  

في 16 من أغسطس، ظهرت كلاريسا وورد، مراسلة سي إن إن في كابول مرتدية عباءة سوداء وحجاباً طويلاً، وفسر البعض المشهد بأنه محاولة ذكية من المراسلة للتحايل على تشدد حركة طالبان، فقد كانت تقوم بعملها على مقربة من مسلحي الحركة كما ظهر في الفيديو، وبدت وكأنها تؤدي عملها بحرية، بينما اعتبر آخرون المشهد دليلاً على القيود التي تفرضها حركة طالبان على النساء، سواء كن أفغانيات أو أجنبيات. 

ويبدو أن وورد رأت أن انتشار الصورة بهذا الشكل الواسع يستحق توضيحاً، فكتبت على حسابها الشخصي على تويتر في 16 أغسطس، أنها عادة ترتدي حجاباً خلال عملها في الأماكن العامة في أفغانستان، ولكنها لا ترتديه في مكتبها. وبالفعل ظهرت في المساء من دون الحجاب خلال تعليقها على كلمة الرئيس الأمريكي جو بايدن.

وواصلت وورد عملها في أفغانستان مرتدية العباءة والحجاب متخيلة أنها تضمن بذلك عدم استفزاز مقاتلي طالبان، ولكن في تقرير لها يوم السابع عشر من أغسطس تحدثت إلى أحد قياديي طالبان في شوارع كابول وسألته عن أسلوب إدارة الحركة للبلاد، فأوضح لها أن النساء يجب أن يرتدين الحجاب، فسألته ما إذا كانت طالبان ستقبل الحجاب الذي ارتدته وورد فرد القيادي بأن الحجاب يشمل تغطية الوجه، وردت عليه وورد بأن تغطية الوجه تعني النقاب وليس الحجاب، وسألته ما إذا كان الإسلام يفرض النقاب، فرد عليها القيادي بالإيجاب.

وبعد هذا الموقف قالت وورد في مقابلاتها المباشرة إن ما شاهدته خلال الأيام الماضية يعتبر من أسوأ ما تعرضت له خلال حياتها الصحفية. وأعلنت أنها اتخذت قراراً بمغادرة البلاد، بعد أن ذهبت إلى مطار كابول لتغطية الأحداث، وهناك تمت مطالبتها بتغطية وجهها وتعرضت لمحاولة الاعتداء على فريقها الصحفي، مما أدى إلى تدخلها لحماية زميلها، ثم اتخاذ قرار الانسحاب من موقع التغطية، ثم اتخاذ قرار آخر بمغادرة أفغانستان.

وقبل أن تستقل الطائرة قدمت صورة للمشهد من داخل مطار كابول، وقالت إن الوصول إلى طائرة الإجلاء يتطلب الانتظار لساعات تحت شمس حارقة، وإن البعض قد ينتظر لأكثر من يومين في العراء، ورغم أن هذا المشهد يعتبر معاناة شديدة، فإنها  وصفت أولئك الذين يخوضون تلك المعاناة بأنهم أسعد حظاً من آلاف الأفغان، فالموجودون داخل أسوار المطار قريبون من تحقيق حلم الخروج من أفغانستان على عكس آخرين يقضون أياماً وليالي في الخارج وسط تزاحم وفوضى وأحياناً إطلاق نار من جانب مقاتلي طالبان.  وفي العشرين من أغسطس نشرت صورة للطائرة التي استقلتها مغادرة أفغانستان. 


نضال نسوي أم تحسين صورة

في السابع عشر من أغسطس نشرت الصحفية، شاكيلة إبراهيم خيل، عبر حسابها على تويتر مقطع فيديو يوثق أول تظاهرة نسائية ضد حركة طالبان، ورغم أن عدد المشاركات كان ضئيلاً جداً، فإنه كان مؤشراً على وجود ناشطات مستعدات للمخاطرة وتحدي حركة طالبان ورفع شعارات تطالب باحترام حقوق المرأة وتؤكد أنهن لن يكن فريسة سهلة وإن المرأة الأفغانية لن تتخلى عن المكاسب التي حققتها خلال العقدين الماضيين. 


ويثبت المشهد أيضاً أن العالم في حالة ترقب لمصير المرأة الأفغانية فالمشهد تناقلته وسائل الإعلام في دول العالم المختلفة وسط تحليلات عن أسلوب حركة طالبان في التعامل مع المرأة. وكان واضحاً في المقطع وجود عدد من مسلحي حركة طالبان في موقع التظاهرة وأن أحداً منهم لم يتعرض للمتظاهرات رغم أن هناك تقارير توثق مضايقات المسلحين للمرأة، ومن بينها ما نقلته مذيعة بي بي سي يالدا حكيم وهي أفغانية الأصل عن منع الفتيات من دخول الجامعة في مدينة هرات الأفغانية. وقد عرضت حكيم تلك المعلومات على المتحدث باسم الحركة خلال حوار على الهواء في السادس عشر من أغسطس، إلا أنه قال إن سياسة الحركة تسمح بتعليم المرأة، وبدا كأنه لا يعلم عن ذلك الموقف. 

ومن جانبهم، استغل المتعاطفون مع حركة طالبان مشهد التظاهرة للتأكيد على أن الحركة في عهدها الجديد أقل تشدداً ضد المرأة، ولكن من الصعب تصديق تلك الرواية، خصوصاً أن مشهد التظاهرة كان موثقاً بكاميرات الصحفيين، ولو كان مسلحو طالبان اعتدوا على التظاهرات لوجهوا ضربة مبكرة لجهود تحسين صورة الحركة.