رسائل النفوذ:

لماذا اختار الرئيس الإيراني العراق كأولى وجهاته الخارجية؟

17 September 2024


بخلاف الرؤساء الإيرانيين السابقين؛ محمود أحمدي نجاد، وحسن روحاني، وإبراهيم رئيسي، بدأ الرئيس مسعود بزشكيان أولى زياراته الخارجية، إلى العراق، في حين بدأها الأول بنيويورك، والثاني بقيرغيزستان، والثالث بطاجيكستان. 

وقد جاءت تلك الزيارة تلبية لدعوة رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني، والتقى خلالها بزشكيان - رفقة الوفد رفيع المستوى الذي اصطحبه معه- بكبار المسؤولين العراقيين بمن فيهم الرئيس العراقي عبداللطيف رشيد، ورئيس مجلس النواب، ورئيس السلطة القضائية، وغيرهم من كبار المسؤولين ورجال الأعمال. 

وشملت الزيارة 6 محافظات عراقية، هي: بغداد وأربيل والسليمانية وكربلاء والنجف والبصرة. وفور وصوله إلى بغداد، زار بزشكيان موقع اغتيال قائد الحرس الثوري الإيراني السابق قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس.

أهداف طهران:

شملت الزيارة التي أجراها بزشكيان إلى العراق، عدداً من الملفات، يمكن تسليط الضوء عليها على النحو التالي:

1. توقيع 14 اتفاقية تعاون: احتلّ الجانب الاقتصادي مكانة بارزة خلال زيارة الرئيس الإيراني إلى العراق؛ وهو ما تجلى في طبيعة الوفد المرافق له؛ إذ ضمّ وزير الاقتصاد، عبدالناصر همتي، ووزيرة الطرق والعمران فرزانه صادق، ورئيس البنك المركزي الإيراني محمد رضا فرزين، ومسؤولين آخرين. وقد شهدت الزيارة توقيع 14 مذكرة تفاهم؛ شملت مجالات عدّة منها: المناطق الحرة ونشاط الغرف التجارية والاتصالات والزراعة والإعلام والسياحة الدينية والثقافة والرياضة والقوى العاملة وغيرها. 

كما أكّد الجانبان الإيراني والعراقي رفع مستوى التبادل التجاري من 12 مليار دولار، ليصل إلى 20 مليار دولار سنوياً بحلول 2027؛ إذ تعوّل طهران على بغداد، باعتبار الأخيرة إحدى الدول القليلة المُستثناة من العقوبات المفروضة على المتعاملين من إيران في بعض الجوانب. إلى جانب لقاء بزشكيان برجال الأعمال والتجار الإيرانيين المُقيمين لدى العراق؛ إذ دعاهم إلى المشاركة في إيجاد حلول للاقتصاد الإيراني المأزوم بسبب العقوبات، علماً بأن بزشكيان كان قد أعلن من قبل أن عوائد الإيرانيين بالخارج هي إحدى السبل الضرورية ضمن استراتيجية تخفيف الآثار السلبية للعقوبات الغربية. 

2. حلُّ مشكلة الأموال الإيرانية المُجمّدة: لعل من أبرز الملفات التي تناولها الرئيس الإيراني في زيارته للعراق هو ملف الديون العراقية المُستحقة لإيران والأموال الإيرانية المُجمّدة في بغداد. فعلى الرغم من إعلان البنك المركزي العراقي في أكتوبر 2023 التوصل لاتفاق من أجل تسوية ديون العراق المُستحقة لإيران والمتعلقة بواردات الغاز الطبيعي؛ فإن هذا الملف لم تتم تسويته بعد، ولا تزال بعض المبالغ الإيرانية الدولارية مُجمّدة في البنوك العراقية؛ بسبب إما صعوبة تسديدها أو إيصالها لإيران بفعل العقوبات الأمريكية.

وحسب تصريح رئيس غرفة التجارة العراقية، طارق الفيهان، فإن حجم الأموال الإيرانية التي لا تزال مجمدة في بنوك العراق، كعائدات لصادرات الغاز والكهرباء، يصل إلى 11 مليار دولار؛ تسعى إيران للحصول عليها، وتزداد شهية إيران لهذه الأموال في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها في الوقت الراهن، وتدهور قيمة عملتها التي تخطت 600 ألف ريال مقابل كل دولار أمريكي.

3. استكمال تنفيذ الاتفاقية الأمنية المُشتركة: بحث بزشكيان مع المسؤولين السياسيين والأمنيين في بغداد وإقليم كردستان العراق؛ استكمال تنفيذ الاتفاقية الأمنية التي تم التوصل إليها في 19 مارس 2023 بين طهران ومسؤولين من الحكومة المركزية في بغداد وإقليم كردستان العراق. فقد منحت إيران، طبقاً لهذه الاتفاقية، العراق مُهلة حتى يوم 19 سبتمبر 2023 لنقل مقرات الجماعات الكردية المُسلحة المُناوئة للنظام في طهران إلى غربي العراق بدلاً من شرقه، فضلاً عن طلبها نزع سلاح هذه المجموعات الكردية وأبرزها حزب "كوملة" الكردي. 

وعلى الرغم من سعي العراق لضمان تنفيذ هذه الاتفاقية؛ فإن طهران عبّرت خلال الأشهر الماضية في أكثر من مُناسبة عن عدم رضاها عن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في بغداد وإقليم كردستان فيما يخص نقل مقرات هذه الجماعات. ووصفت طهران هذه الخطوات العراقية بأنها "غير كافية". 

وفي هذا السياق، فقد اتخذت سلطات بغداد وأربيل إجراءات مسبقة تمهيداً لزيارة بزشكيان؛ إذ قامت بإخلاء عدد من قوات حزب "كومله" من معسكراتها، ونقلتها إلى معسكر "سورداش" على بعد 40 كيلومتراً من الحدود الإيرانية، هذا إلى جانب تنفيذ طلب السلطات القضائية الإيرانية، والتي تقدمت بطلب للسلطات في العراق؛ لتسليم نحو 120 من قادة الأحزاب الكردية الإيرانية المعارضة المقيمين في كردستان العراق؛ إذ قامت طهران بتسليم الناشط الكردي واللاجئ في كردستان العراق بهزاد خسروي، في 6 سبتمبر 2024. كما أعلنت بغداد إغلاق عشرات المقار التابعة لتلك الأحزاب، وإبعادها عن الحدود، في حين تحدث مُستشار الأمن القومي، قاسم الأعرجي عن توطين المعارضين في بلد ثالث بالتنسيق مع الأمم المتحدة. 

وعليه؛ فقد بحث بزشكيان في مدينتيْ أربيل والسليمانية بإقليم كردستان العراق "التنفيذ الكامل" لبنود هذه الاتفاقية؛ إذ دعاه مسؤولو هذا الإقليم لزيارته. وقد بعث بزشكيان برسالة لسكان الإقليم قبل زيارته، رداً على سؤال صحفي حول "ما هي رسالتك إلى مواطني العراق وسكان إقليم كردستان؟"، إذ قال: "نرسل إليهم السلام ونحن في خدمتهم".

4. دعم الربط السككي مع إيران: أكّدت زيارة بزشكيان، مجدداً، أهمية استكمال تنفيذ مشروع الربط السككي بين البلدين، من خلال مشروع خط سكك حديد يربط بينهما؛ إذ يصل الشلامجة الإيرانية والبصرة العراقية بطول 32 كيلومتراً؛ وهو مشروع يصب في النهاية باتجاه مساعي إيران للربط اقتصادياً بين ميناء الخميني وميناء اللاذقية السوري مروراً بالأراضي العراقية، ووصولاً في النهاية إلى البحر المتوسط، وتحقيق عوائد اقتصادية ضخمة. وكان البلدان قد أطلقا هذا المشروع عملياً في سبتمبر 2023.

ويأتي ذلك في الوقت الذي يتزايد فيه الحديث حول مشروع "طريق التنمية"، الذي أُعلن عن تدشينه فعلياً، في مايو 2023، ومن المُقرر أن يحوّل العراق إلى ممر دولي رئيس لنقل السلع والبضائع بين منطقة الشرق الأوسط وأوروبا مروراً بتركيا؛ وهو ما يُثير مخاوف إيرانية جمّة تتعلق بتقليص الفرص الممنوحة لمشروعاتها للربط مع العراق وسوريا، وكذلك الممرات الدولية التي تمر عبر أراضيها مثل ممر شمال-جنوب؛ خاصة بعد أن أكّدت حكومة السوداني في أغسطس 2024 عزمها توفير التمويل الضخم للمشروع، الذي تبلغ تكلفته نحو 17 مليار دولار، من ميزانية الدولة وتشجيع القطاع الخاص على المشاركة فيه. 

دلالات مُتعددة: 

تشير الزيارة إلى عدد من الدلالات، يمكن تسليط الضوء عليها على النحو التالي:

1. تعزيز الوساطة العراقية: في إطار تأكيد بزشكيان أن مسألة التقارب مع دول الجوار على رأس اهتمام حكومته، فقد تُدلل زيارته للعراق على تأكيد دور الأخيرة في الوساطة بين طهران وبعض الدول العربية والإقليمية من أجل إحداث انفراجة وعودة للعلاقات بين الطرفين، وذلك على غرار ما قامت به بغداد خلال العامين الماضيين حينما استضافت جولات مفاوضات بين مسؤولين إيرانيين وسعوديين؛ وهو ما أسهم في التوصل إلى اتفاق عودة العلاقات بين الجانبين في 10 مارس 2023، بوساطة صينية. 

وتجدر الإشارة؛ إلى أن الرئيس الإيراني أجرى زيارة تاريخية لمدينة البصرة، جنوبي العراق؛ ليصبح أول رئيس إيراني يزور المدينة من 100 عام. وقد ارتدى بزشكيان العباءة العربية، ودعا إلى "الاتحاد" بين دول غرب آسيا، على غرار ما فعل الاتحاد الأوروبي، في رسالة يبعث بها إلى دول المنطقة بأنه يريد أن يتصالح معها.

ومن جانب آخر، تُشير الزيارة، التي أجراها الرئيس الإيراني قبيل توجهه إلى حضور فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، إلى احتمالية طلب إيران من العراق، التوسط في ملف المفاوضات النووية بين طهران والقوى الغربية، ولاسيما في ضوء الإشارات الإيجابية التي أرسلتها إيران عن استعدادها للعودة إلى طاولة التفاوض حول البرنامج النووي، عبر تصريحات المرشد الأعلى علي خامنئي، والرئيس الإيراني، ووزير خارجيته عباس عراقجي؛ وذلك في ضوء العلاقات التي تربط العراق بكل من إيران والولايات المُتحدة على السواء. 

2. انفتاح إيراني على إقليم كردستان العراق: تُعد زيارة بزشكيان لإقليم كردستان، الأولى لرئيس إيراني إلى الإقليم العراقي، وقد التقى بزشكيان برئيس الإقليم نيجيرفان برزاني، ورئيس الحكومة مسرور برزاني، كما أجرى اجتماعاً خاصاً مع رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود برزاني، ودعاه لزيارة إيران، وأجرى بزشكيان زيارة إلى السليمانية حيث التقى بقادة التحالف الوطني الكردستاني. 

وتأتي تلك الزيارة في محاولة من جانب طهران توظيف الدبلوماسية في التعامل مع إقليم كردستان، والذي تعتبره إيران مأوى للجماعات الكردية المُناوئة لها من جهة، كما ترى طهران أنه يضمّ مقرّات للموساد الإسرائيلي؛ الأمر الذي يُهدد أمنها القومي من الناحية الغربية، وفق رؤيتها. وفي سياق ذلك، فقد قامت طهران، في أكثر من مرة، بقصف مواقع بحجة تبعيتها لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وكان آخرها في يناير 2024، عندما أعلن الحرس الثوري الإيراني، استهداف ما قاله إنه "مراكز للتجسس وتجمع للجماعات الإرهابية المناهضة لإيران" في إقليم كردستان العراق. وربما هذا ما دفع مسرور برزاني لتأكيد عدم استخدام أراضي الإقليم كقاعدة لانطلاق هجمات ضد إيران. 

3. تأكيد قيادة إيران لما يُسمّى "محور المقاومة": رغم أن ملف ما يُسمّى "محور المقاومة" ليس من اختصاص الرئيس الإيراني، وأن أجهزة أخرى، على رأسها الحرس الثوري وفي القلب منه فيلق القدس؛ هي من تتولى هذا الملف، فإن تزامن زيارة الرئيس الإيراني للعراق في الوقت الذي تتزايد فيه حدّة التوتر بين إيران ووكلائها في المنطقة من ناحية، وإسرائيل والولايات المتحدة من ناحية أخرى، يضفي عليها طابع تأكيد ريادة إيران لهذا المحور؛ خاصة وأن المليشيات الولائية في العراق وسوريا ما فتئت تشن هجماتها ضد القواعد والقوات الأمريكية، كما تُسدد ضرباتها ضد أهداف إسرائيلية سواء في الجولان السوري المُحتل أم في الداخل. وقد أدان بزشكيان والمسؤولين العراقيين الممارسات الإسرائيلية في قطاع غزة الفلسطيني. 

وجدير بالذكر أن انفجاراً وقع في مطار بغداد الدولي داخل منطقة تستخدمها قوات التحالف الدولي، إثر سقوط صاروخين، قد تزامن مع زيارة بزشكيان لبغداد، وقد أعلن أحد قادة كتائب حزب الله العراقي، أحد أبرز المجموعات المسلحة الموالية لإيران في العراق، عن أن الهجوم مُحاولة للتشويش على زيارة الرئيس الإيراني، داعياً السلطات الأمنية إلى كشف المتورطين. وربما يُوصف ذلك التصعيد بأنه محاولة من جانب بعض المليشيات في العراق للضغط على طهران، والتي ترى بعض المجموعات، أنها تقاعست عن الرد على مقتل رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس، والذي اُغتيل في طهران، أواخر يوليو الماضي. أخذاً في الاعتبار أن بزشكيان كان من المؤيدين لإرجاء الرد لإفساح المجال لتحقيق وعوده الانتخابية فضلاً عن رغبته في التقارب مع الغرب.

4. مُوازنة الانفتاح العربي تجاه العراق: تسعى حكومة بزشكيان إلى تأكيد دور إيران في العراق، في تماهٍ مع التوجهات الرئيسية للسياسة الخارجية الإيرانية، والتي تعتبر العراق إحدى أهم ساحات نفوذها التقليدية في المنطقة؛ ولاسيما وأن الأخيرة قد اتجهت خلال السنوات القليلة الماضية نحو الانفتاح تجاه محيطها العربي، اقتصادياً وسياسياً، وبالنظر إلى المنافع التي قد تجنيها العراق من تعزيز علاقاتها مع الدول العربية؛ فإن طهران تظل متوجسة من فقدان نفوذها السياسي والاقتصادي في العراق؛ ومن ثمّ فإن هذه الزيارة تؤشر على الرغبة الإيرانية في تأكيد نفوذها في العراق، وأن هذا النفوذ غير قابل للتغيير. 

وفي الختام، يمكن القول إن زيارة بزشكيان للعراق، باعتبارها أولى محطاته الخارجية، تؤكد نهج الرئيس الجديد في إعطاء الأولوية لتعزيز العلاقات مع دول الجوار، إلى جانب أهمية العراق في الاستراتيجية الإقليمية لإيران، باعتبارها نافذة لها على المنطقة العربية، بالإضافة لما قد تمثله من وسيط بين إيران والقوى الغربية فيما يتعلق بالمفاوضات النووية.

ومن جهة أخرى، تسعى طهران لاستثمار تلك الزيارة في تأكيد قيادتها لما تصفه بـ"محور المقاومة"، باعتبار العراق إحدى أهم "ساحات الإسناد"، في مواجهة "العدوانية الإسرائيلية والأمريكية"، وفق رؤية طهران؛ خاصة في الوقت الذي يحتدّ فيه التوتر بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة.