"التفاهم الجزئي":

السيناريوهات المحتملة لعودة إيران للمفاوضات النووية

11 September 2024


أعرب المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، الاثنين 9 سبتمبر 2024، عن رغبة بلاده في العودة للمفاوضات النووية مع الغرب، زاعماً أن طهران هي العضو الوحيد الذي أوفى بالتزاماته بموجب الاتفاق النووي الموقع عام 2015. 

وتتماهى تلك التصريحات مع ما أدلى به المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي، في أول لقاء له مع الحكومة الإيرانية الجديدة، التي يترأسها الرئيس مسعود بزشكيان، في 27 أغسطس 2024، بأنه لا يوجد عائق أمام طهران في التعامل مع "عدوها"، في إشارة إلى الولايات المتحدة والغرب، مُستدركاً بأنه "لا ينبغي أن نعلق آمالنا على العدو"، ومُحذراً -في الوقت نفسه- من الوثوق به.

وكان خامنئي قد أعلن، خلال نفس الشهر، ما سمّاه بـ"التراجع التكتيكي" في بعض الملفات، وأنه لا حرج في ذلك، رغم تأكيده أن "التراجع غير التكتيكي في أي مجال -سواء أكان عسكرياً أم سياسياً أم دعائياً أم اقتصادياً- يؤدي إلى غضب الله"، ويتشابه ذلك مع مفهوم آخر أطلقه المرشد الإيراني قبل توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) عام 2015، سُمّي حينها بـ"المرونة البطولية". 

وتفتح هذه التصريحات من قِبل رأس الدولة في إيران المجال أمام حكومة بزشكيان الوليدة لإمكانية المضي قدماً نحو استئناف التفاوض مع الغرب حول برنامج طهران النووي، بعد توقف المفاوضات منذ سبتمبر 2022. 

محفزّات دافعة: 

ظهرت خلال الآونة الأخيرة عوامل، دفعت طهران إلى تجديد الحديث حول إمكانية العودة لطاولة المفاوضات بشأن برنامجها النووي، بعد أن كانت قد استبعدت، خلال فترات سابقة، هذا الأمر، وأعلنت أنه ليس ضمن اهتماماتها، ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك العوامل على النحو التالي:

1. تشكيل الحكومة الجديدة: شجّع فوز الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، بدعم قوي من التيار الإصلاحي، على إعادة الحديث حول التفاوض على برنامج إيران النووي، بغية رفع العقوبات التي أثقلت كاهل الاقتصاد الإيراني، وأدّت إلى اتساع مساحة السخط والاستياء الشعبي من سياسات النظام؛ إذ تعهّد بزشكيان، خلال حملته الانتخابية، بأن يكون رفع العقوبات، (وما يعنيه ذلك ضمناً، من إمكانية التوصل إلى اتفاق حول البرنامج النووي مع الغرب)، على رأس اهتمام حكومته. كما أن اختياره عباس عراقچي، والذي شارك مع وفد بلاده في المفاوضات التي أفضت إلى توقيع الاتفاق النووي في 2015، وترأس المفاوضات التي جرت خلال الستة أشهر الأخيرة من عهد حكومة الرئيس الإيراني الأسبق حسن روحاني، حول إحياء هذا الاتفاق، إشارة بالغة الدلالة إلى استعداد النظام والحكومة في إيران، للانخراط في مفاوضات مع الغرب، وقد صرّح عراقچي، عقب توليه حقيبة الخارجية الإيرانية، أن المفاوضات "مُهمة وواجبة للحد من تكاليف العقوبات على الشعب".

يُضاف إلى ذلك، أن تعيين وزير الخارجية الإيراني الأسبق محمد جواد ظريف، في منصب نائب الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية، بعد أن كان قد تم تكليفه برئاسة اللجنة التوجيهية التي وضعت أسماء مقترحة لتولي المناصب الوزارية، يعكس أيضاً سعي بزشكيان وحكومته للعودة إلى طاولة المفاوضات حول برنامج إيران النووي. 

وجدير بالذكر أن بزشكيان وعراقچي وظريف قد أكدوا جميعهم التزامهم بما يُسمّى "القانون الاستراتيجي لرفع العقوبات"، والذي كان قد أصدره مجلس الشورى في 2020، ويقضي بمواصلة إيران تصعيدها النووي؛ بما يعني أن استعداد إيران لإحياء المفاوضات النووية مع الغرب، يظل مشروطاً بالحفاظ على المكتسبات النووية التي تم تحقيقها خلال السنوات السابقة؛ وهو ما يمثل عائقاً أمام أي محاولة لإحياء المفاوضات، كما سيأتي تفصيله لاحقاً. 

كما أشارت تقارير عديدة، في مايو 2024، إلى أن اختيار مستشار المرشد، علي شمخاني، لتولي ملف المفاوضات النووية مع الغرب قد يدفع أيضاً باتجاه العودة للمفاوضات مع الغرب؛ إذا ما استمر في عهد حكومة بزشكيان. فقد وُقِّعَ اتفاق 2015، إبان تولي شمخاني أمانة مجلس الأمن القومي الإيراني، كما يلقب شمخاني، بـ"رجل الصفقات"؛ إذ إنه نجح في التوصل إلى اتفاق استعادة العلاقات الذي وُقِّعَ بين إيران والمملكة العربية السعودية، في 10 مارس 2023، برعاية صينية. 

2. اقتراب "يوم النهاية" للاتفاق النووي: تسعى طهران إلى إحياء التفاوض مع الغرب، قبل 18 أكتوبر 2025، وهو تاريخ انتهاء الاتفاق النووي المُوقّع في 2015 والقرار الأممي 2231، الذي يمثل المظلة الأممية له، ويعني يوم النهاية بالنسبة للاتفاق؛ خروج إيران من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وإلغاء العقوبات الأممية التي كانت مفروضة عليها قبل توقيع الاتفاق المُشار إليه بشكل كلي. 

ويدرك الأوروبيون أنه، بعد 18 أكتوبر 2025، لا يجوز إعادة العقوبات الأممية مرة أخرى على إيران، وما يجوز لهم، بعد هذا التاريخ، هو عرض ملف برنامج طهران النووي على مجلس الأمن الدولي، وفي هذه الحالة قد يواجه بفيتو روسي وصيني؛ ومن ثم الفشل في فرض عقوبات أممية عليها مرة أخرى. 

لذا؛ فإن إيران تحاول أن تفوّت على الترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) المشاركة في الاتفاق، فرصتها الأخيرة في استخدام ما يُسمّى بـ"آلية الزناد"، والتي تعني العودة التلقائية للعقوبات الأممية التي كانت مفروضة على إيران، في حال اشتكى أحد أطراف الاتفاق النووي لمجلس الأمن من انتهاك واضح لإيران لبنود الاتفاق.  

وبالرغم من صحة الرأي القائل إن الاتفاق بات حبراً على ورق؛ فإن أحداً لم يعلن بشكل صريح انهياره، ربما لتفادي التداعيات الاقتصادية والاستراتيجية التي قد تترتب على ذلك، كما أن الترويكا الأوروبية امتنعت عن استخدام "آلية الزناد" طيلة السنوات الماضية؛ تفادياً لأن يسفر ذلك عن خروج إيران كلياً من معاهدة حظر الانتشار النووي على سبيل المثال، واستعاضت عن ذلك بفرض حزم متتالية من العقوبات على إيران، كما أعلنت الإبقاء على الحظر المفروض على برنامجيْها للصواريخ البالستية والطائرات المُسيّرة، رغم نص الاتفاق على انتهاء ذلك الحظر في 18 أكتوبر 2023، في أول مخالفة صريحة من جانب الأوروبيين لنص الاتفاق، رداً على استمرار تطوير إيران لهذيْن البرنامجيْن، ودعمها لموسكو بالأسلحة في حربها ضد أوكرانيا.

3. استثمار التوترات الإقليمية: تحاول إيران توظيف الأوضاع الإقليمية الملتهبة منذ اندلاع عملية "طوفان الأقصى" في قطاع غزة الفلسطيني، في 7 أكتوبر 2023، وما أعقبها من اشتعال جبهات أخرى في المنطقة، في تحقيق مكاسب خاصة بها، ومنها محاولة إحداث اختراق في ملف المفاوضات النووية المتعثر. إذ لم تنقطع الاتصالات غير المباشرة بين المسؤولين الإيرانيين والأمريكيين، منذ اندلاع الصراع بهدف ضبط إيقاعه ومنع انزلاق الأوضاع إلى حرب إقليمية، وكشفت طهران عن جولتيْن من المباحثات، عُقدت إحداهما في يناير والأخرى في مايو 2024، في سلطنة عُمان. 

عقبات قائمة: 

رغم وجود العوامل التي تدفع إيران باتجاه إبداء الاستعداد للعودة للمفاوضات النووية، فإن ثمّة عوائق تجعل ذلك صعباً؛ ولاسيما في الوقت الحالي، ويمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:

1. مواصلة طهران تصعيدها النووي: استغلت إيران حالة الانشغال الدولي والإقليمي بالأوضاع المضطربة في المنطقة، في تطوير برنامجها النووي، وقد كشفت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في تقريرها الفصلي، والصادر في 28 أغسطس 2024، أن مخزون طهران من اليورانيوم المُخصّب بنسبة 60% (وهي نسبة قريبة من المُخصصة لإنتاج الوقود اللازم لصناعة السلاح النووي وهي 90%) قد زاد، خلال الأشهر الثلاثة الماضية، بمقدار 22.6 كيلوغرام، ليصل إلى 164.37 كيلوغرام، في حين زاد مخزونها من اليورانيوم المُخصّب بنسبة مختلفة بنحو 676 كيلوغرام، ليصل هذا المخزون إلى نحو 6201.3 كيلوغرام؛ أي أكثر من 30 ضعف الحد المسموح به في اتفاق 2015. كما أوضحت الوكالة أن إيران، لا ينقصها إلا كيلوغراميْن فقط، لصنع 4 قنابل نووية، في حال اتخذت قراراً بذلك. 

ويأتي ذلك التصعيد النووي من جانب إيران، رغم قرار الوكالة، في اجتماعها الأخير الذي عُقد في مايو 2024، الذي يطالب طهران بالتعاون مع الوكالة، وإعادة المفتشين الذين تم طردهم في سبتمبر 2023، وتقديم إجابات حول آثار اليورانيوم التي عُثر عليها في مواقع غير معلنة، وتسليم تسجيلات كاميرات المراقبة في منشآت نووية إيرانية؛ إذ لم تستجب طهران لأي من تلك المطالب. 

ويؤشر ذلك على رغبة طهران في اختلاق واقع نووي جديد بأن تكون على بُعد خطوات قليلة من امتلاك سلاح نووي، حتى وإن كانت لا تملكه فعلياً؛ أي أن تكون "القنبلة على الرف"، كما الحال في دول أخرى مثل: ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها؛ وهو ما يتماهى مع تصريحات رئيس المنظمة النووية الإيرانية محمد سلامي، والذي صرّح في 29 أغسطس 2024، بأن بلاده حققت الاكتفاء الذاتي في المعرفة النووية، في تطابق مع تصريحات سلفه على أكبر صالحي، والذي تولى أيضاً منصب وزير الخارجية، في فبراير 2024، بأن إيران لديها كل أجزاء القنبلة النووية ولا ينقصها إلّا تركيبها. 

2. سياقات غربية غير مُواتية: يأتي إبداء طهران استعدادها للعودة لطاولة المفاوضات مع الغرب، في الوقت الذي تكون فيه الولايات المتحدة على موعد مع الانتخابات الرئاسية المُقرر عقدها في نوفمبر 2024؛ وهو ما يصعب معه الحديث عن العودة للمفاوضات النووية مع إيران، في الأشهر الأخيرة من عمر إدارة الرئيس جو بايدن الديمقراطية، هذا إلى جانب الغموض بشأن ماهية الرئيس الأمريكي القادم، وهل سيكون المرشح الجمهوري والرئيس السابق دونالد ترامب، وهو الذي فرض سياسة "العقوبات القصوى" على إيران، بعد أن انسحب من الاتفاق النووي، ووصفه بأنه "أسوأ اتفاق في التاريخ"، أم ستكون المرشحة الديمقراطية ونائبة الرئيس الحالي كامالا هاريس، والتي قد تستكمل مسار بايدن الدبلوماسي مع طهران. 

ومن جهة أخرى، فإن صعود تيارات اليمين في أوروبا يُنذر باحتمالية تبني نهج أكثر تشدداً وحزماً تجاه إيران، سواء فيما يتعلق ببرنامجها النووي أو برنامجها الصاروخي أو دورها الإقليمي ودعمها للمليشيات في المنطقة أو الرهائن الأوروبيين المحتجزين في إيران، أو قضايا حقوق الإنسان؛ ومن ثمّ فرض مزيد من العقوبات على المؤسسات والأفراد الإيرانيين؛ بل ربما يصل الأمر إلى إدراج الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني وجماعة الحوثي في اليمن على قوائم الإرهاب الأوروبية. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى موافقة البرلمان الأوروبي، في يناير 2023، على إدراج الحرس الثوري على القائمة السوداء "للمنظمات الإرهابية"؛ وهو قرار ينقصه إقرار المفوضية الأوروبية ليصبح نافذاً. 

ويعني ذلك أن الرغبة الإيرانية، وحدها، غير كافية للعودة للمفاوضات النووية، ذلك أن الطرف الآخر -الولايات المتحدة والترويكا الأوروبية- غير مُستعد للعودة لتلك المفاوضات؛ خاصة في ضوء استمرار تصعيد إيران على المستويات النووية والصاروخية والإقليمية. 

3. تمسك طهران بنفوذها الإقليمي: ما زالت طهران، ورغم انتخاب رئيس ينتمي للإصلاحيين، متمسكة بنفوذها ودورها الإقليمي، باعتبار ذلك توجهاً استراتيجياً للنظام، لا يتأثر بتغيير الرؤساء أو الحكومات، وقد أعلن بزشكيان ووزير خارجيته عراقچي تمسكهما بتوجيهات المرشد في هذا الشأن، وأكدّا تعاونهما مع مؤسسات الدولة العميقة، وفي القلب منها الحرس الثوري، في تنفيذ الخطوط العريضة للسياسة الإيرانية تجاه المنطقة، ومنها دعم ما يُسمّى بـ"محور المقاومة"، في إشارة إلى وكلاء طهران في المنطقة، ومواصلة مواجهة "السياسات العدائية لإسرائيل والولايات المتحدة".

ويندرج ضمن هذا الاتجاه، ابتعاث طهران لـعلي محمد رضائي، سفيراً جديداً لها لدى حكومة الحوثيين في صنعاء، غير المُعترف بها، منذ الوفاة الغامضة للسفير الإيراني السابق، حسن إيرلو، أواخر 2021، في مؤشر قُرِئ على أنه مسعى إيراني لإفشال التفاهمات التي تجري بين الأطراف المحلية في اليمن، ودعماً صريحاً للحوثيين في تصعيدهم العسكري ضد السفن والناقلات في البحر الأحمر، وذلك رغم ما نصّ عليه الاتفاق المُوقّع بين إيران والمملكة العربية السعودية، بشأن التهدئة في الملف اليمني.  

سيناريوهات مُتباينة:

يمكن الوقوف على أبرز السيناريوهات المتوقعة بشأن عودة إيران للتفاوض حول برنامجها النووي مع الغرب على النحو التالي:

1. التوصل لاتفاق جديد: قد يُعزز اتجاه الحكومة الإيرانية الجديدة لاستعادة المفاوضات النووية مع الغرب، إمكانية التوصل إلى اتفاق جديد فيما يُسمّى بـ"برجام 2"، و"برجام" هي التسمية الفارسية لخطة العمل الشاملة المشتركة، إلّا أن ذلك يتوقف أيضاً على الجانب الأمريكي؛ إذ إن فوز ترامب برئاسة البيت الأبيض يعني تراجع فرص تحقيق هذا السيناريو، في مُقابل أن فوز كامالا هاريس، قد يُعزز فرص تحقيقه.  

وجدير بالذكر أنه من الصعوبة العودة للاتفاق النووي ذاته الذي تم توقيعه في 2015؛ ذلك لأن الموقف النووي لإيران قد تغير بشكل كبير، كما أن بعض المواعيد التي نصّ عليها الاتفاق قد انقضت بالفعل، ومنها رفع الحظر عن الأسلحة التقليدية في أكتوبر 2020، ورفع الحظر عن الصواريخ والطائرات المُسيّرة في أكتوبر 2023، وقد عبّر بايدن عن ذلك عندما صرّح بأن الاتفاق النووي مات إكلينيكياً، كما أكّد عباس عراقچي أن الاتفاق الحالي لا يمكن إحياؤه، بل يجب التفاوض حول اتفاق جديد. 

إلا أن سيناريو التوصل لاتفاق جديد يظل مرهوناً أيضاً بمعارضة طهران التخلي عن المكتسبات النووية والعسكرية والإقليمية التي حققتها طوال السنوات الماضية، فضلاً عن علاقاتها بكلٍ من روسيا والصين، والتي تؤكد الحكومة الإيرانية الجديدة أنها استراتيجية ولا يمكن التخلي عنها، فضلاً عن احتمالية مُعارضة بعض الأطراف في الداخل الإيراني لتوقيع اتفاق مع الغرب؛ خاصة إن كان هذا الاتفاق لا يضمن منافع لإيران أكثر مما يترتب عليها من التزامات. 

2. عقد تفاهمات جزئية: ربما تُسفر المرحلة المقبلة عن عقد إيران والغرب تفاهمات جزئية في ضوء صعوبة التوصل إلى اتفاق جديد حول برنامج إيران النووي، وذلك على غرار صفقة تبادل السجناء بين إيران والولايات المتحدة، والتي عُقدت في أغسطس 2023، بوساطة قطرية، وأفضت إلى إفراج إيران عن مُحتجزين أمريكيين مقابل سماح واشنطن لكوريا الجنوبية بالإفراج عن أموال إيرانية مُحتجزة تقدر بنحو 6 مليار دولار، والإفراج عن سجناء إيرانيين.

وربما تدفع الوساطات الإقليمية في التوصل لمثل تلك التفاهمات. وفي هذا السياق، فقد أجرى رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، زيارة إلى طهران، في 26 أغسطس 2024، هي الأولى بعد تشكيل الحكومة الجديدة، التقى خلالها الرئيس الإيراني ووزير خارجيته، وبحث معهما التطورات الإقليمية ومسألة رفع العقوبات عن إيران.

ربما تشمل تلك التفاهمات إلزام إيران بالتوقف عن تخصيب اليورانيوم عند مستوى 60%، والسماح بتنشيط رقابة وكالة الطاقة الذرية على المنشآت النووية الإيرانية، كما قد تشمل تمديد المواعيد المنصوص عليها في الاتفاق النووي لعام 2015، إلى ما بعد 2025، سواء المتعلقة بانتهاء العمل بالاتفاق أم تمديد العمل بـ"آلية الزناد"؛ بما يضمن التزام إيران بالتعهدات الجديدة، وقد تأتي تلك التفاهمات في إطار تسوية أكبر وأشمل ربما تضمّ ملفات إقليمية تتعلق بالأوضاع في المنطقة والتسوية في قطاع غزة. 

3. تفعيل "آلية الزناد": من المُحتمل أن يؤدي عدم التوصل إلى اتفاق جديد حول برنامج إيران النووي، وكذلك عدم التوصل إلى تسويات جزئية في هذا الشأن، مع استمرار طهران في تصعيدها النووي، وقرب نهاية الاتفاق النووي لعام 2015، إلى لجوء الأطراف الأوروبية، باعتبارها طرفاً في الاتفاق، إلى استخدام "آلية الزناد" بهدف إعادة العقوبات الأممية على إيران، قبل أن تنتهي صلاحية هذه الآلية، بموجب نص الاتفاق المُشار إليه، في أكتوبر 2025.

كما قد يتضمن ذلك السيناريو خيارات أخرى منها أن تلجأ واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون، إلى توجيه ضربة للبرنامج النووي الإيراني، بمساعدة الطرف الإسرائيلي، أو قد تلجأ تلك الأطراف إلى الاستمرار في توقيع أقصى العقوبات على إيران، والمتعاملين معها، بُغية تفويت الفرصة على الأخيرة للاستفادة من رفع العقوبات الدولية بعد انتهاء الاتفاق في أكتوبر 2025. 

في الختام، يمكن القول إن إبداء إيران استعدادها للعودة إلى طاولة المفاوضات بشأن البرنامج النووي، أسلوب قديم مُتجدد لطهران، للحيلولة دون اللجوء لتفعيل العقوبات الأممية ضدها من ناحية، وتفويت الفرصة على إسرائيل، والتي تسعى لتوجيه ضربات ضد المنشآت النووية الإيرانية من ناحية أخرى، فضلاً عن كون ذلك رسالة لتهدئة الداخل الإيراني؛ بأن النظام يسعى لرفع العقوبات التي كبّدته خسائر اقتصادية كبيرة. 

إلّا أن الواقع يُشير إلى أن التوصل إلى اتفاق بين إيران والغرب حول برنامج الأولى النووي هو أمر بعيد المنال؛ ولاسيما في الوقت الحالي، بالنظر إلى استمرار التصعيد النووي والصاروخي من جانب إيران، بالإضافة للتوترات الإقليمية الحالية، فضلاً عن انشغال الجانب الأمريكي بالانتخابات الرئاسية، ويظل سيناريو التوافقات الجزئية هو الأقرب، باعتبار أنه يحول دون تفعيل العقوبات الأممية ضد إيران، وفي نفس الوقت، قد لا يلزمها بالتخلي كلياً عن مكتسباتها النووية والعسكرية والإقليمية التي حققتها خلال السنوات السابقة.