اتجاهات الداخل الإسرائيلي إزاء الدولة الفلسطينية

06 March 2024


توالت في الآونة الأخيرة التصريحات حول إمكانية أو إبداء الاستعداد للاعتراف بالدولة الفلسطينية من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية. وتعكس هذه التصريحات والمواقف الدولية، بصرف النظر عن نتائجها على أرض الواقع، توافقاً دولياً، بل ربما إجماعاً حول ضرورة تسوية القضية الفلسطينية وفقاً لمبدأ الدولتين الذي يعترف به المجتمع الدولي منذ سنوات عديدة، كما تشير إلى توافق المجتمع الدولي والقوى المؤثرة فيه على إدراك أهمية هذا الحل لوقف دائرة العنف والصراع المستمر منذ فترة طويلة بين إسرائيل والشعب الفلسطيني سواء في قطاع غزة أم الضفة الغربية. علاوة على إدراك المجتمع الدولي، وبالذات القوى الغربية، لمدى خطورة تجاهل وإهمال المُضي قُدماً في إرساء دعائم حل الدولتين طيلة هذه العقود واعتماد المقاربة الإسرائيلية التي تذهب إلى أنه بمقدور تل أبيب إقامة علاقات طبيعية مع الدول العربية دون حل القضية الفلسطينية.

بيد أن التوافق الدولي حول ضرورة إقامة الدولة الفلسطينية والاستعداد للاعتراف بها كعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة كخطوة أولى يتلوها إقرار إقامة هذه الدولة سواء في مؤتمر دولي أم مفاوضات بين إسرائيل والقيادة الفلسطينية، برعاية أممية أو غربية؛ يصطدم بطبيعة الموقف الإسرائيلي الراهن لكل من الحكومة الإسرائيلية والمعارضة وربما للرأي العام الإسرائيلي خاصةً بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023 والحرب المستمرة على قطاع غزة حتى الآن.

1- مراوغة الحكومة الإسرائيلية:

سارعت الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو بالرد على تصريحات الاعتراف بالدولة الفلسطينية من قِبل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، في بيان صدر عنها يوم 18 فبراير 2024، تؤكد فيه رفض هذه الحكومة للإملاءات الدولية الصريحة فيما يتعلق بتسوية دائمة مع الفلسطينيين، وقالت إنه "لا يمكن التوصل إلى مثل هذا الترتيب إلا من خلال المفاوضات المباشرة بين الجانبين دون شروط مسبقة". وحظي هذا البيان بموافقة أعضاء حكومة الحرب التي تضم بيني غانتس وغادي آيزنكوت.

كما قدمت الحكومة الإسرائيلية مقترحاً للكنيست يؤكد رفض الاعتراف الأُحادي بالدولة الفلسطينية، ووافق الكنيست بأغلبية كبيرة بلغت 99 عضواً من 120 عضواً، فيما عارض القرار 9 أعضاء. وذكر الكنيست أن إسرائيل ستواصل معارضة الاعتراف الأُحادي الجانب بدولة فلسطينية، مُدعياً أن مثل هذا الاعتراف في أعقاب هجوم 7 أكتوبر سيمنح "مكافأة كبيرة للإرهاب غير المسبوق وسيمنع أي تسوية سلمية في المستقبل"، على حد وصفه.

وعلى الرغم من هذا الموقف، يمكن ملاحظة أن أياً من بيان الحكومة أو قرار الكنيست، لم يرفض الدولة الفلسطينية في المُطلق، بل رفض الاعتراف الأُحادي بها من جانب القوى الدولية على الأقل ظاهرياً ووفق منطوق البيان أو القرار، وربط مثل هذا الاعتراف بوجود الدولة الفلسطينية بالمفاوضات المباشرة بين إسرائيل والشعب الفلسطيني والتي تستهدف إرساء مثل هذه التسوية. غير أن هذه الملاحظات لا تقلل من حقيقة الموقف الإسرائيلي ما ظهر منه وما بطن إزاء الدولة الفلسطينية، والذي يتمثل في رفض إقامة هذه الدولة واعتبار أن إقامتها تهديد لأمن إسرائيل.

ومن الممكن إدراك الموقف الإسرائيلي للحكومة والكنيست في إطار المناورة ومواجهة الضغوط الدولية؛ أي تجنب الوقوف صراحةً ضد إنشاء الدولة الفلسطينية والذي قد يعني الوقوف ضد المجتمع الدولي ورغبته في الحل، ومن ناحية أخرى مراعاة الموقف الأمريكي بصفة خاصة، الذي قدّم ولا يزال يقدم الدعم لإسرائيل قبل وبعد 7 أكتوبر 2023، خاصةً مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية المقررة في 5 نوفمبر 2024، ومن ثم منح بايدن فرصة لتعزيز موقفه بإبداء بعض المرونة حتى وإن كانت لفظية.

2- معارضة نتنياهو:

بذل رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، جهوداً كبيرة لمعارضة ومناهضة إقامة دولة فلسطينية، تعيش بجوار إسرائيل وفق حل الدولتين، الذي تتبناه القرارات الدولية والإجماع العربي والدولي، وهو فخور بهذا الإنجاز، ويعتبر نفسه القائد الإسرائيلي الذي وقف بشجاعة في مواجهة هذا الاحتمال، منذ أن كان مجرد فكرة مضمرة في اتفاقيات أوسلو بعد نهاية المرحلة الانتقالية وحل قضايا الوضع الدائم، التي كانت مدرجة آنذاك والتي تتعلق بالحدود واللاجئين والقدس والمياه.

والأهم من ذلك أن نتنياهو قد أسهم بشكل فعّال في انتقال إسرائيل من مرحلة حل الصراع مع الفلسطينيين إلى مرحلة إدارة الصراع معهم، وأخيراً إلى مرحلة حسم الصراع لصالح إسرائيل وطمس المطالب الفلسطينية. وقد تمثلت مرحلة الحل في اتفاقيات أوسلو وحتى عام 1999 و2000 وفشل مباحثات كامب ديفيد الثانية حول قضايا الحل الدائم، ثم تلت ذلك مرحلة إدارة الصراع مع حكومات نتنياهو المتتالية، وبدأت مرحلة حسم الصراع مع صعود الحكومة السادسة والحالية لنتنياهو والتحالف مع اليمين الديني المتطرف المتمثل في حزب "القوة اليهودية" وزعيمه إيتمار بن غفير، وحزب "الصهيونية الدينية" وزعيمه بتسلئيل سموتريتش.

وقام نتنياهو خلال حكوماته الممتدة برعاية اليمين الديني والقومي، وما يُسمى باليمين الجديد في إسرائيل، وتمثلت هذه الرعاية في توحيد صفوف اليمين الديني والقومي وفتح المجال أمامه لشغل المواقع المختلفة في وسائل الإعلام والثقافة وصعود النخبة اليمينية الجديدة من اليهود الأرثوذوكس، وشجع هذا اليمين على مناهضة ومحاربة اليسار الإسرائيلي وشن الحملات على "الدولة العميقة" في إسرائيل؛ المتمثلة في الإعلام والثقافة وجهاز العدالة والأمن، وطالب بالإصلاحات القضائية لتحرير اليمين من سطوة المحكمة العليا، وطالب بإعلاء السلطة المُنتخبة على نظيرتها التي تم تعيينها من قِبل الحكومة.

ولا يقر الائتلاف الحكومي الذي يقوده نتنياهو بإمكانية قيام دولة فلسطينية، بل يدّعي أن أراضي فلسطين هي أراضٍ يهودية وأن إسرائيل لا بد أن تبسط سيطرتها على الضفة الغربية. وبعد عملية "طوفان الأقصى"، يرى بعض حلفاء نتنياهو ضرورة حكم غزة وعودة الاستيطان فيها، غير أنهم يتركون لنتنياهو بحكم خبرته الدولية اختيار التوقيت الملائم لإعلان ذلك وتطبيقه.

3- تعنت اليمين الديني المتطرف:

أفضى المناخ اليميني السائد في إسرائيل إلى إضفاء الشرعية على حزب "القوة اليهودية"، فبعد أن كان زعيم هذا الحزب، بن غفير، يُعد خارجاً عن القانون بسبب عنصريته، أصبح عضواً فاعلاً في الحكومة وحليفاً مهماً في الائتلاف القائم. ويدعو هذا الحزب إلى طرد الفلسطينيين واعتبار الضفة الغربية جزءاً لا يتجزأ من أرض إسرائيل، ويرفض فكرة إقامة دولة فلسطينية من الأساس، ويدعو إلى استمرار الحرب في غزة وعودة المستوطنين إليها، ويشجع أنصاره على التصدي للمساعدات الدولية إلى غزة بإيعاز من نتنياهو.

وأظهر استطلاع رأي أجرته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية في 9 فبراير 2024، وجود تحولات مهمة في الخارطة السياسية الحزبية والرأي العام الإسرائيلي، تتمثل في سطوع نجم وزير الأمن القومي، بن غفير، وحزبه "القوة اليهودية" الداعي للتطهير العرقي في كل فلسطين التاريخية، ومضاعفة قوته حوالي مرتين ونصف. وتعززت قوة هذا التيار بعد حرب 7 أكتوبر، فعلى الرغم من توجيه الإعلام والرأي العام التُّهم لبن غفير وتحميله مسؤولية التصعيد بسبب مواقفه إزاء القدس والأسرى والمسجد الأقصى، فقد تغير هذا الموقف باستمرار الحرب، وصار بن غفير الأقرب إلى الشارع اليميني والديني اليهودي، إذ وفر السلاح للمستوطنين، وقاد حملة لمنع وصول المساعدات إلى غزة.

أما حزب "الصهيونية الدينية" برئاسة سموتريتش، فهو يشكل أحد أعمدة الائتلاف الحاكم برئاسة نتنياهو، وهو تيار ديني حصل على 14 مقعداً في الكنيست، ويشغل زعيمه منصبين في الحكومة الحالية؛ هما وزير المالية ثم وزير في وزارة الدفاع يحظى بصلاحية الإدارة المدنية وتراخيص البناء. كما أن سموتريتش صاحب مشروع "الحسم" الذي كان قد نشره في عام 2017، والذي يرى أن إسرائيل أخطأت في سياستها إزاء الفلسطينيين وزينت لهم التطلع إلى دولة مستقلة بجوار إسرائيل، ولا بد أن يتوقف ذلك وأن تبدأ مرحلة حسم هذا الصراع؛ أي القضاء على القضية الفلسطينية وتصفيتها، بالاستيطان والمصادرة والطرد والتهجير، على حد زعمه. وقسم سموتريتش الفلسطينيين في مشروعه إلى ثلاث فئات: من يقبل العيش في دولة إسرائيلية يهودية وفق النظم واللوائح الإسرائيلية، ومن يرفض ذلك ويريد الهجرة وسوف تساعده إسرائيل، ومن يقاوم هذا المشروع ويستحق المواجهة من خلال الجيش والأمن. وعلى الرغم من أن الحكومة الإسرائيلية لم تتبن رسمياً هذا المشروع، فإن ممارساتها في الضفة الغربية أو في قطاع غزة يبدو أنها تسترشد به عملياً.

4- حذر المعارضة الإسرائيلية:

تشمل المعارضة الإسرائيلية أطيافاً متنوعة على رأسها حزب "هناك مستقبل" والذي يترأسه زعيم المعارضة يائير لابيد، وحزب "يمينا" الذي يترأسه نفتالي بينيت، وحزب "إسرائيل بيتنا" برئاسة أفيغدور ليبرمان، وحزبي "العمل" و"ميرتس"، بينما انضم حزب "المعسكر الوطني" برئاسة غانتس إلى حكومة الحرب أو مجلس الحرب في الحكومة الحالية.

وتتفاوت مواقف هذه الأحزاب من الدولة الفلسطينية، فحزب "العمل" هو صاحب مبادرة أوسلو، التي انتهت إلى الفشل والتي كانت تتضمن "جنين" الدولة الفلسطينية، كما أنه يؤيد الفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين جغرافياً. أما حزب "ميرتس" فهو يؤيد قيام دولة فلسطينية، ويؤيد حزب "إسرائيل بيتنا" تبادل الأراضي والسكان للحفاظ على الدولة الإسرائيلية.

وقد أوجدت عملية "طوفان الأقصى" وما تبعها من حرب غزة مناخاً مختلفاً، إذ اشتد التحريض وتفاقمت الكراهية ضد الفلسطينيين بشكل عام، كما تصاعدت وتيرة الانتقام والحرب على حساب إمكانية التعايش، ومن المتوقع أن يؤثر هذا المناخ في الأطياف السياسية الإسرائيلية كافة.

وإذا افترضنا جدلاً أن زعيم المعارضة الإسرائيلية، لابيد، يمثل مؤشراً على موقف المعارضة من القضية الفلسطينية، فإن تصريحاته تتسم بالغموض والحذر، فبعد أن أيد قيام دولة فلسطينية على منبر الأمم المتحدة في الجمعية العامة في 22 سبتمبر 2022 عندما كان رئيساً للحكومة الإسرائيلية، ذهبت تصريحاته بعد السابع من أكتوبر 2023 نحو مزيد من الغموض، فهو يرى أن "قضية الدولة الفلسطينية لم تمت بعد والنظر فيها مؤجل بالرغم من تأييده لهذا الحل"، بسبب هجمات السابع من أكتوبر. وفي مقابله مع قناة (LCI) الفرنسية في 5 نوفمبر 2023، دافع لابيد عن المستوطنات، واعتبر أنها "مقامة في أرض التوراة التي تخص اليهود".

من ناحية أخرى، انتقد لابيد موقف نتنياهو في الكنيست عند تقديم مشروع قرار برفض الاعتراف الأُحادي بالدولة الفلسطينية، قائلاً يوم 21 فبراير 2024 "إن نتنياهو يخلق تهديداً غير موجود، وإنه الأقرب إلى الأمريكيين من نتنياهو، ولم يسمع بنية وجود اقتراح بخصوص الاعتراف بدولة فلسطينية من جانب واحد، وإنه لا يوجد مسؤول واحد في العالم عرض اعترافاً أحادياً بالفلسطينيين".

أما يوسى بيلين، وهو أحد مهندسي عملية أوسلو، فقد أوضحت مقابلة له مع موقع (Nouvelops) الفرنسي في 13 أكتوبر 2023، أنه ما زال يؤيد حل الدولتين، في إطار كونفدرالية مع إسرائيل، لأن حل الدولتين لا يزال على قيد الحياة، وإن كان قد تراجع خلال السنوات الأخيرة بسبب الانقسام الفلسطيني، وأن هذا الحل سيكون مقبولاً في حال الاتفاق عليه من الفلسطينيين والإسرائيليين.

وفي السياق ذاته، أي تأييد حل الدولتين والموافقة على إقامة دولة فلسطينية، فإن إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أكد، في معرض انتقاده إدارة الأزمة في قطاع غزة ومع حركة حماس من جانب نتنياهو واليمين المتطرف، ضرورة أن تقدم إسرائيل حلاً سياسياً لمرحلة ما بعد حماس، بما في ذلك "استئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية بشأن حل الدولتين لإنهاء هذا النزاع التاريخي". وأشار أولمرت إلى أن المجتمع الدولي سيقبل الفترة الانتقالية اللازمة في غزة إذا ما كان هناك تفاوض بشأن حل الدولتين. وذكّر في حديثه لقناة "الحرة"، في 9 نوفمبر 2023، بخطته للسلام الشامل لحل النزاع عام 2008 وإقامة دولة فلسطينية في حدود 1967 وأن يكون الجزء الشرقي من القدس عاصمة لها.

في جميع الأحوال، لن تتضح خريطة المواقف السياسية والحزبية الإسرائيلية من قضية الدولة الفلسطينية في الوقت الراهن، وسوف ترتبط هذه القضية بمآلات الحرب الجارية في غزة، وطبيعة وحدود نجاح المحاولات العربية والدولية لإنجاز وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى وإنهاء الحرب على غزة كجزء من حل شامل، وخطة للتسوية مدعومة دولياً وأممياً. وربما يعيد التاريخ نفسه كما حدث بعد حرب أكتوبر 1973، بالرغم من اختلاف العصر والظروف الداخلية والدولية واختلاف الفاعلين وأوزانهم النسبية.