العربية:

الشرق الأوسط يترنح بين النزاعات الإقليمية والممارسات عديمة الإنسانية

22 February 2024


لقد أصبح الشرق الأوسط اليوم بؤرة للصراعات، ومسرحًا للمذابح البشرية وما يمارس فى ساحته من إجراءات، لا تؤدى سوى إلى نتائج خطيرة إذ تستند هذه الإجراءات إلى حجج غير منطقية بل ومتناقضة، وعلى الرغم من كل ذلك يبدو أن العالم والمنطقة بأسرها تعيش فى حالة إنكار للوضع.

حتى الصيف الماضى، كان الخطاب الإسرائيلى السائد يشير إلى أن القضية الفلسطينية لم تعد تشكل أية أهمية تُذكر، وأنها لم تعد مسألة ملحّة فى التكوين العربى- الإسرائيلى، وبالتالى فليس هناك حاجة إلى إعارتها أى اهتمام على المستويين الإقليمى والدولى.

إلا أن النشاط الاستيطانى فى الضفة الغربية، إلى جانب أحداث السابع من أكتوبر 2023 وما بعدها، قد كشفا زيف هذه النظرية.

لقد دأبت إسرائيل ومؤيدوها فى الأساس على تقديم رواية مضللة لا تكشف خسائرهم الأخيرة التى تكبدوها فى خضم الصراع الفلسطينى- الإسرائيلى. فى الواقع، إن الطرفين يعيشان فى صراع منذ ما يقرب من سبعة عقود من الزمن، مع دورة متكررة من العنف تأتى فى الغالب من طرف إسرائيل. أكثر مما تأتى من الجانب الفلسطينى الذى يعيش تحت الاحتلال.

إن عملية تبادل رهائن يوم السابع من أكتوبر، مقابل الإفراج عن الفلسطينيين المسجونين منذ فترة طويلة فى السجون الإسرائيلية، ستظل متقطعة. وقد شهدنا اعتقال أعداد أكبر من الفلسطينيين فى الضفة الغربية، فضلًا عن قيام إسرائيل بقتل رهائن إسرائيليين عراة الصدر عن غير قصد، وقد كانوا رافعين للقماش الأبيض ويصرخون باللغة العبرية طالبين المساعدة.

قبل السابع من أكتوبر، كان مقاتلو حماس والمقاومة قد حصلوا على دعم الفلسطينيين فى غزة، بعضه لاعتبارات أيديولوجية والبعض الآخر تعبيرًا عن رفض الاحتلال وجزء منه مدفوعًا إلى حد كبير باحتياجات التعايش الوظيفى للمواطنين هناك. وقد تؤدى الخسائر البشرية والمادية التى تكبدها المجتمع الفلسطينى بسبب الرد العسكرى الإسرائيلى على مقاتلى حماس والمقاومة إلى تراجع هذا الدعم بعض الشىء، إلا أن القوة العسكرية الإسرائيلية اللا إنسانية المتواصلة والعشوائية، والتى يتم توجيه معظمها ضد المدنيين فى ظل غياب السلطة الفلسطينية، قد رفعت من مكانة المقاومة بدلًا من إضعافها. وهذا ما أكده رئيس الوزراء الفلسطينى نفسه، الذى أعلن أن مقاتلى المقاومة هم جزء لا يتجزأ من الجسم السياسى الفلسطينى.

لقد أعلنت إسرائيل عزمها القيام بالسيطرة الأمنية المطلقة على قطاع غزة بعد وقف العمليات العسكرية به. وفى الوقت نفسه فقد قدمت طلبًا غير منطقى وغير مسؤول لمصر والأردن ودول عربية أخرى لتوفير قوات لتوفير الأمن فى غزة، وهو طلب مرفوض لأن هذه الدول لا يمكن الموافقة على أن تعمل ضد الفلسطينيين تحت غطاء أمنى إسرائيلى، كما لا تسعى للانخراط فى صراع ضد إسرائيل نفسها، ما قد يعرض اتفاقيات السلام القائمة للخطر.

لقد اقترحت إسرائيل نقل سكان غزة إلى سيناء، مما أثار امتعاضًا شديدًا لدى مصر، أول دولة عربية توقع اتفاقية سلام معها. علاوة على ذلك، فقد دفع النشاط الاستيطانى الإسرائيلى المتوسع المؤيدين التقليديين لحل الدولتين إلى فقدان الأمل والتفكير فى بديل الدولة الواحدة، يتعايش فيها الفلسطينيون والإسرائيليون بهوية مشتركة وحقوق متساوية.

وبالرغم من أن إزالة المستوطنات تشكل تحديًا بلا أدنى شك، فإن فكرة تعايش الفلسطينيين والإسرائيليين بهوية واحدة وحقوق متساوية هى فكرة غير قابلة للتصديق على الإطلاق، خاصة فى ضوء الأحداث الأخيرة. وعلى هذا النحو، فإن فكرة الانفصال بهويتين وطنيتين هى الخيار الوحيد المتبقى. لقد أُدرج حل الدولتين فى الماضى فى قائمة التطلعات التاريخية التى لم تتحقق. ومع ذلك، فهو يُعد الآن بمثابة الخيار المفضل والوحيد من قبل جميع الأطراف باستثناء الحكومة الإسرائيلية.

تستمر الولايات المتحدة، المعروفة بمناصرتها للديمقراطية وحقوق الإنسان، فى الاعتراض على وقف إطلاق النار فى غزة، وهو ما يتعارض مع قوانينها وتشريعاتها (خاصة قانون ليهى) من خلال السماح باستخدام أسلحتها ضد المدنيين، وعرقلة محاولات فرض عقوبات على إسرائيل بسبب انتهاكاتها الإنسانية الدولية.

وتعارض الولايات المتحدة التهجير القسرى للفلسطينيين، وأى تقليص لأراضى غزة لأغراض أمنية إسرائيلية، وتؤكد دعمها لحل الدولتين. ولكنها فى الوقت نفسه تتغاضى عن التجاوزات الإسرائيلية بشأن هذه القضايا، ونراها قد التزمت الصمت عندما رفضت إسرائيل علنًا اقتراح بايدن بأن تفكر فى شكل من أشكال خيار الدولتين، حتى بعد تصريحاته الغامضة والتى أشار فيها ضمنًا إلى أن الدولة الفلسطينية قد لا تكون فى الواقع ذات سيادة كاملة.

وتمتد توترات الشرق الأوسط وتداعياتها إلى أوروبا، والتى كانت فى الماضى تتخذ موقفًا بنّاءً ووسطيًا، ومع ذلك، فقد أبدى الزعماء الأوروبيون التقليديون، مثل فرنسا، مواقف مثيرة للجدل، وألمانيا، فتتغاضى بشكل غير معقول عن القتل الجماعى، فى حين لاتزال بريطانيا تصارع عواقب خروجها من الاتحاد الأوروبى والاحتمالات غير المؤكدة بمنطقة المحيط الأطلسى. وفى الوقت نفسه، ترتكن بعض الدول الأوروبية إلى مواقف شعبية غير مسؤولة. وفى خضم كل هذا، هناك بصيص من الأمل فى دول مثل: النرويج، وأيرلندا، وإسبانيا، وبلجيكا، وربما دولة أو اثنتين أخريين ممن اتخذوا مواقف واضحة ومبدئية على الرغم من الضغوط الكبيرة حولهم.

اتخذت محكمة العدل الدولية مؤخرًا خطوة مهمة بقبولها قضية تتعلق بارتكاب إسرائيل أعمال الإبادة الجماعية فى غزة. كما دعت المحكمة إلى اتخاذ إجراءات مؤقتة لمنع المزيد من التصعيد، مما يؤكد أن الممارسات الإسرائيلية فى غزة هى موضع شك كبير، ومن الواجب أن تنتهى، ولكن المحكمة لم تطالب بوقف فورى لإطلاق النار، مما أعطى الفرصة لجميع الأطراف المتصارعة لادعاء النصر وإن لم يكن حقيقيًا.

وانتشرت الدعوات التى تطالب بتوخى الحذر وضرورة اتخاذ إجراءات لاحتواء المخاطر المحتملة من امتداد الصراع فى غزة إلى مناطق أخرى من الشرق الأوسط. ولكن أليست أعداد الوفيات والمخاطر فى القطاع نفسه كافية لتحرك إقليمى ودولى؟ من الواضح أن الشرق الأوسط قد بات الآن منطقة صراع نشطة، وأن التداعيات الإضافية للصراع قد حدثت بالفعل، وأن قصيرى النظر هم فقط من لا يعترفون بذلك.

ولقد تدهورت علاقة إسرائيل مع جيرانها المباشرين، مصر والأردن، بسبب أمن الحدود وقضايا النزوح. علاوة على ذلك، هناك توترات إضافية بالمنطقة ناجمة عن الأنشطة العنيفة والعابرة للحدود فى لبنان وسوريا والعراق ومنطقة البحر الأحمر، وتشكل هذه التوترات المزيد من الخطورة والتهديدات للأمن القومى للمنطقة بأكملها. وعلى الرغم من الانتشار العسكرى الغربى الكبير فى الممرات المائية بإقليم الشرق الأوسط، والذى كان هدفه ردع أى أطراف جديدة عن الدخول فى الصراع، وهو تحرك أثبت عدم فاعليته، بل إنه جعل من هذه القوى العسكرية الغربية نفسها أهدافًا إضافية للصراع.

إن الصراع فى غزة قد حوّل الاهتمام عن معالجة القضايا المزمنة فى الشرق الأوسط، ومنها الأوضاع المضطربة فى ليبيا والسودان واليمن، إلى جانب سياسات بعض الأطراف الإقليمية، مما يزيد من تأجج التوترات بالمنطقة. وتمتد هذه التوترات من مسرح الأحداث فى شمال وسط إفريقيا، وتحديدًا ليبيا، شرقًا إلى السودان، بل وتنحدر جنوبًا أيضًا حتى البحر الأحمر، ثم تتدفق أيضًا عبر المسرح العربى الإسرائيلى إلى بلاد الشام، لبنان وسوريا. والقاسم المشترك فى كل هذه التوترات هو التعطش النهم للسلطة والهيمنة.

ختامًا، لقد حان الوقت لكى يعلن المجتمع الدولى الحقيقة للقوى المهيمنة، ويتحرك لضمان محاسبة المعتدين، ويعترف بأن الشرق الأوسط متورط حاليًا فى صراعات خطرة متعددة، الأمر الذى يشكل تهديدًا كبيرًا للسلام والأمن الإقليميين والعالميين. وفى الوقت ذاته أصبحت الدبلوماسية الدولية والإقليمية النشطة- التى تؤكد ضرورة احترام القانون الدولى- أمرًا ملحًا للغاية.

*نبيل فهمي

 وزير الخارجية المصري السابق

*لينك المقال في العربية*