تراكُم التُّهم:

ردود أفعال الصين على مُخرَجَات قمة حلف الناتو في واشنطن

19 July 2024


جاءت قمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" الأخيرة في واشنطن، والتي عُقِدَت بين 9 و11 يوليو الجاري، في ذكرى مرور 75 عاماً على إنشاء الحلف. وقبل ذلك بأيام احتفلت الصين بذكرى مرور 70 عاماً على إعلان المبادئ الخمسة للتعايش السلمي، كما عاد الرئيس الصيني، شي جين بينغ، للتو من اجتماعات قمة منظمة شنغهاي للتعاون في كازاخستان؛ إذ كان الحديث كثيفاً عن نظام دولي جديد؛ بينما كانت قمة الناتو تتحدث عن مُتَحدين للنظام الدولي القائم على رأسهم روسيا والصين؛ فالحلف منذ بدأت الحرب في أوكرانيا يطالب الصين بالقيام بما يراه مناسباً حتى لا تستمر روسيا في حربها؛ ومن ثم انتقل إلى تُهم صريحة للصين بدعم القاعدة الصناعية العسكرية الروسية. وبالمقابل، كانت الصين واضحة منذ البداية في إلقاء ما حدث على سياسات الناتو، ومن ثم عَمِدَت إلى تفنيد ما ذُكِرَ في القمة الأخيرة حول هذا الموضوع.

لم يقتصر أمر مناقشة القمة الأخيرة للناتو للشأن الصيني على علاقتها بروسيا، وإنما تناول كذلك مجموعة من التحديات والتهديدات التي يذهب الحلف إلى أن الصين تفرضها على أمن المنطقة الأوروبية الأطلسية، مؤكداً تعزيز علاقاته مع من باتوا يُعرَفُون بـ"شركاء الإندوباسيفيك"؛ مُمثلين في اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا؛ إذ التقى الرئيس الأمريكي، بايدن، وكذلك الأمين العام للحلف، يانس ستولتنبرغ، بقادة الدول الأربع، لتأكيد التأثير المُتبادَل بين المنطقتين وضرورة التنسيق والتشاور وترقية آليات التعاون.

ولا يخفى أن الصين تعارض مثل هذا النهج، ولاسيما أنه يربط بشكل مباشر بين الأمن في المنطقتين، ويدل على انتقال الحلف من إطار الأمن الإقليمي ليتخذ أبعاداً عالمية في ظل مناقشة قمة الحلف كافة مناطق العالم تقريباً وما يجري فيها، وتأكيده الاستمرار في خطط التسليح والتدريب والتحديث والتوسع.

إلى ماذا انتهت قمة واشنطن؟

انطلقت قمة واشنطن من تأكيد أن الحلف هو الأقوى في التاريخ نظراً لوحدته وتضامنه، وأنه لكي يستمر ذلك، فإن هناك إجراءات مبنية على سياسات تنبع من استراتيجيات تنطلق من مفاهيم ورؤى طويلة المدى، ومن ذلك أجندة الناتو 2030 التي طُلِبَ من الأمين العام للحلف العمل عليها في قمة لندن 2019، وتم اعتمادها في قمة بروكسل في عام 2021، وتضمنت تسعة مجالات رئيسية لتحركات الحلف.

وكان طبيعياً أن تحظى الحرب في أوكرانيا بنصيب كبير من مداولات ومُخرَجَات القمة، على صعيد استمرار إدانة روسيا وتحميلها المسؤولية كاملة وضرورة محاسبتها، خاصة وأن الحلف يَعتبِر أن ما تقوم به روسيا لا يهدد فقط الأمن الأورو أطلسي، وإنما كذلك الأمن العالمي؛ ولا يتعلق الأمر هنا بالعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا فقط، وإنما بما أطلق عليه الناتو "الخطاب النووي الروسي" وما يصاحبه من إجراءات مثل نقل أسلحة نووية تكتيكية إلى بيلاروسيا. وقد ناقش الحلف كيفية تقديم دعم طويل المدى لأوكرانيا، وأقر مبالغ كبيرة لهذا الغرض، وتم الاتفاق على السماح بتوريد طائرات "إف–16" إليها، وزيادة التدريب لقواتها المسلحة... إلخ.

ولقد رحَّب الحلف بأحدث الأعضاء المنضمين، السويد وفنلندا، مشيراً إلى أن ذلك يزيد درجة أمنهما ويزيد من قوة الحلف. ومن الواضح أن الباب ما يزال مفتوحاً لانضمام أعضاء جدد؛ مما يعني استمرار توسُّع الحلف شرقاً؛ وهو ما كان حجة روسيا الأساسية التي بنت عليها سلوكها تجاه أوكرانيا. كما أشاد الحلف بوصول أكثر من ثلثي أعضائه إلى إنفاق نسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي كنفقات عسكرية في ظل إصرار الحلف على زيادة منعته واستعداده لكل الاحتمالات في ضوء ما يتصوره من تحديات وتهديدات؛ إذ تحتاج دول الحلف إلى الإنفاق على عمليات البحث والتطوير، والتصنيع، والتدريب، والإمداد، والقيادة والسيطرة.

وكان من اللافت أن قادة الحلف اعتبروا أن ما يُطلَق عليه "التهديدات المختلطة والهجينة" يُمكِن أن تصل إلى درجة الهجوم المسلح الذي يقتضي تفعيل المادة الخامسة من معاهدة إنشاء الحلف، مؤكدين إعلانهم مواجهة التهديدات الاستراتيجية المتصاعدة ضد أنظمتهم الديمقراطية، وبنيتهم الأساسية، وسلاسل التوريد، أياً كان مصدرها أو مجالها. وأولت القمة اهتماماً كبيراً بالأمن السيبراني وبالجانب المتعلق بالفضاء، وأكدت زيادة الاستثمار في القدرات الدفاعية الكيميائية والبيولوجية والنووية، وعلى أن الردع النووي بمثابة حجر الزاوية في أمن الحلف.

رؤية قمة الناتو للصين:

قبل الدخول فيما تضمنته قمة الناتو الأخيرة بخصوص الصين، هناك ملحوظتان أساسيتان، أولاهما أن المضمون الصيني الوارد على أجندة القمة ليس وليد الظرف الراهن، وإنما هو نتاج تطور تراكمي في رؤية الحلف للصين؛ فبينما كان الحلف يتحدث عن فرص وتحديات تأتي من قِبَل الصين، بدأ يتحدث فقط عن التحديات، ثم انتقل إلى ما يُسمَّى التحديات النظامية، إلى أن وصل إلى اتهام الصين بالسعي إلى تقسيم التحالف عبر تكتيكات قسرية.

أما الملاحظة الثانية، فتتعلق بالتوازي بين تطور الرؤية الأمريكية للصين ورؤية حلف الناتو لها، والتي يُمكِن تقسيمها لثلاثة مستويات. المستوى الأول يرتبط بما أسماه الحلف "التحديات النظامية" التي تفرضها الصين على الأمن الأورو أطلسي. والمستوى الثاني يتعلق بالحرب الروسية في أوكرانيا. والمستوى الثالث غير مباشر، لا يذكر الصين بالاسم، وإن كانت على رأس المعنيين.

ولقد عدد البيان الصادر عن قمة الحلف التحديات النظامية التي تفرضها الصين على الأمن الأورو أطلسي، متمثلةً في الأنشطة الإلكترونية الهجينة التي وُصِفَت بـ"المستمرة والخبيثة"، ومن ضمنها المعلومات المضللة التي تصدر من الصين، وفي القدرات والأنشطة الفضائية الصينية؛ ومن ثم فالصين مُطالَبة بدعم ما أسماه الحلف بالجهود الدولية الرامية لتعزيز السلوك المسؤول في هذا المجال. ومن وجهة نظر الحلف أيضاً، فإن الصين مستمرة في توسيع وتنويع ترسانتها النووية بشكل متسارع، ومن ثم فإنها مُطالَبة بالدخول في مناقشات استراتيجية قائمة على الشفافية دعماً للاستقرار وللحد من المخاطر.

وبالنسبة لما تقوم به الصين دعماً لروسيا في حربها في أوكرانيا، ذهب الحلف إلى اعتبار الصين "عاملاً حاسماً" في تمكين الحرب الروسية عَبْر ما تقدمه من دعم واسع النطاق للقاعدة الصناعية العسكرية الروسية؛ وهو ما يهدد الأمن الأورو أطلسي وجيران روسيا؛ ولذا دعا الحلف الصين إلى ضرورة وقف دعمها المادي والسياسي للحرب الروسية من خلال الامتناع عن تزويد روسيا بالمواد ذات الاستخدام المُزدوَج والمواد الخام التي تُستخدَم في تلك الصناعات ومكونات الأسلحة والمعدات العسكرية أو تلك التي تسهم الصين في تصنيعها. ولم يكتفِ بيان القمة بذلك، بل وجَّه تحذيراً واضحاً للصين بذكره صراحةً: "لا تستطيع الصين تمكين أكبر حرب في أوروبا في التاريخ الحديث دون أن يؤثر ذلك سلبياً في مصالحها وسمعتها". كما ربط الحلف بين الصين وروسيا من حيث سعيهما لتقويض النظام الدولي القائم على القواعد وتأسيس نظام دولي جديد.

أما عن المستوى غير المباشر، فيُمكِن تلمسه عند الحديث عن التحديات التي تقوم بها هيئات رسمية وغير رسمية من دول بعينها من أجل الإضرار بأمن دول الحلف ونظمها الديمقراطية؛ إذ أسهب مسؤولون من الحلف ودوله في شرح وتفصيل بعض القضايا الخاصة بالصين، خاصة الأمين العام للحلف، ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن.

الرد الصيني على قمة واشنطن:

لا تنفصل ردود الصين على ما تضمنته القمة عموماً أو بشأنها على وجه خاص، عن مواقفها الأساسية من مجموعة من القضايا، وعن امتداد تصديها لما يذكره الحلف بشأنها خلال السنوات الماضية؛ فقبل انعقاد القمة، وعندما تحدث الأمين العام للحلف في مؤتمر صحفي وذكر التحدي الصيني، فإن بكين أعلنت عن رفضها القاطع لتشويه سمعتها، وإلقاء اللوم عليها، ودعت الحلف إلى ضرورة التوقف عن استخدامها كمبرر لتدخله في المنطقة المحيطة بها؛ معتبرة أن الحلف يدعي أنه دفاعي، بينما يواصل التوسع رغم أنه التكتل العسكري الأكبر في العالم، الذي يتصرف بتنمر على الصعيد العالمي ويثير المواجهات.

وذهبت بكين في ردها على الأمين العام للحلف إلى القول إن "الحلف لا يعنيه إلا أمنه المزعوم دون مراعاة لأمن الآخرين، وأن ما يقوم به من شأنه خلق مخاطر أمنية عالية". هذا المنطق ذكرته الصين صراحةً منذ بداية الحرب في أوكرانيا؛ بل إنها كررت كثيراً مقولة إن "الحلف يلقي بالزيت على النار في الوقت الذي يلوم فيه الآخرين"، واعتبرت أن الحلف، ومعه الولايات المتحدة، هما المسؤولان الأكبران عن نشوب الصراع عندما تم الإصرار على توسيع الناتو دون مراعاة المصالح الأمنية الروسية؛ ومن ثم تؤكد الصين دائماً أن مفتاح حل الأزمة في أوكرانيا في يد واشنطن والناتو. كما تطالب الصين الحلف بأن يُكوِّنَ تصوراً صحيحاً عنها، وأن يتخلص من عقلية الحرب الباردة وألا يتصرف بمنطق المباراة الصفرية، وألا يستمر في سياسة التخويف عَبْر خلق "أعداء وهميين"، وأن يسهم في تحقيق السلام العالمي بما يعود بالاستقرار والتنمية، ولا يكون الدفاع عن النفس مدعاة لتشكيل "أندية حصرية".

وعَقِبَ انتهاء قمة الحلف، وبعد المؤتمر الصحفي الخاص بأمينه العام، ستولتنبرغ، ردت الصين مرةً أخرى، معتبرةً تصريحاته غير مسؤولة واستفزازية، وأنها عبارة عن تُهم باطلة مُعبأة بالتحيز الأيديولوجي ومُمعِنَة في عقلية الحرب الباردة. وقد أشارت الصين في ردها إلى قرب نهاية مهام ستولتنبرغ كأمين عام للحلف؛ إذ ذهبت إلى القول إنها "تحث هذا السياسي الغربي، الذي تقترب حياته السياسية من نهايتها، على ألا يُشعِلَ النيران أو يقوم باستفزازات أو يلقي اللوم على أطراف أخرى، من أجل محاولة ترك نوع من الإرث وراءه"؛ هذا علماً بأن الصين تدرك أن الأمر ليس شخصياً، فالأمين العام للحلف هو مُجرَّد مُعبِّرٌ عن إرادة دول الحلف.

ومع إصدار بيان قمة الحلف "إعلان قمة واشنطن"، اعتبرته الصين مليئاً بـ"التحيز والتشويه والاستفزاز" ضدها، واحتجت رسمياً على هذا البيان، مؤكدةً أنه يزيد التوترات في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، التي "لا تحتاج إلى كتل عسكرية، ولا إلى المواجهات بين الدول الكبرى أو مجموعات الدول التي تسعى إلى حرب باردة جديدة". كما أعادت الصين تذكير الحلف بما تعتبره مآسٍ تسبَّب فيها في كل من يوغوسلافيا وأفغانستان وليبيا، واصفةً ما يعتبره الحلف نجاحات بـ"المخاطر العالمية"؛ ومن ثم فإنها تجد سلوك الناتو تجاه المنطقة المحيطة بها تهديداً مباشراً، خاصة وأنه يصب في صالح تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.

وفيما يتعلق بإصرار الحلف على مسؤولية الصين في الملف الأوكراني، لم تكتفِ الصين باعتبار ذلك "غير مُبرَّر ولا مَعْنَى له"، بل وصفت موقفها بـ"الموضوعي والعادل"، وأنها تقوم بدور بنَّاء على هذا الصعيد. وفيما يتعلق بالمعلومات الخاصة بالدعم الصيني للصناعات العسكرية الروسية، فقد اعتبرت بكين أن تلك المعلومات "مُضلِلة" وأن واشنطن من تقف وراءها، وقدَّمت في المقابل معلومات بخصوص المدخلات التي تأتي من الولايات المتحدة ودول أخرى في الناتو ضمن الأسلحة الروسية نفسها، علاوة على ما يقدمه الحلف لأوكرانيا من أسلحة متنوعة؛ إذ قالت الصين إن نسبة كبيرة من المواد مُزدوَجَة الاستخدام والمكونات في الأسلحة الروسية مُستورَدَة من دول أعضاء في الناتو بنسبة تصل إلى 60%، وإن 95% من المكونات الرئيسية للأسلحة الروسية التي دمرتها أوكرانيا قادمة من الغرب، وإن حوالي 70% من هذه المكونات أتت من شركات أمريكية. وذكرت الصين أنه في الوقت الذي فرضت فيه الدول الغربية عقوبات على روسيا على خلفية الحرب في أوكرانيا، فإن تجارة تلك الدول مع روسيا شكلت حوالي 18% من التجارة الخارجية لروسيا في عام 2023 بما يصل إلى 130 مليار دولار. بالطبع تهدف الصين من ذِكْر تلك الأرقام تأكيد موقفها المبدئي بخصوص ما تعتبره تبادلات طبيعية مع روسيا، وأن ما يُطالِب به الغرب الآخرين يُمثِّل ازدواجية فجة للمعايير، خاصة في ظل استمراره في تقديم المساعدات الضخمة لأوكرانيا.

أخيراً، من الواضح أن حلف الناتو مستمر في خطاباته وسياساته تجاه الصين، بل إن خطابه يزداد حدة. ومن جانبها ترد بكين على تصريحات وبيانات الحلف وتنتقد سياساته؛ وهو ما يثير التساؤل عن مستقبل هذه الثنائية المتضادة خاصةً في ظل تراجع مستويات الحوار بين الجانبين، وهل هذه الثنائية هي بين الصين والحلف أم أنها بين الولايات المتحدة والصين؛ وهو ما يشير إلى أن انعكاس العلاقات الأمريكية الصينية بوجه عام على مجمل علاقات الحلف وتوجهاته وسياساته القائمة تجاه الصين.

في كل الأحوال، من شأن هذه الجدالات الحادة والاختلافات التامة في الرؤى والتحركات أن تزيد من تحركات تعزيز الأسلحة والقدرات النووية بحجة مواجهة التهديدات القائمة والمستقبلية من كل طرف، ومِثْل هذا السلوك ينعكس بالسلب على النظام الدولي لمنع الانتشار النووي. كما أن الاهتمام بزيادة النفقات العسكرية، فضلاً عن أنه يُذكِّر بمعضلة الأمن، التي تحدث عنها ثيوسيديدس؛ بما يعني الدخول في سباقات تسلُح لا علاقة لها بما كان في مخيلة المفكر اليوناني في حينه في ظل التقدم التكنولوجي المتوالي والقدرات التدميرية اللانهائية لبعض أنواع الأسلحة؛ فإنه يأتي على حساب قضايا تحتاج إلى موارد ضخمة مثل: محاربة الفقر والتغير المناخي ومواجهة الأوبئة والكوارث الطبيعية، وهي قضايا باتت لا تخلو من "التسييس" بين واشنطن وبكين كما حدث في جائحة "كورونا".