دورات التاريخ:

هل يمكن أن تنتهي القوة الأمريكية في 2030؟

30 June 2020


عرض: وفاء الريحان - باحثة في العلوم السياسية

يتحدث الكثيرون عن نهاية الإمبراطورية الأمريكية بحلول عام 2030، وأن عصر الرئيس "دونالد ترامب" ما هو إلا بداية النهاية لهذا الانهيار المتوقع، وقليلٌ من يخرج عن تلك الرؤية، ويُقدم طرحًا مغايرًا بأسانيد وأدلة مُدَعّمة له، ويمثل هذا النموذج الأخير عالِم السياسة الأمريكي والعضو في الحزب الجمهوري "جورج فريدمان"، في كتابه الجديد بعنوان "العاصفة قبل الهدوء: الخلافات الأمريكية وأزمة عشرينيات القرن الحادي والعشرين والانتصار بعدها".

يعرض "فريدمان" في هذا الكتاب رؤيته لما سيؤدي إليه عقد العشرينيات من القرن الحادي والعشرين من اضطربات كبيرة، وإعادة تشكيل للحكومة الأمريكية والسياسة الخارجية والاقتصاد والثقافة، ولكنه يتوقع أن تتجاوز الدولة الأمريكية الأزمة.

وفي هذا الإطار، قدَّم رؤيته للتاريخ في حركته الدورية، حيث استعرض طبيعة الشخصية والقيم الأمريكية، ثم تناول الدورتين الرئيسيتين اللتين تحكمان التاريخ الأمريكي من وجهة نظره، وانتهى بتقديم تصور للمستقبل، واصفًا الأزمة التي يعتقد حدوثها عندما تتقارب الدورتان في العقد من عام 2020 إلى عام 2030، وكيف سيتم اجتيازها إلى مرحلة أكثر قوة وازدهارًا.

اختراع الدولة الأمريكية

يعود "فريدمان" إلى لحظة تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية عندما تم الاتفاق في المؤتمر الدستوري على إنشاء الحكومة الأمريكية، التي يقول إنه تم تصميمها وهندستها على نحو مُعيَّن فيما يُعرف بـ"آلية الحكومة"، وهي الهياكل والعمليات المرتبطة بالحكومة، ومنها المتابعة والمساءلة للتنفيذيين، وذلك انطلاقًا من جانبين؛ الأول: أنهم لا يثقون في الحكومة التي من الممكن أن تتحول إلى الاستبداد، والثاني: أنهم لا يثقون في الأفراد، خاصة أن هناك أشخاصًا يسعون لتحقيق مصالحهم، بما يجعل الحكومة تحيد عن تحقيق الصالح العام.

ووفقًا للكتاب، فإن هدف المؤسسين من اختراع تلك الآلة التي تضبط نفسها، هو خلق مجال من الحياة الخاصة يحصل فيه المواطنون على السعادة التي وُعِدوا بها في إعلان الاستقلال بعيدًا عن السياسة، ويُعبَّر عن تلك المساحة الخاصة في مجالات كالتجارة والصناعة والدين والترفيه وغيرها.

يعبّر ما سبق -وفقًا لـ"فريدمان"- ضِمنًا عن فكرة الحق في السعي إلى السعادة، فالدولة لن تعوق أحدًا ما دام سيتم تحديد مصير الفرد من خلال شخصيته ومواهبه، رغم أن ذلك في مرحلة لاحقة تخطَّى فكرة الفصل بين الدولة والحياة الخاصة إلى خلق توترات مستمرة بينهما، منها على سبيل المثال، أن الرغبة في عدم زيادة الضرائب مع السعي إلى تقديم خدمات متزايدة من الإشكاليات التي تواجه الحكومة في سعيها المستمر إلى توسيع قوتها وتمويلها، دون الالتزام بأي تحسينات.

على أي حال، يعتبر الكاتب أن النظام الأمريكي الذي تم تأسيسه على هذا النحو فريد من نوعه، فهو لا يرتبط فقط بالأشخاص الذين عاشوا في الولايات المتحدة، ولكن أيضًا الذين يختارون أن ينتموا له، وتلك النقطة هي ما تجعل الولايات المتحدة مختلفة عن غيرها من الدول الأخرى، ذات التاريخ واللغة والثقافة والمكان المشترك، فنجد فرنسا واليابان مثلًا مرتبطتين بماضيهما. أما الولايات المتحدة فهي متجذرة في اختراع شكل من أشكال الحكومة مُصَمَّم لغاية أخلاقية وعملية، وبالتالي فإن مفهوم الجمهورية الأمريكية ذاته مُصطَنع وغير مرتبط بالماضي.

التغير وحركة التاريخ

يرى الكاتب أن التاريخ الأمريكي يتحرك في دورتين رئيسيتين، تمر بهما الولايات المتحدة بشكل متكرر منذ تأسيس الجمهورية، وهما:

أولًا- "الدورة المؤسسية": التي تحدث كل ثمانين سنة تقريبًا، وترتبط بالعلاقة بين الحكومة الفيدرالية والولايات؛ حيث بدأت الدورة المؤسسية الأولى مع نهاية الحرب الثورية وصياغة الدستور في منتصف الثمانينيات من القرن الثامن عشر، وانتهت عام 1865 مع الحرب الأهلية، أما الدورة المؤسسية الثانية فانقضت مع نهاية الحرب العالمية الثانية. ويتنبأ "فريدمان" بانتهاء الدورة الثالثة بحلول عام 2025.

ثانيًا- "الدورة الاجتماعية-الاقتصادية": تتكرر كل خمسين عامًا تقريبًا، وذات علاقة بالقوى المهيمنة في القطاع التجاري، وبدأت بما حدث في الخدمات المصرفية الخاصة، من عام 1787 إلى رئاسة "أندرو جاكسون"، ثم توسيع الأراضي من "جاكسون" إلى نهاية الولاية الثانية للرئيس "يوليسيس جرانت"، وبعد ذلك في فترة الصناعة التي ترتكز على الإنتاج من عام 1880 إلى الكساد الكبير 1929، ثم الإدارة التكنوقراط من "فرانكلين روزفلت" إلى "رونالد ريجان"، وأخيرًا النظام الذي يُركز على الاستثمار والضرائب المنخفضة وأسعار الفائدة المنخفضة من "ريجان" وحتى الآن، وهي الفترة التي تشهد حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، والتي يتوقع الكاتب نهايتها في أواخر عشرينيات القرن الحالي. ولمزيد من التوضيح عن مراحل الدورات المختلفة انظر الشكل التالي:

 

ويذكر "فريدمان" أنه مع كل تكرار لهذه الدورات ينتهى الأمر بأزمة، لكن الولايات المتحدة في كل مرة أعادت اكتشاف نفسها، وأقامت فترة أخرى من الاستقرار والازدهار، فقد أعقبت الحرب الأهلية فترة نمو هائلة، وبعد خمس وثلاثين سنة كانت واشنطن تنتج نصف السلع المُصنَّعة في العالم، كما أعقب الحرب العالمية الثانية نمو لم يسبق له مثيل، إلى جانب الطفرة التكنولوجية في أعقاب الحرب الباردة.

ومن الجدير بالذكر، أن ترتيب هذه الدورات وسرعتها يختلف كثيرًا عن البلدان الأخرى، التي يَصْعُب التنبؤ بالطبيعة الدورية لتاريخها وتطورها، وربما يرتبط ذلك بالحقيقة التي تناولها عن النشأة المخترعة للدولة الأمريكية؛ لذا كانت الدورات الأمريكية متوقعة للغاية ومتكررة، بسبب هيكل الولايات المتحدة: نظامها، وشعبها، وأرضها.

في الختام، يُنبِّه "فريدمان" إلى جانب مُثير للاهتمام يتعلّق بطبيعة الموجتين الحاليتين اللتين لم تشهدهما البلاد من قبل، ومن المتوقع أن تنتهي الدورة المؤسسية الحالية بأزمة منتصف العقد الحالي، وتنتهي الدورة الاجتماعية-الاقتصادية في غضون بضع سنوات من ذلك. وهذه هي المرة الأولى في التاريخ الأمريكي التي تتقارب فيها نهاية الدورتين وتتداخلان عمليًّا، وهو ما يعني أن عشرينيات القرن الحالي ستكون واحدة من أصعب الفترات في التاريخ الأمريكي، بالنظر إلى الدور المُعقَّد الذي تلعبه الولايات المتحدة في العالم. لذا، فإن إدارة "ترامب" ليست سوى مُقَدِّمة لهذه الفترة وما سيأتي لاحقًا.

ويرى الكاتب أن ما يجعل المجتمع الأمريكي قادرًا على تجاوز أزماته المتكررة يتمثل في كونه "أمة مخترعة"، لم تتطور بشكل طبيعي من مجموعة محدودة من الناس على مدى آلاف السنين في منطقة واحدة، بل تم بناء النظام الأمريكي قصدًا لأول مرة في إعلان الاستقلال، ثم إضفاء الطابع المؤسسي عليه في الدستور، وتم بناء الشعب الأمريكي من العديد من البلدان والعديد من اللغات، مع أسباب متنوعة للقدوم إلى أمريكا.

بيانات الكتاب: 

George Friedman, “The Storm Before the Calm: America's Discord, the Coming Crisis of the 2020s, and the Triumph Beyond”, (New York: Doubleday, 2020).