تأثير اليمين:

لماذا شدّدت ألمانيا إجراءات الدخول على منافذها مع الدول الأوروبية؟

26 September 2024


أصدرت الحكومة الألمانية، خلال الفترة الأخيرة، قرارات جديدة خاصة بتشديد إجراءات الدخول إلى أراضيها من الدول الأعضاء بمنطقة الشنغن، وذلك بكافة الحدود الألمانية؛ بهدف تقليص تدفقات المهاجرين غير النظاميين، وقد بدأ تطبيق القرارات الجديدة ابتداءً من 16 سبتمبر 2024، وتستمر لمدة ستة أشهر. 

سياق القرار: 

يأتي هذا القرار في ظل عدد من التطورات التي دفعت إليه، أهمها ما يلي: 

1. تدفقات اللاجئين والمهاجرين: شهدت ألمانيا في السنوات الأخيرة تدفقات ضخمة من المهاجرين واللاجئين، ولعل أهم محطاتها قرار المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، عام 2015؛ استقبال ما يقرب من مليون لاجئ سوري في ظل ما سُمي باسم "سياسة الباب المفتوح"، واستمرت هذه السياسة، ثم تعززت باستقبال ما يزيد عن مليون أوكراني عام 2022؛ إذ كان إجمالي ما استقبلته ألمانيا من مُهاجرين بهذا العام 1.462.000. أثارت هذه التدفقات حفيظة المجموعات المحافظة في ألمانيا، كما عززت ما يعرف باسم "سياسات الهوية Identity politics"، والتي تشمل إثارة الحديث عن مخاطر تدفقات اللاجئين على الهوية الألمانية، وهو ما استغلته أحزاب اليمين المتطرف باقتدار. 

2. اتهام اللاجئين بحوادث العنف الأخيرة: مثلت حوادث العنف، التي سقط على إثرها عدد من الضحايا دافعاً كبيراً لاتخاذ إجراءات ترضي الطبقات المحافظة والغاضبة؛ ضد ما اعتبرته إخلالاً بالأمن نتيجة التساهل مع المهاجرين، وحرية الحركة بين الدول الأعضاء في الشنغن، ولعل أبرز هذه الحوادث ما يلي:

أ. هجوم سولينجن: نفّذ أحد الأشخاص عملية طعن في 24 أغسطس 2024؛ أدت إلى مقتل ثلاثة أفراد، وذلك خلال احتفال ضخم نظمته المدينة بمناسبة مرور 650 عاماً على تأسيسها، ثم أثير لاحقاً أن من قام بالهجوم هو شخص سوري، كان من المفترض أن يتم ترحيله إلى بلغاريا حيث قدم طلباً للجوء، وقد تبنى تنظيم داعش عملية الطعن. 

ب. حادثة ميونخ: حيدت أجهزة الأمن الألمانية شخصاً من أصول بوسنية يحمل الجنسية النمساوية، كان يحمل بندقية وسلاحاً أبيض بالقرب من القنصلية الإسرائيلية ومركز التوثيق النازي بميونخ، وذلك في 5 سبتمبر 2024، وأثارت الجماعات اليمينية مسألة سهولة عبوره من الأراضي النمساوية إلى ألمانيا بسهولة ويسر في ظل القواعد المنظمة لعمل منطقة الشنغن. 

ج. حادثة مانهايم: قام شخص يحمل الجنسية الأفغانية، بمهاجمة وقتل رجل شرطة بمدينة مانهايم، وذلك بعد أن تم رفض طلب اللجوء الذي تقدم به، وكان من المفترض أن يتم ترحيله، ولكن لم تقم السلطات بذلك؛ وهو ما أدى إلى اتهام سلطات إنفاذ القانون الألمانية بالتراخي في القيام بعمليات الترحيل. 

3. نتائج الانتخابات الإقليمية: أظهرت نتائج الانتخابات الإقليمية في مقاطعتين فوزاً كبيراً لأحزاب اليمين المتطرف، والتي يقوم برنامجها بشكل أساسي على رفض المهاجرين، فقد حصل حزب "البديل لألمانيا" على المركز الأول في مقاطعة تورينغن، والمركز الثاني في ساكسونيا، كما حصل حزب "بي إس دابليو" الشعبوي الرافض للمهاجرين أيضاً على المركز الثالث في المقاطعتين، في حين حقق حزب الديمقراطيين الاجتماعيين الذي يرأسه المستشار الألماني أولاف شولتس نتائج شديدة التواضع تراوحت بين 6% و7% في المقاطعتين. أدت هذه النتائج إلى ضغوط كبيرة على الحزب الحاكم من أجل محاولة تحسين وضعه، ولاسيما في شرقي ألمانيا والذي يشهد تأييداً كبيراً لبرنامج الأحزاب المتطرفة الرافضة للهجرة. 

4. الضغوط الداخلية (انسحاب الديمقراطيين المسيحيين): تفاقمت الضغوط الداخلية على الائتلاف الحاكم في ألمانيا بخصوص مسألة الهجرة؛ إذ نظم الائتلاف الحاكم جولة من المحادثات الداخلية الخاصة بقضية الهجرة، شملت أحزاب المعارضة وممثلين عن الولايات الفدرالية، إلا أن حزب "الديمقراطيين المسيحيين" – أحد أكبر الأحزاب الألمانية - انسحب من هذه المفاوضات، معتبراً أن المحادثات انهارت، وأن الائتلاف الحاكم لا يفي بوعوده الخاصة بالقيام بشكل منهجي بعمليات الترحيل. 

سوابق مشابهة: 

من حيث المبدأ، تنص قواعد اتفاقية الشنغن على حرية الحركة بين الدول الموقعة عليها (25 دولة من أصل 27 دولة بالاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى أربع دول من خارج الاتحاد) بما يضمن عدم وجود أي نوع من أنواع القيود على هذه الحركة، الإ أن الاتفاقية ذاتها تتيح للدول الأعضاء أن تتخذ بعض التدابير المؤقتة، التي تحد من الحركة حال كان ذلك لزاماً لحماية أمنها الداخلي، وقد درج العرف على استخدام هذه التدابير حال وجود مناسبات كبرى، مثل المناسبات الرياضية الكبرى؛ إذ يتم إقرار بعض التدابير التي تمكن أجهزة الأمن من إحكام السيطرة على الوافدين إلى الدولة لحين انتهاء الحدث. وعليه، فقد استخدمت بعض الدول هذا الاستثناء، ومنها: 

1. النمسا: قامت النمسا باتخاذ عدد من التدابير للتحكم في حركة الوافدين إليها من كل سلوفاكيا والتشيك وسلوفينيا والمجر، وبررت الحكومة النمساوية تلك الإجراءات بأنها مرتبطة بحماية أمنها الداخلي من تأثيرات الحرب الأوكرانية، في حين تشير العديد من التحليلات إلى أنه تم تبنيها تحت ضغط أحزاب اليمين المتطرف؛ بهدف تحجيم حركة المهاجرين غير النظاميين إلى النمسا. 

2. الدنمارك: تقوم أجهزة الأمن الدنماركية بإجراء عمليات تفتيش على العبور البري والبحري من ألمانيا، وبررت الحكومة الدنماركية ذلك بأنه يرتبط بمخاوف أمنية على إثر الحرب في غزة، وازدياد النشاط التجسسي الروسي بعد الحرب الأوكرانية. 

3. فرنسا: تقوم أجهزة الأمن الفرنسية بفحص أمني للوافدين من منطقة الشنغن؛ وذلك بحجة تزايد التهديدات الإرهابية مؤخراً. 

4. إيطاليا والنرويج والسويد وسلوفينيا وفنلندا: تقوم هذه الدول أيضاً بإجراء عمليات تفتيش على الحدود، متعللة باحتمالات وقوع أنشطة إرهابية، والحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، ونشاط المخابرات الروسية، وزيادة تدفقات الهجرة والجريمة المنظمة في البلقان.

ردود الفعل: 

1. النمسا: عبرت الحكومة النمساوية عن رفضها للإجراءات الألمانية؛ إذ قال وزير الداخلية النمساوي إن فيينا ليست مستعدة لاستقبال أي مهاجرين أعيدوا على الحدود مع ألمانيا، وأضاف أنه "ليس هناك مجال للمناورة في هذا الشأن". 

2. بولندا: رفض دونالد تاسك، رئيس الوزراء البولندي الإجراءات الألمانية، معتبراً أن تلك الإجراءات هي تعليق للعمل باتفاقية الشنغن على نطاق واسع، كما صرح بأنه إذا رفضت ألمانيا المهاجرين على حدودها مع بولندا، فسوف تضطر وارسو إلى التعامل مع ذلك. وقال في اجتماع لعدد من السفراء: "مثل هذه التصرفات غير مقبولة من وجهة النظر البولندية".

3. المفوضية الأوروبية: أكدت المفوضية الأوروبية أنه يُسمح للدول الأعضاء باتخاذ مثل هذه الإجراءات لمعالجة "تهديد خطر"، لكن التدابير يجب أن تكون "ضرورية ومتناسبة" ويجب أن "تظل استثنائية تماماً".

نتائج مُحتملة:

في إطار ما تم عرضه من نقاط، يمكن الإشارة إلى ما يلي: 

1. أثر الدومينو: تكمن خطورة الإجراءات الألمانية في كون ألمانيا دولة قائدة بالاتحاد الأوروبي، وكانت أكثر الدول الداعمة لاستقبال المهاجرين؛ ومن ثم فإن تبنيها هذه الإجراءات سوف يمثل ضوءاً أخضر لباقي دول الاتحاد بتبني سياسات أكثر تقييداً لتدفقات المهاجرين، وحكماً سيؤدي ذلك إلى إعطاء قضية الهجرة مزيداً من الزخم الشعبي؛ وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى مزيد من المكاسب لليمين المتطرف. 

2. رد هادئ للمفوضية: على الرغم مما يمثله القرار الألماني من مخاطر خاصة بأهم أسس الاتحاد الأوروبي، ألا وهي حرية الحركة، ومن كون القرار له أُثر مضاعف كونه قادماً من الدولة الأكبر في الاتحاد؛ فإن رد فعل المفوضية الأوروبية جاء هادئاً؛ وذلك لعدد من الأسباب، أهمها ما يلي: 

أ. تفهم المفوضية الأوروبية لطبيعة الضغوط التي تواجهها الأحزاب الوسطية داخلياً؛ بسبب صعود اليمين المتطرف واستغلاله قضية الهجرة؛ ومن ثم فإن حساب التكلفة والعائد بالنسبة للمفوضية سيكون كالتالي: إن تقبل إجراءات مؤقتة تحد من حرية حركة المهاجرين؛ وهو ما يحسن نسبياً من وضعية الأحزاب الوسطية؛ أفضل كثيراً من السماح لليمين المتطرف بكسب مزيد من الشعبية، وتسريع وتيرة وصوله للحكم؛ ومن ثم الاضطرار للتعامل معه ومواجهته على مدار سنوات مقبلة. 

ب. الثقل الألماني النسبي داخل الاتحاد الأوروبي، هذا الثقل يرتبط بعدد من العوامل، أولاً: كون ألمانيا هي الدولة الأكبر من حيث عدد السكان؛ ومن ثم فإنها صاحبة الثقل التصويتي الأكبر في القضايا التي يتم التصويت فيها بنظام الأغلبية المزدوجة (والتي تتطلب الحصول على موافقة 55% من الدول + 65% من عدد السكان لتمرير القرار)، ثانياً: المساهمة المالية الكبيرة التي تقوم بها ألمانيا في موازنة الاتحاد، فوفقاً لإحصائيات 2021 جاءت ألمانيا بالمركز الأول بمساهمة قدرت بنحو 33 مليار يورو في موازنة الاتحاد، ثالثاً: الوجود الألماني المكثف بأروقة مختلف مؤسسات الاتحاد، ولاسيما المفوضية الأوروبية، التي تترأسها أورسولا فون دير لاين، وهي ألمانية الجنسية. 

3. استمرارية الشنغن: تعي النخبة الألمانية السياسية والاقتصادية جيداً أهمية الحفاظ على قواعد الشنغن؛ ومن ثم فإن الحديث عن تراجع عن الالتزام الألماني بهذه القواعد مستقبلاً قد يكون بعيداً عن الواقع – مالم يتمكن اليمين المتطرف من الوصول إلى الحكم - وضعاً في الاعتبار التكلفة المالية الضخمة التي ستتكبدها دول الاتحاد ككل حال العودة إلى إجراءات إغلاق الحدود الوطنية؛ أي ما قبل الشنغن، والتي قدرتها بعض التقارير بـ470 مليار يورو على مدار عشر سنوات. 

4. حدود الفاعلية: هناك تساؤلات حول مدى فاعلية هذه الإجراءت في الحد من تدفق المهاجرين؛ إذ يتطلب تطبيقها بصرامة مزيداً من الموارد المالية والبشرية لإحكام السيطرة على الحدود؛ وهو ما يعني ضمناً إيقاف العمل بالشنغن بشكل كامل، كما أن عدم تعاون الدول المجاورة لألمانيا سيمثل تحدياً كبيراً لنجاح هذه الإجراءات. 

5. مكاسب سياسية محدودة: يهدف الائتلاف الحاكم عبر هذه الإجراءات بشكل أساسي إلى منافسة اليمين المتطرف في خطابه الخاص بالهجرة، بما يحقق بعض المكاسب السياسية بالشارع الألماني، إلا أن التجربة أشارت إلى أن كتلة اليمين المتطرف الصلبة تظل مدينة له بالولاء، كما أن الجماعات الأخرى الرافضة للهجرة تفضل خطاباً أصلياً وحاسماً على خطاب وسطي يحاول مضاهاة الخطاب الأصلي، بالإضافة إلى ذلك، فقد أثبتت التجربة الفرنسية في عهد فرانسوا هولاند، أن تبني الأحزاب الوسطية لخطاب تقييدي للهجرة يفقدها بعضاً من قواعدها الشعبية الأصيلة من دون أن يمكنها من جذب الجماعات الرافضة للهجرة، والتي عادة ما تفضل الخطاب الأصلي اليميني المتطرف. 

6. التناقض بين السياسات المقيدة للهجرة وبين الحاجة إلى أيدٍ عاملة: تطرح هذه الإجراءات العديد من الإشكاليات لعل أهمها مسألة التحولات الديمغرافية في أوروبا عموماً، وفي ألمانيا على وجه الخصوص؛ إذ تعاني من ارتفاع معدل الأعمار وتناقص الأيدي العاملة المطلوبة لتلبية احتياجات السوق، وتشير التقديرات إلى وجود ما يقرب من 700 ألف فرصة عمل غير ملباة بالسوق الألمانية، في الوقت ذاته؛ فإن ضغوط اليمين المتطرف تحد من استقدام المهاجرين الذين يمكن أن يشغلوا هذه الوظائف.