تمدد" الحزام والطريق":

آثار مزدوجة لصعود الصين في مجال البنية التحتية بالعالم

17 June 2019


عرض: ياسمين أيمن - باحثة في العلوم السياسية

 أثار حجم القروض الصينية لتمويل مشروعات البنية التحتية عالميًّا مخاوف متعددة من قبل الدول الغربية، والتي تلخصت في تمدد نفوذ بكين الجيوبولتيكي، فضلًا عن تأثر اقتصاديات الدول بالصين وتبعيتها لها مستقبلًا. وقد زادت تلك المخاوف عقب شروعها في تنفيذ مبادرة "الحزام والطريق" التي تبنتها عام 2013، والتي تضمنت تمويل مشروعات البنية التحتية في الدول التي سيمر بها طريق الحرير.

 وفي هذا سياق، يحلل "فرانسيس فوكوياما" وآخرون في ورقة بحثية، صادرة عن مركز الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون التابع لجامعة ستانفورد في مايو الماضي، بعنوان "كيف انطلقت سريعًا مبادرة الحزام والطريق: أسباب وآثار سطوع الصين في مجال البنية التحتية العالمية"، نموذج بكين التنموي في مجال البنية التحتية، فضلًا عن استعراض عيوبه ومميزاته. وتقارن الورقة بينه وبين مقاربات المؤسسات التمويلية الغربية. وستعرض الورقة تطور السياسات التنموية الصينية، وآلية عملها.

صعود صيني:

توضح الورقة أن الصين قد احتلت المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية كقوة اقتصادية عالمية. ويرجع ذلك لمعدلات النمو السريع التي حققتها خلال العقود الأخيرة، لتنتقل من مصاف الدول الفقيرة للدول مانحة القروض والدعم. وهو ما أثار ريبة الدول الغربية وفي مقدمتها واشنطن، ولا سيما مع اتخاذها منح القروض والمساعدات التنموية لتطوير البنية التحتية العالمية كمحور أساسي لمبادرة "الحزام والطريق". وتشير الورقة إلى أن الصين تسعى من خلال تلك المبادرة لتحويل مركز التجارة العالمي من الولايات المتحدة إلى الصين، واكتساب ثقل جيوبوليتيكي عالمي، يمكنها من منافسة الدول الكبرى.

وتضيف الورقة أن عددًا من الخبراء قد انتقدوا مبادرة "الحزام والطريق" لأنها تهتم بدعم البنى التحتية بغض النظر عن الظروف البيئية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية التي تراعيها الدول الأوروبية في المشاريع التي تُنفذ تحت إشرافها. بالإضافة إلى زيادة عبء الديون الصينية على الدول، ومنحها امتيازات واسعة، كما في حالة سيريلانكا التي منحت لبكين حق الانتفاع بمينائها لمدة 99 عامًا.

وفي هذا السياق، يشير الباحثون إلى أن تراجع دول أوروبا والولايات المتحدة، فضلًا عن المؤسسات الدولية كالبنك الدولي، عن تقديم الدعم الكافي لتطوير البنية التحتية للدول النامية، يعد سببًا رئيسيًّا في زيادة النفوذ الصيني في هذا المجال.

السياسة الصينية التنموية

توضح الورقة أن الصين تمتلك نموذجًا تنمويًّا يتشابه جزئيًّا مع دول شرق آسيا المتقدمة (مثل: اليابان، وكوريا الجنوبية)، حيث تبنت تلك الدول استراتيجيات نمو الصادرات، والتي تعتمد على توجهات الدولة أكثر من اعتمادها على توجهات الأسواق. وتضيف أن اتباع الصين تلك الاستراتيجيات منذ تسعينيات القرن المنصرم ساهم في ارتفاع نسبة إجمالي تكوين رأس المال الصيني من الناتج المحلي الإجمالي ما بين 35% إلى 45%، وهي نسبة غير مسبوقة في الدول المتقدمة أو الأقل تقدمًا، ومؤشر واضح على وجود فرصة أمام بكين لتحقيق مكانة دولية لاحقًا. 

وتضيف الورقة البحثية أنه مع بداية الحقبة الثانية من القرن الحادي والعشرين تطور الاستثمار في البنية التحتية الصينية. وقد ساهم بنك التنمية بالدولة في المشاريع القومية الصينية بتوجيهه نحو 70% من القروض للمشاريع القومية ومشروعات البنية التحتية. فزادت صادرات بكين للأسواق الخارجية. ومع تزايد معدل الاستثمار الصيني المحلي في مشروعات البنية التحتية والعقارية؛ حدث فائض في السوق العقاري وتلك المشروعات، فتوجه المستثمرون للاستثمار في مشروعات لا تدر فائضًا على اقتصاد الدولة، وحدث فائض في القروض الصينية. ولذلك كان من الضروري التوجه لتمويل مشروعات البنية التحتية دوليًّا، وتعميم تجربة بكين عن طريق التوسع في منح القروض الصينية.

وتشير الورقة إلى أن الاتفاقيات الثنائية أو القروض مع الصين تكون ملحقة ببعض الشروط، ومنها ضرورة الاعتماد على الشركات الصينية في تنفيذ المشروعات، وهو ما أدى إلى احتلال سبع شركات مقاولات صينية أعلى المراكز من أصل عشر شركات على مستوى العالم بحلول عام 2016. وتنص الشروط على ضرورة استخدام معدات صينية داخل المشاريع، ومنح بكين الحق في استخراج الموارد الطبيعية للدولة، كما في حالة العديد من دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية. بالإضافة إلى تحديد نسبة معينة من العمالة الصينية تقوم بتنفيذ المشروع. فمثلًا يقدر عدد العاملين الصينيين في إفريقيا خلال عام 2014 بنحو مليون عامل.

الاقتراب الصيني التنموي

تؤكد الورقة أن تطوير البنية التحتية هي مسألة تشوبها عدة مخاطر يجب وضعها في عين الاعتبار قبل البدء في تنفيذ المشروع، كحالة الطقس، والطبيعة الجغرافية، والأوضاع السياسية، والتكلفة الاقتصادية للمشروع، والتي غالبًا ما تتخطى المقدار المحدد لها؛ لوجود عوائق تجعل إتمام المشروع يتم تنفيذه بعد المدة الزمنية المحددة.

وغالبًا ما يكون العائد من تطوير البنية التحتية عائدًا عامًّا على الدولة والمواطنين. وتطوير البنى التحتية من شأنه أن يؤثر بالإيجاب على عمليات التبادل التجاري، ويعزز من النمو الاقتصادي داخل الدولة. وتحدد الجهات الخارجية كالمنظمات الدولية تدخلها في المشروع من عدمه بناء على مقارنة العوائد الداخلية مقابل مقياس تكلفة المخاطر. فإذا كانت العوائد أكبر، تستمر المنظمات في دعم المشروع بالتعاون مع الهيئات العامة والحكومية.

وبالنسبة للاستثمارات الصينية في البنية التحتية، فهي مصحوبة بتفاؤل مفرط تجاه المردودات المنتظر تحقيقها. ويأتي ذلك استنادًا إلى تجربتها الخاصة في الاستثمار. فضلًا عن إيمانها بالقدرة على تحقيق نمو اقتصادي داخلي سيكون له مردود إيجابي على العلاقات مع بكين، التي تعمل من منطلق "ابْنِ الآن وستأتي العوائد لاحقًا".

ولعل ذلك هو الفارق بين الاستثمارات الغربية والصينية، فالمشاريع الغربية الفردية عادة ما تفشل بسبب ضعف البنية التحتية. أما بكين فهي تسعى لجعل العملية متكاملة. فمثلًا استغلالها لميناء معين يدفعها للتفكير في وجود شبكات كهرباء وخطوط سكك حديد وغيرها مما يدعم المشروع ويساهم في نجاحه. لكنها لا تضع بعين الاعتبار الآثار السلبية التي تنتج عن المشروعات. فمثلًا تم ترحيل نحو 1.5 مليون مواطن صيني لبناء سد الممرات الثلاثة، فضلًا عن أنه مقابل التوسع في مشروعات البنية التحتية الصينية فقدت الدولة نحو 40% من الأراضي الصالحة للزراعة.

نظام التمويل الصيني

تشير الورقة إلى أن سياسات الصين التنموية في مجال البنية التحتية قد ساهمت في تعظيم نمو حقيبة الإقراض للبنوك الصينية. وضرب المثل ببنك EXIM الصيني المتخصص في تمويل المشروعات ومنح القروض الخارجية، والذي استطاع أن يحقق معدل نمو كبير تفوق أصوله ذراع الإقراض التنموي للبنك الدولي (البنك الدولي للإنشاء والتعمير) بين عامي 2014 و2015. 

وبجانب النمو الناجم عن التوسع في الإقراض، توضح الورقة البحثية أن المخصصات الإدارية داخل البنوك الدولية -مثل البنك الدولي- تفوق المخصصات الإدارية لبنك EXIM الصيني بنحو 10 أضعاف. وهناك بنوك أمريكية مانحة للقروض تبلغ مخصصاتها الإدارية نحو 5 أضعاف بنك EXIM الصيني، وهو ما يدل على أن البنك الصيني يمنح النسبة الأعلى للقروض لا للمخصصات الإدارية، لذا فهو أكثر قدرة على اتخاذ القرارات المتعلقة بالقروض بسرعة وفاعلية متخطيًا مسألة تعقد وتأخر اتخاذ القرارات الناجمة عن تشرذم الإدارات وتعدد أفرادها. 

وفيما يتعلق بالتساؤلات التي تدور حول قدرة الاستثمار في البنية التحتية على تحقيق معدلات نمو طويلة المدى، توضح الورقة أنه قد يضر بالقيمة الحقيقية للاقتصاد، فالتوسع في مشروعات البنية التحتية الصينية قد جعل معدل الديون الصينية يصل لنحو 282% من إجمالي الناتج المحلي خلال عام 2014/2015. وقد تبنت الحكومة عدة مبادرات منذ عام 2015 محاولة منها لتقليل الديون. ومع ذلك مثّل معدل الاستثمار في البنية التحتية حتى عام 2017 جزءًا ثابتًا من أصول الاستثمار الصيني المحلي.

الإخفاق الغربي

تسترسل الورقة في المقارنة بين المنظمات الدولية الغربية والصينية. وتوضح أن البنك الدولي قد وضع معايير وضوابط لتقييم المخاطر البيئية المحيطة بالمشروعات منذ حقبة التسعينيات، إلا أنه واجه صعوبات في استكمال التقارير المتعلقة بتلك المخاطر من قبل الدول المضيفة. وحتى بعد الحصول على الموافقات اللازمة، يواجه البنك بنقص في الإرادة السياسية داخل الدولة، مما يدل على أن بناء المشروع ستشوبه مشكلات لاحقة. إلا أن توسع البنك في إجراءات التقييمات البيئية والاجتماعية قبل تنفيذ المشروعات قد ساهم في تراجع معدل الإقراض للدول متوسطة الدخل بصورة كبيرة خلال فترة التسعينيات من القرن المنصرم.

ومن الجدير بالذكر أن قرارات البنك باتت محكومة برغبات القوى السياسية وأصحاب المصالح السياسية بالدول الحاصلة على القروض. وجراء التراجع عن منح القروض تراجع دخل البنوك الدولية مثل البنك الدولي للإنشاء والتعمير بحلول عام 2013، وهو ما مثل خطرًا على البنك ذاته لأنه يستخدم ذلك الدخل في تمويل متطلبات التوظيف الخاصة به.

لكن البنك الدولي قد بدأ في تغيير تطبيق سياساته منذ عام 2010، واتجه لإلحاق القرض ببرنامج بيئي يضمن حماية البيئة والمجتمع، مع الإصلاح في شروط القروض الممنوحة، وزاد من إقراضه لتمويل مشروعات البنية التحتية مع وضع معايير بيئية واجتماعية ودراسة للمخاطر والعوائد قبل الشروع في المشروع.

وتستطرد الورقة البحثية في رصد عيوب المؤسسات الدولية، موضحة أن الأمر لا يقتصر على الشروط الوقائية وضمانات القروض، حيث إن توزيع المشروع الطموح الذي أعلنه الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" لتوفير الطاقة في إفريقيا في أعقاب زيارته للقارة عام 2013 مثلًا بين أكثر من وكالة ساهم في تشتت القرارات المطلوبة لتنفيذ المشروع. كما كانت هناك صعوبة داخل الكونجرس في الموافقة على التوسع في النفقات الخارجية، فلم يستطع المشروع أن يحقق النتائج المرجوة منه بصورة كافية. ولعل ذلك يمثل فارقًا كبيرًا بين المؤسسات الدولية والمؤسسات الصينية، مما يجعل الأخيرة أكثر تواجدًا وفعالية وقدرة على اتخاذ القرارات عن غيرها.

نموذج تطبيقي

تشرح الورقة بعض الأمثلة التطبيقية التي توضح الفارق في الآلية بين المؤسسات الدولية والصين؛ ففي جامايكا تم البدء في تنفيذ مشروع الطريق السريع بمساعدة أمريكية تقدر بنحو 1.3 مليار دولار في عام 1999، وتم تقسيم المشروع على مرحلتين، وحازت شركة الإنشاءات الفرنسية Bouygues على المرحلة الأولى، ولكنها لم تستطع إكمالها لارتفاع التكلفة، فتم التدخل من قبل عدد من البنوك الأوروبية لاستكمال تمويل المشروع، ونظرًا للتكلفة الاقتصادية الكبيرة وانخفاض العائد مقارنة بالتكلفة، لم تستكمل المرحلة الثانية، فتحملت شركة ميناء الصين الهندسية تكلفة المرحلة الثانية بالتعاون مع بنك التنمية الصيني في عام 2012 مقابل الحصول على امتيازات من قبل حكومة جامايكا مثل استغلال الأراضي التي تقع بجانب المشروع، وهو ما جعل المنظمات في الدولة تتحدث بريبة عن الامتيازات التي تحصل عليها بكين، فضلًا عن المخاطر البيئية للمشروع.

وتوضح الورقة أن ذلك المثال أو غيره من الأمثلة لا يمكن التعويل عليه للجزم بمخاطر الاستثمارات الصينية على الطرفين، حيث لا تتوافر المعلومات بشكل كافٍ بما يمكّن الباحثين من التحليل والتنبؤ بها، إلا أن استمرار الاستثمارات الصينية داخل تلك الدول سيمنح بكين نفوذًا واسعًا. فضلًا عن أنه سيساهم في زيادة عبء الديون، وهو ما سيجعل تلك الدول أكثر ارتباطًا بالصين مستقبلًا.

وختامًا، تؤكد الورقة أن الاستثمارات الصينية في البنية التحتية للدول هي أداة مزدوجة النتائج، فمن ناحية هي تعود بالنفع على الدول المستضيفة للاستثمارات، وتساهم في تخطي مشكلات نقص التمويلات الغربية لتلك المشروعات. ولكن من جانب آخر، فإن غياب الشفافية عن إجراءات الحصول على تلك القروض أحيانًا، فضلًا عن اتخاذ القرارات من أطراف مباشرة وحيدة يجعل هناك غموضًا حول التحقق من نجاح تلك المشروعات، ومن التسهيلات التي تحصل عليها بكين مقابل منحها لتلك القروض.

وعن زيادة النفوذ الصيني، تشير الورقة البحثية إلى أن الدول المتلقية للمنح هي دول فقيرة ذات مشكلات اقتصادية، وبالتالي فهي لا تعود بفائدة كبيرة على الصين، كسريلانكا أو ميانمار. كما أن نسبة من تلك الدول قد اتجهت للتحالف الاستراتيجي مع الهند والولايات المتحدة واليابان، مما يدل على عدم الاعتماد الكلي لتلك الدول على بكين. إلا أن الورقة تؤكد على ضرورة معالجة الخلل في نظام تمويل وإقراض المؤسسات الدولية حتى تكون منافسًا قويًّا للصين عالميًّا.

المصدر:

Francis Fukuyama, Michael Bennon, Bushra Bataineh, "How the Belt and Road gained steam: causes and implications of China's rise in global infrastructure", The Center on Democracy, Development and the Rule of Law, Stanford University, May 2019.