"ثنائية بوتين – كيم":

أهداف ودلالات توقيع روسيا وكوريا الشمالية اتفاقية التعاون الاستراتيجي الشامل

24 June 2024


في أول زيارة له إلى بيونغ يونغ منذ عام 2000، وفي خطوة من شأنها "إشعال" المخاوف من أن تصبح شبه الجزيرة الكورية مركزاً ساخناً لحرب باردة جديدة، وقَّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، على اتفاقية "التعاون الاستراتيجي الشامل"، خلال القمة التي جمعتهما في بيونغ يانغ في 19 يونيو 2024.

مضمون وتوقيت الاتفاقية: 

يُعد توقيع هذه الاتفاقية تطوراً مهماً وغير مسبوق، لجهة تضمينها بنداً يتحدث عن "الدفاع العسكري المشترك" في وجه أي عدوان قد تتعرض له إحدى الدولتين، بما يتماشى مع المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة وقوانين الدولتين، وذلك على غرار اتفاق مماثل تم التوصل إليه في عام 1961 بين الاتحاد السوفيتي السابق وكوريا الشمالية خلال حقبة الحرب الباردة، إلا أنه انقضى في عام 1996 بعدما أقامت روسيا الاتحادية علاقات دبلوماسية مع كوريا الجنوبية.

وتأتي هذه الاتفاقية لتعزز بشدة مكانة موسكو وبيونغ يانغ اللتان تحاربان "هيمنة الولايات المتحدة"، على حد وَصْف الرئيس الروسي. وتُعد هذه الحرب "مفهومة" و"منطقية" في ظل المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة التي تجمع الرئيسين بوتين وكيم، وفي مقدمتها: تقويض أنظمة العقوبات الأمريكية، وضمان تلبية احتياجاتهم الأمنية في ضوء سياسة العقوبات القاسية والعزلة الشديدة التي تفرضها واشنطن وحلفاؤها في أوروبا وشرق آسيا على الدولتين؛ بسبب شن موسكو حربها في أوكرانيا وإصرار بيونغ يانغ على تطوير برامجها النووية والصاروخية.

كما جاءت الاتفاقية أيضاً بعد أسبوع واحد فقط من تأكيد وزراء خارجية دول "مجموعة السبع" تضامنهم مع أوكرانيا في حربها ضد روسيا، وأيضاً في الوقت الذي تعترض فيه كوريا الشمالية بشدة على تنامي التعاون الأمني والعسكري بين الولايات المتحدة وحليفتيها كوريا الجنوبية واليابان.

من جانبه، علَّق الرئيس كيم على الاتفاقية المذكورة بأن "وَضْع كوريا الشمالية وروسيا في بنية الجغرافيا السياسية العالمية قد تغيَّر"، وأن الاتفاقية سوف تساعد على وجود "عالم متعدد الأقطاب"، مؤكداً أن ترقية العلاقات مع روسيا إلى مستوى التحالف يتناسب مع العصر الجديد. أما الرئيس الروسي، فقد ذكر أن موسكو وبيونغ يانغ تعارضان استخدام العقوبات بدوافع سياسية، مشيراً إلى أنها لا تؤدي إلا لتقويض الوضع الدولي، موضحاً أن -ما أسماه– "الكليشيهات الدعائية التي يكررها الغربيون بكثرة لم تعد قادرة على إخفاء خططهم الجيوسياسية العدوانية، بما في ذلك في منطقة شمال شرق آسيا".

التعاون العسكري وإثارة شبح الحرب النووية:

تُعد اتفاقية "التعاون الاستراتيجي الشامل" بين روسيا وكوريا الشمالية "ذروة جديدة" لإمكانات التعاون العسكري والاقتصادي والسياسي بينهما؛ إذ تنامى هذا التعاون بشكل ملحوظ منذ الزيارة "التاريخية" التي قام بها الرئيس الكوري الشمالي إلى روسيا في سبتمبر 2023، وهي الزيارة التي أسفرت، بحسب تقارير أمريكية وغربية، عن قيام موسكو بشراء ملايين الصواريخ متعددة الأغراض وقذائف المدفعية والذخائر اللازمة للأسلحة الثقيلة والمتوسطة من كوريا الشمالية؛ وهو الأمر الذي مكَّن روسيا من سد فجوة مهمة في حاجات القطاع العسكري الروسي، وتعويض عجْز المجمع الصناعي العسكري عن توفير متطلبات الجبهة في عدد من المجالات رغم زيادة الإنتاج الروسي عدة أضعاف خلال العامين الماضيين.

في هذا السياق، أشار تقرير أمريكي صدر في شهر فبراير 2024، إلى أن موسكو تلقت أكثر من 10 آلاف حاوية شحن؛ أي ما يعادل 260 ألف طن متري من الذخائر والمواد المرتبطة بالذخائر من كوريا الشمالية منذ سبتمبر 2023. وقال مسؤول أمريكي في شهر مارس الماضي إن "القوات الروسية أطلقت أيضاً ما لا يقل عن 10 صواريخ كورية شمالية على أوكرانيا منذ سبتمبر 2023".

وفي مقابل هذا الدعم التسليحي من جانب بيونغ يانغ، زوَّدت موسكو كوريا الشمالية بالخبرة الفنية اللازمة لتطوير برنامجها للأقمار الاصطناعية، وأرسلت مساعدات غذائية ونفطية لمواجهة الأزمة الإنسانية المتفاقمة في البلاد. وقد ظهرت إشارات هذا الدعم الفني الروسي في الإطلاق الناجح لأول قمر اصطناعي للاستطلاع العسكري لكوريا الشمالية، وهو قمر "ماليغيونغ 1"، بعد محاولتين فاشلتين في وقت سابق.

وفقاً لذلك، تُمثِّل الاتفاقية في المدى المنظور "فرصة ذهبية" للدولتين من أجل تعزيز قدراتهما العسكرية، بل وزيادة قدراتهما السياسية والتفاوضية مع الولايات المتحدة وحلفائها. على سبيل المثال، يتطلع الرئيس الكوري الشمالي إلى الاستفادة من هذه الاتفاقية في اكتساب التكنولوجيا العسكرية الروسية المتقدمة، خاصة تلك المرتبطة بتخصيب اليورانيوم، أو تصميم المفاعلات النووية، أو الدفع النووي للغواصات.

وبالنسبة إلى الرئيس بوتين، تُمثِّل هذه الاتفاقية أيضاً فرصة ذهبية لإرسال إشارة، أو تهديد، بأن روسيا ليست وحدها في مواجهة الغرب. وربما يرى الرئيس الروسي أيضاً في تعزيز العلاقة مع نظيره الكوري الشمالي وسيلة "لابتزاز" الولايات المتحدة وحلفائها سياسياً، من خلال إثارة شبح الحرب النووية، مستغلاً "مخاوف الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية بشأن كوريا الشمالية"، وفق ما رجحه خبراء ومحللون.

تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام "سيبري" أصدر مؤخراً تقريراً وَرَدَ فيه أن عدد الرؤوس الحربية النووية التي تمتلكها كوريا الشمالية، وصل إلى 50 رأساً نووياً في العام الحالي 2024، بزيادة 20 رأساً عن العام الماضي. كما أن بيونغ يانغ لديها ما يكفي من المواد الانشطارية لإنتاج حوالي 90 رأساً نووياً.

نِصف تحالف أم تحالف كامل؟!

على الرغم من أنه لا يزال من المبكر جداً تحديد مدى وطبيعة "ذروة" التعاون العسكري بين موسكو وبيونغ يانغ في ضوء اتفاقية "التعاون الاستراتيجي الشامل" بين الدولتين، وما إذا كان هذا التعاون سوف يستمر في وتيرته التصاعدية خلال المدى المنظور؛ فإنه من الممكن افتراض أن الدولتين قد أسَّستا حتى الآن ما يُمكِن وصفه بأنه "شِبْه تحالف" أو "نِصف تحالف" وليس "تحالفاً كاملاً". وتوجد عدة مؤشرات تدلل على صحة مثل هذا الافتراض، منها على سبيل المثال ما يلي:

1 - الحفاوة الكبيرة التي تم بها استقبال الرئيس الروسي في كوريا الشمالية؛ مما يعكس درجة اهتمام الطرفين بإظهار عمق العلاقة والاستعداد لتطويرها سريعاً؛ فإلى جانب استقباله في المطار من الرئيس كيم في حوالي الساعة الثالثة صباحاً وعناقه بحرارة بعد نزوله من الطائرة، تميزت مراسم الاستقبال الرسمي للرئيس الروسي في ساحة كيم إيل سونغ، مؤسس دولة كوريا الشمالية وجَدِّ الزعيم الكوري الحالي، باهتمام بالغ في التفاصيل، لجهة تزيين الساحة واللافتات التي حملت عبارات تُذكِّر بالماضي السوفيتي، وحضور الوفود الشعبية وقادة الحزب الحاكم، وصولاً إلى الجولة في شوارع العاصمة على متن سيارات من طراز "أوروس" الفاخرة التي كان بوتين قد أهدى نسختين منها إلى الرئيس كيم في فترة سابقة. كما تم تبادل الكلمات الدافئة بين الرئيسين؛ إذ شكر بوتين كيم على دعمه لحربه في أوكرانيا؛ وأغدق كيم الثناء على بوتين مشيراً إلى أن العلاقات الثنائية بين موسكو وبيونغ يانغ وصلت إلى مستوى التحالف.

2 - انحياز موسكو إلى جانب كوريا الشمالية في مجلس الأمن الدولي، من خلال استخدامها حق "الفيتو"، لعدم فرض عقوبات دولية جديدة عليها في ضوء استمرار مساعيها لتطوير برامجها النووية والصاروخية. ففي وقت سابق من العام الحالي، عرقلت روسيا قرار التجديد السنوي للجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة التي تراقب انتهاكات كوريا الشمالية لـ 11 قراراً أممياً ضد البرامج النووية والصاروخية للنظام. وعلى الأرجح، ستزيد ممارسات موسكو من صعوبة مراقبة الامتثال الدولي للعقوبات المطلوبة في المدى المنظور.

ولكن من ناحية أخرى، لا يُمكِن وَصْف التحالف الناشئ والصاعد بين موسكو وبيونغ يانغ بأنه "تحالف كامل"، وذلك في ضوء عدة تحديات رئيسية، لعل من أبرزها ما يلي:

1 - عدم اتفاق قادة الدولتين (في حدود ما هو متاح من معلومات) على التوصل إلى "اتفاقية دفاع مشترك" مماثلة لتلك التي أبرمتها الولايات المتحدة، على سبيل المثال، مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين.

2 - لا يبدو للكثير من المراقبين أن روسيا في وضْعٍ يسمح لها بتقديم مساعدات عسكرية كبيرة إلى بيونغ يانغ في حال اندلاع حرب في شبه الجزيرة الكورية، نظراً لانشغالها بالحرب في أوكرانيا.

3 - عدم رغبة قادة الدولتين في إغضاب الصين، والتي لا بد أنها سوف تشعر بالقلق من تنامي التعاون الأمني والاستراتيجي بين موسكو وبيونغ يانغ؛ إذ اعتاد الصينيون أداء الدور الأكبر في بيونغ يانغ، باعتبارهم أكبر شريك اقتصادي وجيوسياسي لكوريا الشمالية، وهم سعداء للغاية باعتماد الكوريين الشماليين عليهم في كل شيء، من الغذاء والنفط إلى الدعم السياسي والدبلوماسي.

ومن ثم؛ فإن إحراز روسيا تقدماً كبيراً على طريق التعاون مع كوريا الشمالية قد يمنح الرئيس كيم، من وجهة النظر الصينية، المزيد من المرونة والقوة في مواجهة "الرفيق الصيني"؛ ومن ثم قد يتراجع نفوذ ومكانة الصين في هذه المنطقة الحيوية لمصالحها.

وبالتزامن مع ذلك، يحتاج الرئيس بوتين أيضاً إلى توخي الحذر بشأن إثارة غضب الصين في شبه الجزيرة الكورية. فمع استمرار الإغلاق المُتوقَّع لأبواب الغرب أمام موسكو في المستقبل المنظور، لا يستطيع الرئيس بوتين تحمُل غضب بكين، التي تُعد شريكه الاستراتيجي الأكثر أهمية.

مخاوف غربية عميقة:

في ضوء ما سبق، لم يكن غريباً أن تثير اتفاقية "التعاون الاستراتيجي الشامل" بين موسكو وبيونغ يانغ "قلقاً شديداً" و"مخاوف عميقة" لدى الولايات المتحدة ولدى حلفائها، سواءً في كوريا الجنوبية واليابان، أم في حلف شمال الأطلسي "الناتو" أيضاً؛ إذ أكدت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارين جان بيير، أن "تعميق التعاون بين روسيا وكوريا الشمالية يجب أن يكون مصدر قلق كبير للجميع"، وشدَّد ينس ستولتنبرغ، الأمين العام لحلف "الناتو"، على أن "هذه الاتفاقية مدعاة لتأكيد أهمية شراكة الحلف مع الدول الآسيوية".

من جهة أخرى، انتقد وزراء خارجية الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان بشدة هذه الاتفاقية لأنها تُشكِّل "تهديداً كبيراً لأمن منطقة شمال شرق آسيا"، مؤكدين عزمهم على تعزيز التعاون الأمني والعسكري الثلاثي بينهم.

وبالتزامن مع ذلك، استدعت وزارة الخارجية الكورية الجنوبية، في اليوم التالي للتوقيع على هذه الاتفاقية، السفير الروسي لدى سيول، جورجي زينوفييف، للاحتجاج عليها، مؤكدة أنها تُشكِّل انتهاكاً لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وتهديداً للعلاقات الثنائية بين سيول وموسكو، بل وتهديداً أيضاً للاستقرار الإقليمي.

التداعيات المحتمَلَة:

يُمكِن القول إن اتفاقية "التعاون الاستراتيجي الشامل" بين روسيا وكوريا الشمالية رغم غموض تفاصيلها، سوف تُمثِّل، على الأرجح، تحولاً جذرياً في المعادلة الاستراتيجية الأمنية في منطقة شمال شرقي آسيا، وربما أيضاً في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وقد يكون هذا التحول خطراً كبيراً على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها في هذه المنطقة، بل وفي أوروبا أيضاً، خاصة إذا ما عملت بيونغ يانغ على زيادة فاعلية العمليات العسكرية لروسيا في أوكرانيا؛ ومن ثم الحصول على فوائد مالية وعسكرية تمكنها من تطوير برامجها النووية والصاروخية.

ومما قد يفاقم خطورة الأوضاع أن "الباب الروسي" سوف يكون "مفتوحاً على مصراعيه"، على الأرجح، لحصول بيونغ يانغ على التكنولوجيا المتطورة المرتبطة بتصميمات الرؤوس الحربية النووية، أو الطائرات والغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، وأقمار الاستطلاع العسكرية وتكنولوجيا الإطلاق وغيرها.

ومن جهة أخرى؛ من شأن أي تعزيز روسي للقدرات العسكرية لكوريا الشمالية أيضاً، حتى بالنسبة إلى الأسلحة التقليدية؛ أن يقود إلى زيادة التهديدات والمخاطر الأمنية بالنسبة إلى كل من اليابان وكوريا الجنوبية، حليفتي الولايات المتحدة في منطقة شمال شرق آسيا، خاصة وأن هاتين الدولتين تستضيفان عشرات الآلاف من القوات الأمريكية المتمركزة في هذه المنطقة الحيوية. كما أن من شأن أي تحالف عسكري رسمي روسي كوري شمالي؛ أن يقود إلى تعقيد الخطط العسكرية لواشنطن وحلفائها في طوكيو وسيول، للرد على أية هجمات كورية شمالية أو للقيام بغزو كبير لبيونغ يانغ من أجل الإطاحة بالنظام الحاكم هناك.

كذلك، قد تعني الشراكة الروسية الكورية الشمالية الجديدة أن مقعد روسيا في مجلس الأمن الدولي سيصبح حائط صد متين لحماية كوريا الشمالية من قرارات الإدانة الدولية أو استمرار العقوبات القاسية المفروضة عليها. وقد تعني مزيداً من سياسة حافة الهاوية من جانب زعيم كوريا الشمالية، من أجل تخفيف الضغط على "الرفيق الروسي" في الجبهة الأوكرانية.

ويُتوقَّع أن تتركز كل الأنظار في طوكيو وسيول، على واشنطن، من أجل الحصول على "تطمينات نووية" لتحقيق ردع أقوى في مواجهة كوريا الشمالية، وحليفها الجديد في موسكو، وَسْط تساؤلات حول ما إذا كانت هذه التطمينات ممكنة وفعالة، خاصة وأن الأمريكيين في عام الانتخابات الرئاسية، وفي ظل احتمالات عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للرئاسة.

ومما يزيد من تهديد الأمن والاستقرار الإقليميين في هذه المنطقة أن واشنطن لا يبدو أن لديها في الوقت الراهن خُططاً لإعادة نَشْر "الأسلحة النووية في شبه الجزيرة الكورية"، وهي الأسلحة التي سحبتها في عام 1991. كما أنه من الصعب على واشنطن إحياء مسار المفاوضات من أجل دَفْع كوريا الشمالية للتخلي عن برامجها النووية والصاروخية، بل ويُمكِن التأكيد أن مسار كوريا الشمالية، نووياً وصاروخياً، وصل إلى نقطة اللاعودة بشكل مُطلَق.