فجوة الازدواجية:

عقبات التفاهم بين أوروبا والجنوب العالمي في أوكرانيا وغزة

01 February 2024


عمقت لحظة السابع من أكتوبر 2023 الانقسام العالمي، بين الغرب وبقية العالم. فقد كان الغزو الروسي لأوكرانيا قبل عامين، بداية ظهور خطوط الصدع بين الغرب، بوصفه الكتلة المهيمنة على مدى عقود، وما أصبح يُعرف بـ"الجنوب العالمي" بوصفه الكتلة الصاعدة. وقد يبدو هذا المصطلح موضع تشكيك في الأدبيات البحثية الغربية، ومع ذلك يجب أن يُؤخذ هذا "الجنوب العالمي" في الاعتبار، وهو امتداد تطوري لمفهوم "العالم الثالث"، الذي برز بعد الحرب العالمية الثانية. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، أدت الإصلاحات الليبرالية التي تمت في الصين ثم في الهند، بالإضافة إلى تأثيرات الليبرالية الجديدة في التجارة العالمية، إلى وضع البلدان التي كانت تعاني من الركود على مسار النمو. وبدورها سلكت إفريقيا نفس المسار في العقد الأول من هذا القرن، وخاصةً نتيجة للنمو الصيني.

في المقابل، حافظ الغرب، بجناحيه الأمريكي والأوروبي، بالرغم من هذا التطور الجذري في طبيعة العالم الثالث، على النظرة نفسها لهذا العالم، بوصفه تابعاً، وليس نداً، في طريق النمو والصعود. إذ شكلت لحظة انتصار الغرب في تسعينيات القرن العشرين واختفاء الاتحاد السوفيتي السابق، لحظة ضبابٍ جيواستراتيجي ومعرفي بالنسبة له، جعله يعتقد بأنه قد حقق الانتصار النهائي والهيمنة العالمية وللعقيدة الليبرالية ونمط إنتاجها الرأسمالي. وعلى الرغم مما تحقق للرأسمالية في عصر العولمة من توسع، فإن الليبرالية شهدت انحساراً متواصلاً منذ ذلك التاريخ، وأصبحت أكثر من أي وقت مضى محلّ تشكك حتى في معاقلها، ولاسيما مع صعود موجة الشعبوية واليمين المتطرف. وهذا ما انعكس سلباً على نفوذ الغرب، ولاسيما أوروبا، في العالم. وبالنظر إلى الأرقام، نرى أن الأوروبيين كانوا يشكلون 12% من سكان العالم في عام 1960، واليوم لا تتجاوز النسبة 5.5%. كما انخفضت حصتهم من الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 28% إلى 17%.

والآن وقد أصبح الجنوب العالمي حقيقةً جيوسياسية، تجد أوروبا نفسها ممزقة بين المواصلة في نهج التحالف التاريخي مع الولايات المتحدة والقائم على وحدة أيديولوجية، أو سلوك نهج مختلف يأخذ في الاعتبار وجودها بين هذا الجنوب الصاعد وبين حليفها ما وراء الأطلسي، لتحقيق مصالحها الاستقلالية، كوحدة كونفدرالية تعاني أزمات هيكلية عديدة، وفي ظل وجودها عالقة بين حربين تزيدان من تعميق مشكلاتها تجاه جيرانها من خارج التحالف الغربي.

قضايا خلافية:

تتشكل خارطة سوء التفاهم بين أوروبا ومن ورائها الغرب، والجنوب العالمي، من مسائل عديدة، إلا أن العقبة الأساسية وراء كل هذه المسائل هي التناقض بين إرادة استدامة الهيمنة من جهة، وإرادة إعادة تشكيل النظام الدولي من جهة أخرى. إذ يحاول الأوروبيون المحافظة على المكاسب التاريخية التي حققوها على مدى القرون الخمسة الماضية من السيطرة على العالم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وخاصةً علمياً، بالتحالف مع واشنطن، استناداً إلى موازين القوى المختلة لصالحهم. في المقابل، تسعى دول الجنوب العالمي إلى فرض أجندة إعادة تنظيم العالم وفقاً لموازين القوى الجديدة. وبالرغم من التراجع الأوروبي المتواصل منذ الحرب العالمية الثانية، على مستوى النفوذ الدولي، فإن المسائل التي تشكل عقبات للتفاهم تتوزع بين مجالات الاقتصاد والسياسة أساساً.

وتُعد المعايير المزدوجة إحدى القضايا الأساسية موضع الخلاف، وهي قضية ترتبط بطريقة تنظيم المؤسسات الدولية، التي تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية وهيمنت عليها الدول المنتصرة. وعادت المسألة بقوة خلال الحرب الأوكرانية والحرب في غزة، إذ بدا واضحاً أن الموقف الأوروبي من أوكرانيا يختلف عن نظيره بشأن غزة، بالرغم من استعمال الحجج نفسها. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بفرض عقوبات على روسيا، فإن التصويت في مجلس الأمن الدولي لا تعترضه أي عقبات، في حين يتم فرض النقض "الفيتو" في وجه طلبات وقف إطلاق النار في غزة. ويتجلى هذا بشكل خاص في التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ دعت 156 دولة إلى وقف إطلاق النار في غزة، لكن الاتحاد الأوروبي فشل، أو لم يرغب، في تبني موقف مشترك لصالح وقف إطلاق النار. وحالياً يدعو الاتحاد إسرائيل إلى احترام القوانين الإنسانية الدولية وحماية أرواح المدنيين، لكن هذه المطالب تبدو ردود فعل وليست مواقف مبدئية، كما يقول جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية. 

لقد عمق هذا الازدواج في المعايير من المنطق القديم المناهض للاستعمار والإمبريالية، وخاصةً في الوطن العربي وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، إذ ما تزال معاداة الإمبريالية سائدة. وقد بدا بشكل أوضح أن بعض الدول تتجنب الوقوف إلى الجانب الأوروبي في الصراع الأوكراني، لأنها تخشى أن يُنظر إليها على أنها متحالفة مع الولايات المتحدة، وأن الوقوف إلى الجانب الغربي يعني الوقوف ضد روسيا. وفي إفريقيا، تؤثر عودة مناهضة الاستعمار أيضاً في مواقف بعض البلدان التي، بحكم تاريخها، تساند الموقف الفلسطيني ولا تصوت أبداً ضد روسيا، إذ حظيت أغلبها بدعم سوفيتي سابق خلال حرب الاستقلال وفي محاربة الفصل العنصري. 

لذلك فإن مسألة ازدواجية المعايير ليست مجرد شعار أخلاقي، بقدر ما هي عقبة أساسية بين تصورين للعالم؛ تصور أوروبي غربي يريد أن يحافظ على هيمنته معتمداً على القوانين الدولية التي وضعها بنفسه، وتصور جنوبي مضاد يريد إعادة ترتيب العالم. ويعتبر جوزيب بوريل هذه الازدواجية، بعد أن يقرّ بوجودها، هي ما تجعل الصراع في الشرق الأوسط والحرب في أوكرانيا مرتبطين ارتباطاً وثيقاً على الرغم من اختلاف طبيعتهما، قائلاً: "إذا كنا لا نريد أن نفقد موطئ قدمنا في جزء كبير من العالم، وإذا كنا نريد ألا يؤدي ما يحدث في غزة إلى إضعاف الدعم الذي تقدمه العديد من البلدان لأوكرانيا، وليس فقط الدول الإسلامية أو العربية، بل أيضاً دول أمريكا اللاتينية؛ يتعين علينا إذن أن ندافع عن مبادئنا ومصالحنا بطريقة أكثر توافقاً مع التصور الذي لدى بقية العالم".

كما تؤدي قضية تغير المناخ دور العقبة في أي تفاهم. وتستند بلدان الجنوب على أساس تاريخي في تبرئة نفسها من كارثة المناخ، فهي لم تسهم بشكل كبير في هذه المشكلة، إذ تمثل إفريقيا 3% فقط من الانبعاثات العالمية، وأمريكا اللاتينية نسبة صغيرة أيضاً. ومن ناحية أخرى، فإن أوروبا، وهي موطن الرأسمالية الصناعية تاريخياً، مسؤولة عن 20 إلى 25% من الانبعاثات. لذلك فإن الجنوب يشعر بوطأة التكاليف المرتفعة بسبب عدم قدرته على حماية نفسه من تغير المناخ، وكذلك بسبب الإرادة الغربية المناخية لإيقاف عجلة النمو في الجنوب العالمي. 

فيما تمثل قضية الهجرة عقبة أيضاً أمام التفاهم بين أوروبا والجنوب العالمي. فمن جهة بينما يسعى الأوروبيون إلى توسيع مجالات العولمة الاقتصادية بتحول قطاع واسع من دول الجنوب إلى مصنع للقارة الأوروبية والسماح بالحرية المطلقة للبضائع والأموال، يقومون في الوقت نفسه بتقييد حركة الأفراد من دول الجنوب، لأسباب يبدو أغلبها متعلقاً بنزعات عرقية وعنصرية ومخاوف ديمغرافية.

مسارات العلاقة:

إن الإدراك الذي يعبر عنه جوزيب بوريل ليس جديداً، بل أصبح مزاجاً عاماً في أوروبا. لقد أصبح الأوروبيون يدركون بشكل أو بآخر الحاجة إلى سد الفجوة التي انفتحت بينهم وبين الجنوب، إن لم يكن ذلك على أساس مبدئي، فالأرجح أن يكون قائماً على أسس مصلحية. فقد قررت قمة مجموعة السبع في أوكيناوا اتخاذ سلسلة من التدابير لصالح البلدان الأكثر ضعفاً. وأخذت فرنسا زمام المبادرة في شهر يونيو الماضي لعقد قمة حول ميثاق مالي عالمي جديد، بهدف إعادة توجيه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي نحو احتياجات الجنوب، سواءً فيما يتصل بالتنمية أم التحول المناخي. كما أطلق الاتحاد الأوروبي مشروع "البوابة العالمية"، في منافسة إلى حد ما مع "مبادرة الحزام والطريق" الصينية.

لكن هذه الجهود، على أهميتها، لا تبدو جذريةً بالقدر الكافي لتغيير معادلة العلاقة المضطربة بين أوروبا والجنوب، إذ تقف العلاقة بين الطرفين اليوم أمام مسارين؛ الأول: هو مُضي أوروبا في تحالفها التاريخي الأيديولوجي مع الولايات المتحدة، وبالتالي عدم التعامل مع الجنوب العالمي إلا من خلال الاستثمار في التناقضات والانقسامات داخل هذا الجنوب. وهو نهج أمريكي يحاول مثلاً: تعزيز العلاقات مع الهند في مواجهة الصين، وتمتين الروابط مع تركيا كقوى موازية لروسيا وإيران. وهذا المسار يمكن أن يحقق مكاسب، من بينها منع قيام تحالف جنوبي واسع وقوي. أما المسار الثاني: فهو النزوع نحو الاستقلال عن الموقف الأمريكي، وسلوك نهج مختلف يضمن علاقات ندية مع قوى الجنوب العالمي، وإعادة صياغة عقيدة جديدة للسياسة الخارجية.

بيد أن المعضلة الأساسية في كلا المساريين، ليست نتائجهما، بقدر ما هي إمكانية حصول إجماع أوروبي حول مسار موحد للسياسة الخارجية. إذ يعاني الاتحاد الأوروبي من طبيعته التنظيمية الكونفدرالية، التي تعطي الأولوية للحكومات الوطنية في تقرير سياستها الخارجية على حساب الهيئات الأوروبية الموحدة. فعلى سبيل المثال، عندما وصل المجلس الأوروبي إلى حد أدنى من الاتفاق بين الأوروبيين في مسألة الحرب على غزة، من خلال الإشارة إلى أن لإسرائيل "الحق في الدفاع عن نفسها بموجب القانون الدولي، مع المطالبة بهدنة إنسانية وليس وقف لإطلاق النار"، انقسمت الدول الأوروبية حول هذا القرار، عندما طُرح للتصويت في الأمم المتحدة، الأمر الذي أظهر الاتحاد في موضوع الضعف، وكأنه تابع للولايات المتحدة. فما زالت دول مثل: ألمانيا وبولندا ودول البلطيق، قوية التبعية للسياسة الخارجية الأمريكية، لأسباب تاريخية وأمنية متعلقة بالصراع مع روسيا. لذا فإن هذا الجناح الأوروبي القريب من واشنطن يمكن أن يشكل عقبة أمام أي إجماع أوروبي استقلالي لإعادة صياغة العلاقات مع الجنوب العالمي.

وقد لفت جوزيب بوريل، في وقت سابق، النظر إلى عقبة قاعدة الإجماع، التي تحولت إلى أكبر معضلة تنظيمية، بالقول: "ما هي قدرتنا على العمل بشكل جماعي في مواجهة الصراعات؟ نحن لسنا دولة ولسنا حتى اتحاداً للدول. إن سياستنا الخارجية والأمنية يتم تعريفها بالإجماع، مما يعني أن الأمر لا يتطلب سوى دولة واحدة لمعارضتها حتى لا نكون قادرين على التصرف. ومن الواضح أننا نواجه صعوبة في تحقيق مثل هذا الإجماع في مواجهة المشكلات المعقدة. نحن بحاجة إلى العمل بشكل مختلف حتى نتمكن من التصرف بسرعة وقوة كافية في هذه البيئة الخطرة. فإذا كان لدينا نظام تصويت بالأغلبية المؤهلة أو قاعدة لصنع القرار لا تتطلب الإجماع الكامل، فيمكننا تحريك الجانبين لإيجاد نقطة الالتقاء".