حسابات مستترة:

لماذا أطلقت تركيا عمليات "أرن" ضد حزب العمال الكردستاني؟

27 January 2021


أعلنت تركيا، في 26 يناير الجاري، عن شن عمليتين عسكريتين جديدتين "أرن 4 وأرن 5" (نسبة إلى الطفل التركي أرن بلبل الذي قتل في 11 أغسطس 2017) لملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني. وعلى خلاف عمليتى (مخلب النسر ومخلب النمر) اللتين شنتهما في يونيو 2020، سعت أنقرة إلى التنسيق مع الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق خلال العمليتين الأخيرتين. إلا أن مراقبين يرون أن حكومة الإقليم أبدت موقفاً واضحاً باستعدادها للتنسيق مع تركيا، على عكس الحكومة الاتحادية في بغداد، التي لم تعلن موقفاً رسمياً حتى إطلاق العمليتين، على الرغم من أن الزيارة التي قام بها وزير الدفاع التركي خلوصي آكار إلى العراق قبيل إطلاقهما أعلن خلالها أنه على استعداد لتقديم الدعم للعراق لمواجهة أنشطة الحزب في قضاء سنجار. لكن على ما يبدو، فإن أنقرة لم تنتظر الموقف الرسمي وأطلقت العمليتين، في الوقت الذي تواجه الحكومة العراقية ضغوطاً داخلية في هذا الملف لاعتبارات تتعلق بمسألة السيادة. 

مواقف كاشفة:

تكشف مواقف الأطراف، وحسابات القوى الداخلية في كل من العراق وتركيا، عن خلفيات سياسية معقدة تعكس أهداف إطلاق العمليتين من حيث التوقيت. فعلى الرغم من أن الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان توصلا فى أكتوبر الماضي إلى اتفاق بشأن تسوية الخلاف على إدارة منطقة سنجار (كواحدة من أربع مناطق متنازع عليها) عبر تبني نظام الإدارة المشتركة، ونشر قوات "شرطية" اتحادية لفرض مظاهر الأمن في الإقليم، لكن الأهم أن الاتفاق تضمن إنهاء وجود حزب العمل الكردستاني في سنجار وكافة الكيانات المرتبطة بها، وهو ما عزز من صيغة ميل الاتفاق إلى الموقف السياسي لحكومة الإقليم، في إطار علاقاتها مع أنقرة، والتي انعكست في ارتفاع مستوى التنسيق الأمني والاستعداد لتأسيس بنية أمنية تركية في الإقليم من مكاتب استخبارات وغرف عمليات. ومع أن المتحدث باسم وزارة الدفاع العراقية يحيى رسول أكد أولوية ضبط الحدود بالنسبة لبغداد، لكن في المقابل يبدو أن الحكومة العراقية تواجه ضغوطاً بسبب جدول الأعمال السياسي في ظل المرحلة الانتقالية وتصاعد العمليات الإرهابية التي ينفذها تنظيم "داعش" من جهة، وتحاول من جهة أخرى تفادي ظهور عراقيل في العلاقات مع تركيا على ضوء المباحثات التي تجري لتسوية الخلافات على ملف المياه منذ منتصف يناير الجاري. 

كذلك، فإن إيران لا تبدو بعيدة عن هذه العمليات، في إطار الاتفاق المشترك على التنسيق مع تركيا لملاحقة عناصر حزب الحياة الحرة الكردستاني في جبال قنديل، والذي تعتبره فرعاً أو امتداداً لـحزب العمال الكردستاني، وبالتالي فإنها قد تشكل أيضاً أحد الأطراف الضاغطة لإطلاق هذه العمليات. 

واللافت في هذا السياق أيضاً أن ثمة جدلاً تصاعد حول العمليتين الأخيرتين داخل تركيا نفسها، إذ انتقد مراقبون أتراك من المعارضة الموقف الرسمي من باب تفسير دافع الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي قال قبل 4 أيام من إطلاق العمليتين أنه "قد نأتي على حين غرة ذات ليلة"، حيث اعتبروا أنها رسالة تهدف إلى تقوية التحالف مع الأحزاب القومية خاصة حزب "الحركة القومية" بقيادة دولت بهجلي، الذي يدعم العمليتين. وبالتزامن مع هذا الهجوم، شن أحمد داوود أوغلو رئيس حزب "المستقبل" المعارض هجوماً على العلاقة بين بهجلي وأردوغان معتبراً أن حزب "الحركة القومية" بقيادة بهجلي أصبح وصياً على حزب "العدالة والتنمية" في المرحلة الحالية، وأن كافة السياسات تتم لتعضيد هذا التحالف. فضلاً عن محاولة الهروب من المشكلات الداخلية لاسيما الوضع الاقتصادي. 

معادلة الاشتباك:  

بحسب تصريحات وزيرى الداخلية والدفاع التركيين، فإن الهدف الرئيسي هو ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني المصنف تركياً كمنظمة إرهابية، دون الإشارة إلى تفاصيل حول هذا الأمر. لكن العديد من التقديرات التركية أشارت إلى أن الهدف الأساسي هو عزل مليشيات الحزب في العراق عن مليشيا "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) في سوريا، وقطع خطوط الإمدادات بين الطرفين التي تتصل في مثلث حدودي بين العراق وتركيا وسوريا، وهو ما تكشف عنه مناطق العمليات التي تشمل عمليات أخرى في العمق التركي (أرن 3 - 4 – 5) على التوازي، وتضم ولايات (أغري، ديار بكر، قارلي أوفا – وارطو، ولاية موش (شرق)، وباغوك في ولاية ماردين (جنوب شرق).

وبحسب البيانات الرسمية التركية، فإن قوات الأمن (التابعة لوزارة الداخلية) هى التي تتولى العمليتين، بحدود ما يقارب 2500 عنصر. لكن في المقابل، فإن التقارير الإعلامية تكشف أن العمليتين تضمان قوات أمنية متخصصة تابعة لوزارة الدفاع في المقام الأول، على الرغم من أنه لم تتم الإشارة إلى حجم وشكل الآليات العسكرية التي ستشارك فيهما. وعلى الأرجح، من المتصور أن تركيا ستوظف قدرات حكومة إقليم كردستان من جهة، وقد تستخدم من جهة أخرى طائرات الدرونز لعبور الحدود، واستهداف مواقع الحزب. 

في المقابل، من المتوقع أن تتطور هذه المعادلة فى إطار العمليات الميدانية، وهو ما أشار إليه زيدان العاصي الرئيس المشترك لمكتب الدفاع في "قسد" لشمال وشرق سوريا، بالتزامن مع إطلاق العمليتين، حيث اعتبر أنها قد تقود إلى "حرب مفتوحة" وقال أن "أى هجوم تركي يعني حرباً جديدة لا نهاية لها، وستكون نتائجها كارثية على سوريا والمنطقة بشكل عام". ولكنه ربط ذلك بالهجوم على مدينة المالكية (أقصى شرق سوريا وتتبع الحسكة، وتتلاقى مع الحدود العراقية باتجاه سنجار)، مشيراً إلى أن "أى عدوان تركي على المنطقة سيكون بمثابة الكارثة"، وبالتالى قد تتغير المعادلة. 

لكن ما سيحسم هذا التطور، على الأرجح، ليس مجرد استهداف مناطق في الحسكة، كما يشير العاصي، خاصة وأن رسالته تلك فسرت في أكثر من اتجاه، منها إدخال أطراف أخرى في المعادلة لكبح التمدد التركي في المنطقة لاسيما النظام السوري والحكومة الاتحادية في بغداد وأيضاً التحالف الدولي، وتوجيه رسالة إلى حزب العمال الكردستاني في سنجار الذي تستهدفه الحملة. فمن الناحية الواقعية، لا يمكن استبعاد استهداف مواقع على الجانبين، سواء في العمق العراقي أو السوري، لكن ما سيحدد ذلك هو نتائج العمليتين على الأرض، والتي ستكشف ما إذا كانت الاعتبارات السياسية واللوجستية هى الأسباب الحقيقية فعلياً، أم أن هناك دوافع أكبر من ذلك على المستوى الاستراتيجي، وأن تركيا، بالتنسيق مع حكومة إقليم كردستان، تسعى إلى التمدد داخل العراق في تلك المنطقة وتغيير ملامحها وموازين القوى فيها لصالح حليفها المتمثل في حكومة كردستان، وهو ما قد يحقق لكلا الطرفين، على المديين المتوسط والبعيد، أهدافاً استراتيجية في الإطار الجيوسياسي وسيمكنهما من التواجد في تلك المنطقة بصورة أساسية، خاصة وأن الاتفاق مع حكومة بغداد يعتبره الكثير من المراقبين هشاً بدرجة كبيرة.  

في النهاية، يمكن القول إن هناك تفسيرات عديدة لإطلاق عملية "أرن" التركية في العمق العراقي – السوري، أبرزها أن أردوغان لايزال بحاجة إلى توظيف الانخراط في المواجهة مع الأكراد لأهداف سياسية في الداخل. لكن في واقع الأمر، فإن نتائجها والمدة الزمنية لها هى التي ستكشف عن طبيعة الأهداف الحقيقية المستترة لها. والثابت في كل الحالات هو أن الانعكاسات الجيوساسية لمثل هذه العمليات في كل من سوريا والعراق قد تؤدي بالتدريج إلى تغير ملامح هذه المنطقة، على نحو يكشف عن استمرار هشاشة الدولة في كل من العراق وسوريا، وهو ما يمنح أنقرة فرصة للتمدد على حسابهما.