الردع المحدود:

رسائل الضربات الأمريكية والبريطانية ضد الحوثيين

17 January 2024


رسم توجيه الولايات المتحدة وبريطانيا ضربات جوية لأهداف حوثية في 5 محافظات يمنية، الخطوط العريضة للاستراتيجية الأمريكية والغربية للتعامل مع تنفيذ الحوثيين أكثر من 27 هجوماً على السفن التجارية المبحرة في البحر الأحمر منذ 19 نوفمبر 2023، إذ استهدفت الولايات المتحدة وبريطانيا مصادر التهديد الحوثي للملاحة الدولية في مضيق باب المندب وجنوب البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب.

وعلى الرغم من أن الضربات التي استهدفت 5 محافظات يمنية كانت محدودة، ولم تخلف وراءها عدداً كبيراً من الضحايا، فقد أوضحت المدى الذي يمكن أن تذهب إليه واشنطن وحلفاؤها الغربيون في التعامل مع استهداف الحوثيين للسفن التجارية والحربية في المنطقة، الأمر الذي يؤكد أن البيت الأبيض يريد تثبيت "معادلة جديدة" لا تتعلق فقط بالحوثيين، بل أيضاً بأتباع إيران في المنطقة بدايةً من سوريا والعراق، وصولاً إلى حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن. فما الخطوط العريضة لهذه الاستراتيجية الأمريكية تجاه الحوثيين والبحر الأحمر؟

ضغوط للرد:

تعرضت إدارة الرئيس جو بايدن منذ 19 نوفمبر الماضي لضغوط هائلة لعدم ردها على التصعيد الحوثي وهجماته في الفترة الأخيرة. وقد بدأت هذه الهجمات باستهداف مدينة إيلات جنوب إسرائيل، وتطورت إلى الهجوم بعد ذلك على السفن التجارية، واحتجاز السفينة "غالاكسي ليدر" في 20 نوفمبر الماضي، وصولاً إلى أكبر هجوم حوثي على السفن التجارية والعسكرية في 9 يناير الجاري باستخدام نحو 21 طائرة مُسيَّرة، وصواريخ مجنحة وصواريخ "كروز"، وهو الهجوم الذي وصفته وزارة الدفاع الأمريكية بـ"الأكثر تعقيداً" من جانب الحوثيين منذ بداية هجماتهم بداعي وقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. 

وشكّل هجوم 9 يناير الجاري نقطة تحول في رؤية الإدارة الأمريكية لتصعيد الحوثيين، فحتى الأسبوع الأول من شهر ديسمبر الماضي كانت واشنطن تدفع بأن هجمات الحوثيين لا تستهدف السفن العسكرية الأمريكية أو الغربية، وأن جميع الطائرات المُسيَّرة والصواريخ المجنحة التي أطلقوها على إيلات أو السفن التجارية تم إسقاطها بالكامل، ومن ثم لا توجد حاجة إلى اتخاذ إجراءات إضافية للتعامل مع الحوثيين، خصوصاً أن إدارة الرئيس بايدن سبق لها رفع اسم مليشيا الحوثيين من القائمة الأمريكية للجماعات الإرهابية في 12 فبراير 2021، أي بعد أقل من أسبوعين فقط على دخول بايدن البيت الأبيض في 20 يناير من نفس العام.

استراتيجية واشنطن:

بعد القصف البحري والجوي الأمريكي والبريطاني والمدعوم من كندا وأستراليا وهولندا ضد الحوثيين في 12 و13 يناير الجاري، يمكن تحديد الخطوط العريضة للاستراتيجية الأمريكية في التعامل مع الحوثيين وأمن البحر الأحمر، في مجموعة من المسارات التالية:

1- البناء على الأصول العسكرية القائمة: لن تحتاج الولايات المتحدة إلى مزيد من الجهد والعمل للتصدي للحوثيين، فهي تقود منذ نحو عقدين أكبر تحالف بحري في العالم وهو "القوة البحرية المشتركة" (The Combined Maritime Forces) التي تأسست عام 2002 تحت مظلة الأسطول الخامس الأمريكي الذي يتخذ من البحرين مقراً له. وتضم هذه القوة، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، نحو 38 دولة أخرى، ويغطي مجال عملها مساحات شاسعة تصل إلى نحو 3.2 مليون كم من سواحل الهند شرقاً حتى البحر الأحمر غرباً. وتتمثل الأهداف المُعلنة لتلك القوة البحرية العملاقة في مكافحة المخدرات والتهريب، وقمع القرصنة، وتشجيع التعاون الإقليمي، والمشاركة مع الشركاء الإقليميين في تعزيز القدرات الأمنية والبحرية من أجل تحسين الأمن والاستقرار، وتعزيز بيئة بحرية آمنة، وذلك بهدف تحقيق مبدأ التدفق الحر للتجارة.

ولتحقيق هذه الأهداف، أسست الولايات المتحدة عدداً من فرق العمل البحرية التي تعمل جميعها تحت مظلة الأسطول الخامس الأمريكي، والقوة البحرية المشتركة، ومنها:

أ- القوة "سي تي أف 150"، التي تعمل خارج مياه الخليج في المحيط الهندي وبحر العرب، وقرب الساحل الشرقي لإفريقيا. 

ب- القوة "سي تي أف 151"، ويقوم عملها على مواجهة القراصنة ومنع حركة الشباب الإرهابية من تهريب الفحم إلى الخارج، وهو المصدر الرئيسي لتمويل عمليات الحركة في الصومال وإفريقيا.

ج- القوة "سي تي أف 152"، التي تهتم بالحفاظ على الأمن في المياه الدولية للخليج العربي، وأدت هذه القوة دوراً كبيراً في منع سيطرة الزوارق البحرية الإيرانية على كثير من السفن التي تمر بالقرب من مضيق هرمز. 

د- القوة "سي تي أف 153"، وهي أحدث المهام البحرية التي أسستها الولايات المتحدة لحماية الأمن في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن، وتم الإعلان عنها في 12 إبريل عام 2022، وتضم 39 دولة، وهدفها الرئيس تحسين الأمن البحري في جنوب البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن. واقتصر عمل هذه القوة منذ تأسيسها على الزوارق الصغيرة، ومكافحة القراصنة والمهربين، ولم تكن جاهزة لمواجهة الطائرات المُسيّرة الحوثية أو التعامل مع الصواريخ البالستية والمجنحة، ومن هنا جاء التفكير الأمريكي في تأسيس قوة "حارس الازدهار". 

2- تشكيل قوة "حارس الازدهار": فاجأ وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، الجميع خلال زيارته الأخيرة للشرق الأوسط، عندما أعلن في 18 ديسمبر الماضي عن قوة بحرية جديدة منبثقة من قوة العمل البحرية "سي تي أف 153"، أطلق عليها "حارس الازدهار"، ويتركز مجال عملها مثل القوة "153" على الأمن البحري في جنوب البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن. 

لكن "حارس الازدهار" تختلف عن القوة "153" في عدد من النقاط، وهي أن الدول الأعضاء فيها لا تزيد عن 20 دولة، وليس 39 دولة كما هو الحال في القوة "153"، كما أن غالبية الدول المشاطئة للبحر الأحمر ودول مجلس التعاون الخليجي لا تشارك فيها باستثناء البحرين التي تستضيف الأسطول الخامس الأمريكي. كذلك فإن أبرز ما يميز قوة "حارس الازدهار" هو أن لها أدوات عسكرية مختلفة عن القوة "153"؛ لأنها جاءت رداً على هجمات الحوثيين، ولهذا فهي تحتاج إلى سفن وفرقاطات تستطيع إسقاط الطائرات المُسيّرة والصواريخ الحوثية. وتعمل قوة "حارس الازدهار" على طمأنة السفن التجارية ومرافقتها أثناء المرور في باب المندب، ومنع أي محاولات جوية أو بحرية للسيطرة عليها، واعتراض المقذوفات الجوية أو الصاروخية التي يتم توجيهها نحو سفن الشحن المتحركة في نطاق مضيق باب المندب.

3- "الردع المحدود" دون توسيع الحرب: لجأت الولايات المتحدة لتكرار سيناريو "الردع المحدود"، الذي تنفذه ضد أذرع إيران في العراق وسوريا، مع الحوثيين عندما قرر الرئيس جو بايدن الرد على مصادر النيران الحوثية في محافظات يمنية مثل: الحديدة وتعز وذمار وصعدة وصنعاء. لكن ربما حرص البيت الأبيض في نفس الوقت على أن تكون هذه الضربات "مجرد رسالة" للحوثيين، وتأكيد جديد بعدم رغبة واشنطن في توسيع دائرة الحرب عبر مجموعة من الخطوات، وهي كالتالي: 

أ- إشارة تقارير إلى أنه تم إبلاغ الحوثيين مسبقاً بأن الولايات المتحدة وبريطانيا ستستهدفان مجموعة من مراكز الاستطلاع البحري ومراكز القيادة وورش تصنيع الطائرات المُسيّرة في اليمن قبل تنفيذ العملية بنحو 8 ساعات كاملة، وهو ما سمح للحوثيين بترك هذه المواقع، ونقل المعدات الثمينة من هناك، إذ جرى نقل الصواريخ البالستية إلى مناطق في داخل صنعاء ذات كثافة سكانية عالية لم تستهدفها الطائرات والبوارج الأمريكية والبريطانية. 

ب- توجيه الضربات في ساعات الفجر الأولى تجنباً لسقوط مدنيين، ولهذا فإنه بالرغم من إطلاق نحو 150 صاروخاً ومقذوفاً ضد مناطق الحوثيين، لم يسقط إلا 5 قتلى و6 مصابين. 

ج- توجيه ضربات لقواعد عسكرية أوضحت صور الأقمار الاصطناعية أنها بالفعل كانت فارغة منذ فترة طويلة، مثل "قاعدة الدليمي" قرب مطار صنعاء، والتي أكدت صور الأقمار الاصطناعية أنه تم تحييدها منذ فترة طويلة على يد طائرات التحالف العربي لاستعادة الشرعية في اليمن. 

4- استغلال قرار مجلس الأمن (2722): ترى الولايات المتحدة في قرار مجلس الأمن رقم 2722، الصادر في 10 يناير الجاري، بأغلبية 11 دولة وامتناع 4 دول فقط عن التصويت، تفويضاً لحماية الملاحة البحرية من هجمات الحوثيين. إذ أثنى القرار على الجهود التي تبذلها الدول الأعضاء - في إطار المنظمة البحرية الدولية- لتعزيز سلامة السفن التجارية وسفن النقل من جميع الدول ومرورها بأمان عبر البحر الأحمر. كما شجع على مواصلة الدول الأعضاء بناء وتعزيز قدراتها، ودعمها لبناء قدرات الدول الساحلية ودول الموانئ في البحر الأحمر وباب المندب بهدف تعزيز الأمن البحري. وهو ما يمكن وصفه بتفويض غير مباشر من جانب القرار للقيام بعمليات عسكرية ضد الحوثيين. كذلك أكد القرار مبدأ "الدفاع عن النفس"، الذي استندت إليه الولايات المتحدة وبريطانيا لتوجيه ضربات ضد الحوثيين. 

5- استخدام أسلحة فتاكة ودقيقة: لعل استخدام واشنطن ولندن لأسلحة فتاكة ضد الحوثيين هو رسالة بأن الولايات المتحدة تمتلك أصولاً عسكرية فتاكة في المنطقة. لهذا استخدمت على نطاق واسع في تلك الضربات، صواريخ "توماهوك"؛ وهي صواريخ "كروز" بعيدة المدى تُستخدم في الحروب البرية العميقة، ويتم إطلاقها من السفن السطحية والغواصات الأمريكية والبحرية الملكية البريطانية، وجرى استخدامها لأول مرة في عملية "عاصفة الصحراء" عام 1991، وحققت نجاحاً هائلاً. كما تمت الاستفادة من حاملة الطائرات "يو أس أس فلوريدا"؛ وهي واحدة من أربع غواصات تعمل بالطاقة النووية، وتستطيع أن تحمل 154 صاروخ "توماهوك". علاوة على استخدام القوات البريطانية طائرات "تايفون" العملاقة في الهجمات. وهي كلها أدوات تبعث برسائل للحوثيين بضرورة عدم التصعيد في مواجهة الولايات المتحدة وبريطانيا والسفن التجارية في البحر الأحمر.

6- رسالة لروسيا والصين: يُعد توجيه ضربة أمريكية وبريطانية للحوثيين بمثابة رسالة لكل من روسيا والصين؛ على اعتبار أن بكين حاولت أن توجد في المياه الدولية للبحر الأحمر خلال الفترة الأخيرة، كما سعت موسكو لبناء قاعدة عسكرية في مدينة بورتسودان في عهد الرئيس السوداني السابق، عمر البشير. ومن ثم تأتي هذه الضربات لتحمل رسالة مفادها أن الولايات المتحدة موجودة في الممرات البحرية بالإقليم، وأنها وحلفاءها لن يغادروا الشرق الأوسط، وأن واشنطن تدافع عن حرية الملاحة في البحر الأحمر كما تدافع عنها في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي.

ختاماً، يمكن القول إن الانخراط نحو عسكرة البحر الأحمر قد يقود إلى تداعيات سلبية على الممر الملاحي الدولي الذي أثبتت تلك الأحداث حيويته للاقتصاد العالمي، وهو ما يدعو إلى إمكانية التفكير مجدداً في إحياء بعض المبادرات الإقليمية، وذلك حتى يمكن مجابهة الأخطار الحالية والمستقبلية سواءً أكانت تلك التحديات متوقعة أم طارئة.