تصعيد أم تخفيف؟

حدود تأثير الكوارث الطبيعية في الصراعات المسلحة

31 January 2024


عرض: منى أسامة

شهد العام 2023 عدداً من الكوارث الطبيعية، كالزلازل في سوريا وتركيا وفيضان درنة في ليبيا، وحرائق الغابات في هاواي، بل من المتوقع أن يزداد تواتر وحجم الكوارث بسبب تغير المناخ والتوسع الحضري، واستمرار عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية. على الجانب الآخر، تعاني مناطق مختلفة حول العالم صراعات مسلحة. وأحياناً ما تجتمع هاتان الظاهرتان (الكوارث الطبيعية والصراعات المسلحة) في منطقة واحدة، مما يثير تساؤلاً عن مدى تأثير كلٍ منها في الأخرى، أي هل تحفز الكارثة السلام أم تزيد الأمر سوءاً؟

في هذا السياق، يقدم توبياس إيدي تحليلاً شاملاً للتفاعل بين الكوارث الطبيعية والصراعات المسلحة، من خلاله كتابه "الكوارث والمواجهات والقيود: كيف تشكل الكوارث ديناميات الصراعات المسلحة" والذي صدر في العام 2023. إذ يستكشف مدى قدرة الكوارث وتأثيرها في تصعيد الصراعات المسلحة أو تخفيفها، وكذلك الطرق والسياقات التي يستغل بها المقاتلون هذه الكوارث. ويجمع المؤلف في تحليله بين الأساليب الكمية والنوعية، وإجراء تحليل مقارن نوعي لـ36 دراسة حالة تتقاطع خلالها الكارثة الطبيعية مع الصراع المسلح الداخلي في دول إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا وأمريكا اللاتينية.

أوجه التأثير:

تمثل الكوارث الطبيعية والصراعات المسلحة تحدييّن كبيريّن ومدمريّن للبشرية في القرن الـ21، فمن ناحية ينجم عن الكوارث وفاة مئات الآلاف من البشر، علاوة على تدمير البنية التحتية وتفشي الأمراض والآثار الاقتصادية المدمرة. ومن ناحية أخرى، قدر برنامج أوبسالا لبيانات الصراع (UCDP) أنه منذ مطلع الألفية، مات أكثر من مليون شخص في معارك بين الجماعات المسلحة، علاوةً على تسبب الصراعات المسلحة في تدمير البنية التحتية وانعدام الأمن الغذائي والمائي، ونقص الخدمات العامة بسبب انعدام الأمن. وفي هذا الإطار، استنتج المؤلف أن هناك عدداً من السيناريوهات المحتملة حول تأثير الكوارث الطبيعية في استمرار وشدة الصراع المسلح داخل الدولة:

- قد تتصاعد الصراعات المسلحة بعد الكوارث بسبب تفاقم صعوبات الحياة أو "المظالم" عند السكان المتضررين، والتي تسهم بدورها في زيادة استعداد الأفراد للمشاركة في العنف.

- قد تؤدي الكوارث إلى زيادة التضامن بين السكان لأنها تمثل تهديداً مشتركاً، وتسهل بناء الهوية من خلال فكرة التأثر المشترك، وتحدد أولويات وأهداف وحوافز واضحة للعمل معاً.

- إذا أثرت الكارثة في البنية التحتية للمتمردين وقدمت الحكومة الإغاثة، فإن تحسين جمع المعلومات الاستخبارية من قبل وكالات الدولة قد يزيد من إضعاف المتمردين ويمهد الطريق لهجوم عسكري من قبل الحكومة.

- تسهم الأضرار الاقتصادية الناجمة عن الكوارث في إضعاف الحكومة والجماعات المتمردة مادياً وعسكرياً، مما يضطر الأطراف إلى الدخول في مفاوضات.

- قد تسبب انتقائية توزيع المساعدات بعد الكوارث زيادة العنف من قبل الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة بهدف تأكيد سيطرتها الإقليمية أو على الأقل قدرتها على ممارسة العنف في أماكن معينة.

- قد تعمل أطراف الصراع سواءً الحكومة أم المتمردون على كبح العنف بعد الكوارث لتحسين صورتها كفواعل موثوقة ومسؤولة، ومن ثم تعزيز فرص الحصول على دعم الجهات المانحة، ولاسيما إذا كانت هذه الجهات لديها سجل قوي في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان.

تقاطعات متبادلة:

عادةً ما تجعل الكوارث الظروف "العادية" متفاقمة، وعليه من الممكن أن تؤثر التطورات السريعة للكوارث في مستقبل الصراع، علماً بأن هناك عوامل هيكلية، وأخرى ديناميكية بشأن ذلك التأثير. بالنسبة للعوامل الهيكلية، فتجعل الدولة أكثر عرضة لتصعيد الصراع، ولا تتغير بمرور الوقت. فيما تحدث العوامل الديناميكية خلال فترات زمنية قصيرة نسبياً وتكون بمثابة محفزات أو مسببات لتصعيد الصراع.

من العوامل الهيكلية: الفقر (غالباً ما يكون لدى الفقراء قدرات محدودة للغاية للتعامل مع الكوارث والتعافي منها؛ مما قد يؤدي إلى مظالم أقوى وفرص تجنيد أفضل للجماعات المسلحة)، والديمقراطية (تجد الحكومات الديمقراطية صعوبة في إعطاء الأولوية للصراعات العسكرية ضد المتمردين مقابل استخدام الموارد والقوى البشرية (العسكرية) للإغاثة في حالات الكوارث)، والدولة القادرة (الدول التي تتمتع ببيروقراطية فعالة وجيش قوي عادة ما تكون قادرة على تعزيز التعاون والحد من المظالم بعد الكوارث).

بعد دراسة وتحليل 36 حالة شهدت تقاطعات بين الكوارث الطبيعية والصراعات المسلحة لبحث كيفية تأثير أو عدم تأثير الكوارث في ديناميكيات الصراع المسلح في مناطق مختلفة من العالم صنف المؤلف الحالات إلى ثلاثة أنماط بناءً على النتائج:

1) حالات تصاعد الصراع المسلح بسبب الكوارث، مثل: الصراع في بنغلاديش بعد إعصار غوركي في عام 1991 إذ تم قمع الاضطرابات المدنية، وتصاعد الصراع في كولومبيا في الأشهر الأولى من عام 1999 التي تلت الزلزال في هذا البلد، إذ ركزت الحكومة على جهود إعادة الإعمار بدلاً من تطويق المتمردين، كما تصاعد الصراع بين حكومة سريلانكا وحركة نمور تحرير التاميل في العام الذي أعقب كارثة تسونامي 2004، بسبب تأخر أموال إعادة الإعمار في الأجزاء الشمالية الشرقية من البلاد.

2) حالات تهدئة الصراع بسبب الكوارث، مثل: انخفاض ملحوظ في المواجهات العسكرية في بنغلاديش بعد إعصار سيدر عام 2007؛ نتيجة الانخفاض المؤقت في قوة الحكومة، ومساهمة الجفاف في بوروندي في عامي 2005 و2006 في إضعاف حزب تحرير شعب "الهوتو" وقدرته على تجنيد الأعضاء أو المواجهات المسلحة، كما استنفد زلزال إندونيسيا 2004 قدرات طرفي الصراع الحكومة والمعارضة ما دفعهما إلى وقف تصعيد الصراع والالتزام بمحادثات السلام. أيضاً فعقب إعصار نرجس 2008 في ميانمار، انخفضت حدة الصراع بين الحكومة واتحاد كارين الوطني بشكلٍ ملحوظ، نتيجة رغبة الحكومة في تعزيز صورتها لدى الخارج من خلال الحد من استهداف المدنيين في أعقاب الإعصار، كذلك تسبب الجفاف في الصومال في عامي 2010 و2011 في إضعاف قدرة الحكومة وحركة الشباب على مواصلة القتال والتجنيد بسبب تراجع الدعم الشعبي.

3) حالات عدم الترابط بين الكوارث والصراعات: لم يكن لزلزال 1998 أي تأثير في ديناميات الصراع بين حركة طالبان والجبهة الإسلامية المتحدة في أفغانستان، كما تسبب زلزال بومرداس بالجزائر 2003 في مظالم كبيرة لكن لم يكن له أي تأثير في ديناميات الصراع بين الحكومة والجماعة السلفية للدعوة والقتال، ولاسيما أن الجماعة لا تحظى بدعم شعبي في المنطقة المتضررة من الزلزال. كذلك، لم يكن هناك علاقة بين عملية السلام بعد الحرب الأهلية في مدينة آتشيه وزلزال مدينة يوجياكارتا في إندونيسيا في 2006 نظراً لتباعد المدينتين وبدء مسار السلام قبل الكارثة بالفعل.

عوامل حاكمة:

وفقاً لتحليل المؤلف تُعد الروابط بين الكوارث والصراعات المسلحة ليست حتمية أو أحادية الاتجاه، فعلى سبيل المثال، لم تؤثر الكوارث الطبيعية في ديناميات الصراع المسلح إلا في نصف الحالات التي تم رصدها، في حين توزع النصف الآخر بين تصاعد الصراع (25%) وتهدئة التصعيد (25%)، ولفت التحليل إلى أن هناك أربعة عوامل حاكمة تجعل الكوارث غير مؤثرة في الصراعات المسلحة هي: 1) أن تكون الدوافع العسكرية والسياسية والاقتصادية لديناميات الصراع أكثر أهمية من الكارثة لدى طرفي الصراع. 2) موقع الكارثة بعيداً نسبياً عن المناطق ذات الصلة بالصراع. 3) لم تستنزف الكارثة موارد أطراف الصراع بشكل كبير. 4) عدم قدرة أطراف الصراع على استغلال الفرص، أو الاستفادة من المظالم الشعبية.

في سياق متصل، ربط المؤلف بين نوع الكارثة وقدرتها على التأثير في ديناميات الصراع، فالكوارث سريعة الحدوث مثل، الزلازل لا تترك للمجتمعات وقتاً للاستعداد، وهو ما قد يؤدي إلى عدد أقل من المظالم، وتأثيرات سلبية أقوى. فكثيراً ما تسبب الكوارث سريعة الحدوث دماراً فورياً وواسع النطاق، مما يؤدي إلى قدر كبير من الاهتمام على المستويين الوطني والدولي للحد من استخدام المجتمعات للعنف لتعزيز صورتها أمام العالم من خلال الامتناع عن استخدام العنف. أما الكوارث البطيئة الظهور مثل، الجفاف فهي تمنح أطراف الصراع مزيداً من الوقت للاستعداد للكارثة والتعامل معها، وعدم توافر الرغبة في تحسين الصورة وبالتالي إمكانية استمرار الصراع أو تصعيده.

هناك أيضاً حالة تفسر زيادة حدة الصراع المسلح بعد الكوارث، إما أن تظل الجماعة المتمردة غير متأثرة بالكارثة، وتستغل ضعف القوات الحكومية الناجم عن الكارثة، أو أن تكثف الجماعة المتمردة أنشطتها كرد فعل على مظالم السكان المتضررين من الكارثة، وهو ما يقابل بمقاومة من دولة قادرة. على النقيض من ذلك، يحدث خفض تصعيد الصراع، عندما تضعف الكارثة أحد أطراف الصراع ويعجز الطرف الآخر عن استغلال هذا الضعف، إما بسبب الافتقار إلى القدرات أو لأنه تحت المراقبة الدقيقة من قبل جمهور دولي. وأخيراً، فالكوارث ليست المحرك الوحيد ولا الأكثر أهمية عادة للتغيرات في ديناميات الصراع المسلح. بل إنها تتقاطع مع نطاق واسع من التطورات السياسية والاقتصادية داخل الدولة.

تداعيات "كوفيد19":

لم يكن لوباء "كوفيد19" تأثير كبير في ديناميات الصراع في بعض الحالات مثل: الصراع بالفلبين، لكنه أدى إلى تصعيد القتال في دول مثل العراق، وتراجعه في دول أخرى مثل أفغانستان. ويدلل ذلك على أهمية تحليل تقاطع الوباء مع استجابات السياسات الوطنية والمحلية، والظروف الاجتماعية والاقتصادية الموجودة مسبقاً، وطبيعة ونيات أطراف الصراع.

ويختتم المؤلف تحليله بأن الكوارث لا تؤدي إلى معاناة إنسانية فحسب، بل تسهم في كثير من الأحيان في تصعيد الصراع المسلح أيضاً. وعلى النقيض، نادراً ما تسهل الكوارث أشكالاً إيجابية وطويلة الأمد من السلام. فهي غالباً ما تؤدي إلى بعض التضامن قصير الأجل، وعادةً لا يترجم هذا إلى انخفاض حدة الصراع. مع ذلك، وفي ظل ظروف معينة، تفرض الكوارث قيوداً على أطراف الصراع، وبالتالي تحفز على انخفاض شدة الصراع على المدى القصير. ويمكن استخدام هذه الحالات، كفرصة لإيصال المساعدات الإنسانية وبدء المفاوضات. ويمكن للباحثين دعم مثل هذه العمليات والمساعدة على تخفيف المخاطر المرتبطة بها من خلال تعزيز فهم العلاقة بين الكوارث والصراعات.

المصدر:

Tobias Ide, Catastrophes, confrontations, and constraints: How disasters shape the dynamics of armed conflicts, The MIT Press. 2023.