التآزر المناخي:

شروط تخليص المدن الأوروبية من انبعاثات الكربون

02 January 2024


عرض: هند سمير

في مواجهة تغير المناخ وآثاره السلبية، تبنت 197 دولة اتفاق باريس في ديسمبر 2015. ودخل الاتفاق حيز التنفيذ بعد أقل من عام، وهدف إلى الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وتخفيض درجة الحرارة العالمية، كما تضمن التزامات من جميع الدول بخفض انبعاثاتها والعمل معاً للتكيف مع آثار تغير المناخ. وبموجب هذا الاتفاق، أصبحت المدن تقف على خط المواجهة لتمكين الحكومات من الوفاء بالتزاماتها. 

فعلى الرغم من أن المدن تشغل 2% فقط من سطح الأرض، فإنها موطن لما يقرب من 50% إلى 60% من سكان العالم (70% بحلول عام 2050 وفقاً للأمم المتحدة)، وتستحوذ على ثلثي استهلاك الطاقة في العالم، وتصدر 80% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. لذلك، تم الاعتراف مؤخراً بالدور المركزي للمدن في التكيف وتخفيف آثار تغير المناخ.

في هذا الإطار، يناقش تقرير لسيسيل ميزونوف، بعنوان "تخليص مدن أوروبا من الكربون: كيفية التسريع وبناء التآزر؟" صادر عن المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في العام 2023، كيفية تقليل انبعاثات الكربون في المدن الأوروبية وتعزيز التعاون بين مختلف الأطراف. كما يسلط الضوء على الحاجة الملحة للتخلص من الانبعاثات الضارة واعتماد سياسات مبتكرة للوصول إلى أهداف الاستدامة، وصولاً إلى أبرز التحديات التي تواجهها المدن مع اقتراح حلول عملية لتعزيز عملية التحول نحو المدن الصديقة للبيئة والمستدامة في أوروبا. 

ويُشدد المؤلف على أهمية العمل الجماعي والتكنولوجيات الابتكارية ومشاركة المجتمع والأُطر السياسية التي قد تسرع من عملية التخلص من الكربون مع تعزيز التآزر بين مختلف القطاعات وأصحاب المصلحة.  

المدن وتغير المناخ: 

في عالم يتوسع حضرياً بسرعة مذهلة، تؤدي المدن دوراً متزايد الأهمية في تغير المناخ، إذ تتولد انبعاثات هائلة من ثاني أكسيد الكربون عن طريق المباني والتنقل. مع ذلك، فقد جاءت مشاركة المدن وفهمها لتغير المناخ على المستوى الدولي متأخرة. ولم يتم الاعتراف بها كفواعل رئيسية في مكافحة تغير المناخ إلا مؤخراً. فقد كان يتم تهميشها لفترة طويلة في المنتديات الدولية لصنع القرار والتفكير بشأن تغير المناخ. وعلى نحو مماثل، لا تهتم تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، بالمدن إلا قليلاً نسبياً باعتبارها جهات فاعلة في تغير المناخ ومكافحته، ويُنظر إليها عموماً على أنها مناطق تتزايد فيها المخاطر المرتبطة بعواقب تغير المناخ.

مع ذلك، تلقت المدن الدعم من خلال البحوث التي تهدف إلى فهم أفضل للصلة بينها وبين المناخ، فضلاً عن إنشاء شبكات حضرية عابرة للحدود. فمنذ بداية الألفية الجديدة، قامت المدن والبلدات في جميع أنحاء العالم بوضع قضية المناخ على جداول أعمالها. وفي هذا الصدد، ظهرت المبادرات الأولى للحد من الانبعاثات في هلسنكي عام 2002، وكوبنهاغن عام 2009، وريو دي جانيرو (قانون المناخ والتنمية المستدامة للبلديات) عام 2011، ومينيابوليس عام 2013، وبورتلاند (خطة العمل المناخية لعام 2015). وبالطبع، أعطى توقيع اتفاقية باريس في 2015 دفعة إيجابية لهذه المبادرات.

ولأنها غير مندمجة بشكلٍ كامل في الديناميكية الدولية للمفاوضات والأبحاث، تحاول المدن تنظيم نفسها في شبكات لمكافحة تغير المناخ، مما ساعد على خلق قوة ناعمة تتحدى القوة الصارمة للقنوات الدبلوماسية التقليدية. وتؤدي هذه الشبكات الآن دوراً مهماً؛ وفي السنوات العشرين بين عامي 1995 و2015، تضاعف عددها، فأصبح هناك لجنة المدن الأربعين (C40)، والمجلس الدولي للمبادرات البيئية المحلية، وتحالف المدن المحايدة للكربون (CNCA)، وميثاق رؤساء البلديات، ومدن الطاقة، ومنصة مسارات 2050، وغيرها، والقاسم المشترك بينها هو أنها تمكن المدن من تحديد أهداف مناخية مشتركة تكون غالباً أكثر طموحاً من الأهداف الوطنية أو الدولية، كما يتم تبادل الأفكار ضمن إطار رسمي لتحقيقها.

عند النظر إلى الحياد الكربوني لمدينة ما، يضاف البُعد الجغرافي إلى البُعد الزمني، وتحدد لجنة المدن الأربعين نهجين لقياس ذلك الحياد، الأول: قائم على القطاع ويأخذ في الاعتبار ما ينبعث مباشرة داخل المحيط الجغرافي للمدينة، في حين يأخذ النهج الآخر القائم على الاستهلاك في الاعتبار الانبعاثات التي تكون المدينة "مسؤولة عنها"، أي الانبعاثات المرتبطة بكل شيء مستهلك داخل أراضي المدينة.

من ثمَّ، يمكن القول إن المدن تؤدي دوراً حيوياً في تحقيق التغيير نحو إدارة الكربون والمحافظة على البيئة. إلا أن فهم الأثر الفعلي للمدن على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ينطوي على تحديات منهجية معقدة. ولقياس هذا الأثر، يجب أخذ العديد من العوامل بعين الاعتبار، مثل حجم السكان وأنماط الاستهلاك ومصادر الطاقة والبنية التحتية والسياسات المحلية. وتعتمد طريقة القياس والمنهجية المستخدمة على مدى دقتها في التحليل الشامل والموضوعي لهذه العوامل مجتمعة.

كما أن الدراسات قد تواجه العديد من التحديات المنهجية مثل، جمع وتحليل البيانات الضخمة، وتقدير الانبعاثات من مصادر غير معروفة. كذلك، تختلف المنهجيات والأدوات المستخدمة بين البلدان والمدن، مما يجعل المقارنة بين الدراسات والتحليلات إحدى أبرز التحديات. وتتطلب هذه التحديات جهوداً مستمرة لتحسين الأساليب المنهجية وتطوير الأدوات والتقنيات لقياس الانبعاثات بشكل أدق ومقارنة المدن بشكل أكثر فعالية. 

شروط أساسية:

التزمت معظم المدن بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري داخل حدودها بنسبة لا تقل عن 80% بحلول عام 2050، وذلك تماشياً مع الرأي العلمي. وإلى جانب هذه الاستراتيجية الشاملة، تركز خطط عمل المناخ في معظم المدن على أهداف وسيطة ذات آفاق زمنية أقصر نسبياً، مثل 2020 أو 2030، مصحوبة بأهداف تقليل تدريجية بنسبة 20% إلى 30%، وفي حين أن الطريق إلى إزالة الكربون مليء بالشكوك، ففي حالة المدن هناك قدر إضافي من عدم اليقين، وهو تأثير القرارات التي تتخذها مستويات الحكم الأخرى، وخاصة الدولة. 

وتُعد الشروط الفعّالة لمكافحة التغير المناخي في البيئة الحضرية أمراً حيوياً، خاصة مع التنوع الهائل في أنماط المدن وهياكلها وحجمها وأنماط الاستخدام الأرضي وأساليب النقل ومصادر الطاقة المستخدمة حول العالم. من هنا، يكمن التحدي في ضمان أن الخطط والسياسات البيئية مرنة ومتكيفة مع تلك التنوعات المختلفة، مما يتطلب دراسات دقيقة ورصداً مستمراً للتغيرات، كما أن تحقيق العمل الفعّال يتطلب مشاركة الجميع؛ بما في ذلك السكان المحليين والقطاع الخاص والحكومات المحلية. 

تمثل أيضاً كيفية الانتقال من نهج تدريجي إلى تحويلي تحدياً آخر. يتضمّن ذلك الانتقال من الجهود التي تعمل على تخفيض الانبعاثات إلى استراتيجيات أكثر جرأة وشمولية، وبدلاً من التركيز على إنتاج الطاقة، وهو ما سيكون له تأثير محدود، فمن مصلحة المدن الأوروبية أن تركز على أداتي العمل الأهم، ألا وهما كفاءة الطاقة والتنقل. وفي السياق الأوروبي، فإن مسألة معالجة النفايات واستعادتها تتم تغطيتها بشكل جيد للغاية من خلال اللوائح والجهات الفاعلة العامة والخاصة.

في ضوء هذه التحديات البيئية المتنوعة، تشمل الخطوات التحويلية تعزيز الابتكار وتنمية البنية التحتية المستدامة وتعاون الشركاء، إنها استراتيجية تركز على الابتكارات الجديدة والتكنولوجيا النظيفة للتحول نحو استدامة أعمق وأكثر جدوى، ويتضمن هذا التحول أيضاً إعادة النظر في السياسات والقوانين لدعم التغييرات الجذرية، كما تتطلب عملية التحول تشاركاً فعّالاً للمجتمع المحلي والقطاع الخاص والجهات الحكومية. 

أساليب الشراكة: 

يمكن استخلاص درسين أساسيين من تجربة سياسات التنقل التي تم تنفيذها في المدن الأوروبية على مدى العقود الثلاثة الماضية، أولاً، أن التدابير المعزولة التي غالباً ما تكون محور التواصل والتسويق الإقليمي، لا تؤتي ثمارها. فالنطاق المناسب للعمل العام هو المفتاح. وفي هذا الصدد، هناك حاجة ملحة لوضع سياسات ركوب الدراجات في إطار أوسع كجزء من سياسات التنقل الشاملة. ثانياً، إن الذي يجب تعلمه من هذه التجارب يتعلق بمسألة الشراكات بين أصحاب المصلحة، إذ تتطلب سياسات إزالة الكربون في المناطق الحضرية نهجاً تحويلياً وليس تدريجياً، يجمع بين النقل والإسكان والأنشطة البشرية (الترفيه والعمل). ونتيجة لذلك، فإنها تتطلب اتباع نهج شراكة طويلة الأجل من أجل ضمان القبول السياسي والاجتماعي لدى لمواطنين المعنيين.

أما عن مسألة نطاق العمل، فلا ينطبق هذا على النطاق الحضري فقط، ولكن أيضاً على النطاق العالمي. وفي مواجهة المطالب المتزايدة بالعدالة المناخية، يتعين على المدن الأوروبية، مثل دول نصف الكرة الشمالي، أن تقوم بدورها في هذا المجال من خلال مبادرات التعاون التنموي والتوأمة اللامركزية.

ويتمثل التحدي الرئيسي في كيفية دعم المدن الناشئة في جهودها للتخلص من الكربون والتأقلم مع آثار التغيرات المناخية، إذ يمكن لمدن أوروبا أن تقدم خبراتها ومعارفها في مجالات، كالتخطيط الحضري المستدام وتبني تكنولوجيا الطاقة المتجددة، كما ينبغي الموازنة بين الإنفاق على كفاءة استخدام الطاقة في المباني والعدالة الاجتماعية في المدن الأوروبية، والعدالة المناخية في المدن الواقعة في نصف الكرة الجنوبي.

ختاماً، إن التحدي الذي تواجهه المدن في عملية التخلص من الكربون يتطلب جهوداً جماعية وشراكات فعّالة، ومن المهم تسريع عملية الحدّ من الانبعاثات والانتقال إلى مدن خضراء، وإدراك أن ذلك يتطلب خطوات فورية واستراتيجيات جريئة، ويمكن للمدن الأوروبية، بتجاربها وتكنولوجياتها المتقدمة، أن تؤدي دوراً حاسماً في دعم المدن الناشئة في جهودها للتحول إلى استخدام الطاقة المستدامة والتخلص من الانبعاثات الضارة، كما أنه من المهم تحقيق العدالة المناخية؛ والتي تعني توفير الدعم للمجتمعات الأكثر تأثراً بالتغيرات المناخية، سواءً عبر الدعم المادي أم تقديم المعرفة والتقنيات. 

إن التزام مدن أوروبا بالعدالة المناخية يمكن أن يكون نموذجاً للتعاون الدولي الفعّال من أجل مستقبل أكثر استدامة وعدالة للجميع، كل هذا يجب أن يتم من خلال التواصل مع المواطنين وتشجيع المشاركة الشعبية، إذ يجب توضيح فوائد هذا التحول وضرورته وتشجيع المشاركة الفعّالة للجمهور لضمان قبول السياسات البيئية والاقتصادية التي تهدف إلى خلق مدن أوروبية خضراء وصحية.

المصدر:

Cécile Maisonneuve, “Decarbonizing European Cities: How to Speed Up and Build Synergies?”, Notes de l’Ifri, Ifri, novembre 2023.