فجوة "الجنوب":

البنك الأخضر.. هل يحل أزمة تمويل المناخ؟

02 January 2024


عرض: منى أسامة

أظهرت قمة المناخ في دبي "كوب28" في الفترة بين 30 نوفمبر و12 ديسمبر 2023 اتجاهاً عالمياً لتوسيع نطاق التكنولوجيا الخضراء والانتقال إلى الطاقة النظيفة وزيادة الهيدروجين الأخضر والتحول بعيداً عن الوقود الأحفوري، وذلك ضمن الجهود الدولية الرامية إلى مواجهة أزمة التغير المناخي. إلا أن نجاح هذه الجهود يتطلب توفير تريليونات الدولارات على مدى العقود القليلة المقبلة، وهو ما لا يتناسب مع القدرة التمويلية المحلية المحدودة لدى دول الجنوب العالمي.

في هذا السياق، تطرح جايانت سينها في ورقتها البحثية "البنك الأخضر لتمويل المناخ في الجنوب العالمي"، والمنشورة في مؤسسة أوبزرفر للأبحاث في العام 2023، عدداً من الحلول التمويلية المبتكرة لحل أزمة تمويل قضايا المناخ بدول الجنوب والوصول بصافي انبعاثات الغازات الدفيئة إلى أقرب مستوى ممكن من الصفر، وفي المقابل امتصاص الانبعاثات المتبقية من الغلاف الجوي.

وتعاني دول الجنوب العالمي نقص رأس المال، وبالتالي تعتمد معظم شركات تلك الدول على رأس مال الشمال العالمي لتمويل استثماراتها. لذا، تقترح الورقة تدشين "البنك الأخضر العالمي"، للتغلب على فجوات السوق التي تعوق تدفقات رأس المال من الشمال العالمي. 

تمويل إزالة الكربون:

ترتبط سياسات تخفيف أو إزالة الكربون بقطاعات عِدة أهمها، الطاقة والنقل والمواد الكيميائية وصناعات الأغذية. ويتيح استثمار دول الجنوب في التكنولوجيات منخفضة الكربون تنمية الناتج المحلي الإجمالي جنباً إلى جنب مع العمل على الحد من تلوث الهواء والقضايا المناخية المزمنة. لكن في المقابل تحتاج مؤسسات الجنوب العالمي، بما في ذلك الشركات الكبيرة، والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والشركات الناشئة إلى تريليونات الدولارات لتنفيذ صافي الانبعاثات الصفري المطلوب. 

بناءً عليه، من الأهمية بمكان زيادة تدفقات رأس المال من دول الشمال العالمي، بما في ذلك الاستثمار الأجنبي المباشر من الشركات، وصناديق رأس المال الاستثماري/ الأسهم الخاصة، والبنوك التجارية، وتمويل التنمية، والمستثمرين في السوق العامة، إلى دول الجنوب العالمي من أجل قضايا المناخ.

ويبلغ التمويل حالياً حوالي 300 مليار دولار سنوياً، وتُعد هذه التدفقات الرأسمالية تمويلاً لديون منخفضة المخاطر مع توفر رأس مال محدود معرض للخطر. مع ذلك، تشير الورقة البحثية إلى أن دول الجنوب العالمي (باستثناء الصين) سوف تحتاج إلى ما لا يقل عن 300 إلى 400 مليار دولار من استثمارات القطاع الخاص الإضافية كل عام للوصول إلى "صافي الانبعاثات الصفري" بحلول منتصف القرن الحالي. 

تقييم بنوك التنمية: 

تؤدي بنوك التنمية المتعددة الأطراف (MDB) مثل: مجموعة البنك الدولي وبنك التنمية الإفريقي دوراً رئيسياً في حشد التمويل من القطاع الخاص من أجل تمويل الأنشطة المناخية الهادفة إلى الحد من الانبعاثات الضارة وإبطاء الاحتباس الحراري في دول الجنوب، لكن هناك بعض التحديات في هذا المجال، منها:   

• الاستقرار الاقتصادي وانخفاض قيمة العُملة: تعاني غالبية الأسواق الناشئة من تقلب سعر صرف عملاتها المحلية مقابل عملات مجموعة دول السبع الصناعية المتقدمة (G7)؛ مما يثير قلق المستثمرين بشأن الانخفاض المتوقع في قيمة العملات بسبب فروق معدل التضخم، والاستقرار الاقتصادي الكلي الشامل. لذلك يطالب المستثمرون بعوائد باهظة وأقساط كبيرة لحماية أنفسهم من هذه الخسائر.

• النظام البيئي الريادي الناشئ: يُعد النظام البيئي لرأس المال الاستثماري سوقاً ناشئة في معظم دول الجنوب العالمي، ونتيجة لذلك لا يستطيع رواد الأعمال جمع ما يكفي من رأس المال أو تمويل الديون بأسعار معقولة. وكثيراً ما يكون رأس المال المحدود المتاح بشروط عقابية بحيث يقرر رواد الأعمال ببساطة عدم بدء أعمالهم التجارية أو توسيع نطاقها، مما يعوق تنمية السوق.

• تمويل الديون بأسعار معقولة: تجد الشركات الخضراء في الجنوب العالمي صعوبة في جمع ما يكفي من تمويل الديون بأسعار معقولة. ونظراً لأن الضمانات محدودة، فإن البنوك التجارية تطلب معدلات تمويل مرتفعة. وهذا يجعل من الصعب جمع ما يكفي من رأس مال الدين لتمويل الأصول الخضراء وتحقيق النمو بسرعة. على سبيل المثال، تقوم شركات الطاقة الشمسية الموزعة على الأسطح في الهند وإفريقيا عادة بتمويل معداتها الشمسية بمعدلات تمويل تتراوح بين 15% و18% بالعملات المحلية، وهذا يجعل هذه الشركات معرضة للانهيار.

• توقيت الدفع والأمن: تجد العديد من الشركات الخضراء الصغيرة صعوبة في الحصول على أموالها في الوقت المحدد حتى بعد تقديم خدماتها، ولا يحدث هذا مع الحكومات التي تؤخر وتؤجل المدفوعات فحسب، بل وأيضاً مع الشركات الأكبر حجماً التي تتمتع بالقدرة الشرائية للضغط على الشركات الأصغر حجماً. 

• الأحداث الجوية المتطرفة: يتعرض الجنوب العالمي لأحداث مناخية متطرفة، بما في ذلك الفيضانات والجفاف والحرارة الشديدة والأعاصير. ويؤدي ذلك إلى خسائر فادحة ناجمة عن الطقس بالنسبة للقطاع الخاص. ولا يتوفر تأمين لمثل هذه الأحداث، مما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف جميع أنواع الاستثمارات الخضراء. 

وتبدو قدرة بنوك التنمية المتعددة الأطراف على التعامل مع هذه التحديات محدودة لثلاثة أسباب: أولها، أن معظم انبعاثات الغازات الدفيئة تصدر من عدد قليل من دول الجنوب مثل: الهند، والبرازيل، ونيجيريا، وإندونيسيا، وجنوب إفريقيا، ولكون هذه البنوك ملزمة بخدمة كافة الدول، فمن الصعب أن تركز جهودها على عدد قليل من الدول المختارة.

ثانيها، تركيز الجهود التمويلية لبنوك التنمية على التمويل العام (الحكومات المركزية) وليس على تمويل القطاع الخاص في جميع أنحاء العالم. ومن ثم، لم تقم هذه البنوك بإنجاز صفقات، أو تقييم مخاطر أو مراقبة الاستثمار عبر القطاع الخاص. ثالثاً وأخيراً، تعاني بنوك التنمية من تعقيد ترتيبات الإدارة المتعددة وعمليات التشغيل الراسخة، الأمر الذي يجعل من الصعب عليها الاستجابة بسرعة لاحتياجات السوق سريعة التطور.

بنك أخضر عالمي:

تقترح الورقة تدشين مؤسسة تمويل جديدة تحت اسم "البنك الأخضر العالمي" على أن تركز على توفير حلول تمويل مبتكرة تعتمد على السوق للمؤسسات الخضراء في عدد قليل من دول الجنوب المختارة من أجل الدفع إلى صافي الانبعاثات الصفري بها. 

ومع توسع الشركات الخضراء في هذه الدول المختارة، سيتم استدعاء النموذج في دول جنوب أخرى. فعلى سبيل المثال، يمكن للشركات الناشئة في إندونيسيا ونيجيريا تكرار نماذج الأعمال التي تستخدمها الشركات الناشئة في توسيع نطاق منشآت الطاقة الشمسية الريفية الموزعة في الهند. 

وسيقع تمويل البنك الأخضر العالمي على عاتق الدول الراعية، والصناديق السيادية، والمؤسسات الخيرية. ومن الممكن أن تزيد القدرة التمويلية لهذا البنك بمرور الوقت عندما يثبت نجاحه. وترى الورقة البحثية أنه من المهم أن يكون مقر البنك في إحدى دول الجنوب الكبرى مثل: الهند، وإندونيسيا، والبرازيل، وجنوب إفريقيا. وسوف يحتاج البنك إلى توظيف مديرين تنفيذيين من القطاع الخاص يتمتعون بخبرة مالية عالمية ومحلية، كما ينبغي أن يعمل البنك كشركة استثمارية عالمية قادرة على الوساطة في المنتجات المالية والاستثمار من خلال صناديق الاستثمار المجمعة خارجياً. 

وتقترح الورقة أن تتركز مجالات عمل البنك الأخضر العالمي، فيما يلي:

• معايير المحاسبة وإعداد التقارير الخضراء: سيعمل البنك الأخضر مع منظمي القطاع المالي في دول الشمال وجنوبه للتوصل إلى اتفاق بشأن المعايير الخضراء للتصنيف، والتتبع، والإفصاح، والتحليل. 

• تحوط العملة على المدى الطويل: سوف يساعد البنك الأخضر على خفض تكلفة التحوط من العملة في الجنوب العالمي. وعليه، ستخفض تكلفة رأس المال لشركات الجنوب بمئات نقاط الأساس مع حماية المستثمرين في الشمال العالمي من توافر العملة ومخاطر انخفاض القيمة. 

• حلول تمويل الديون: يستطيع البنك الأخضر أن يقدم حلولاً واسعة النطاق لتمويل ديون أصول رأس المال الأخضر مثل الحافلات الإلكترونية، أو البطاريات القابلة للتبديل، أو أسطح المنازل التي تعمل بالطاقة الشمسية. 

• التأمين ضد تغير المناخ: يحتاج البنك الأخضر إلى المساعدة في تطوير حلول تأمين مبتكرة للقطاع الخاص ضد الكوارث المناخية، مثل: التدمير الأخير لمحطة الطاقة الكهرومائية في سيكيم بالهند، الذي أدى إلى مقتل أكثر من 40 شخصاً، وجرف السد، وإفلاس شركة التوليد، وشطب مبالغ مالية كبيرة للبنوك. 

تشكيل الأسواق الخضراء:

يمكن للبنك الأخضر العالمي أن يعمل مع مؤسسات تمويل التنمية الوطنية داخل دول الجنوب الرئيسية، مثل: الصندوق الوطني للاستثمار والبنية التحتية في الهند، و(BNDES) في البرازيل، وهيئة الاستثمار الإندونيسية. ويمكن لهذا البنك أن يعمل جنباً إلى جنب مع مؤسسات تمويل التنمية القائمة، وبنوك التنمية المتعددة الأطراف، والبنوك التجارية، وشركات الاستثمار في رأس المال الاستثماري/الأسهم الخاصة للمساعدة على تحفيز أنشطتها في مجال التمويل الأخضر.  

وسوف يتألف البنك الأخضر المقترح من شبكة تمويل خضراء لجنوب العالم، والتي ينبغي أن تكون قادرة على الاضطلاع ببعض الوظائف المهمة لتشكيل الأسواق الخضراء: كتطوير النظام البيئي، ومشاركة أصحاب المصلحة لتمكين تطوير النظم البيئية، والتعبئة المالية داخل الدولة من خلال حشد شبكة واسعة من الشركاء الماليين داخل الدولة، وتبادل أفضل الممارسات ونماذج الأعمال وأساليب التمويل في جميع أنحاء العالم. 

ويختتم التقرير باستعراض تجربة (Gavi) "تحالف اللقاحات العالمي" باعتبارها المثال الأكثر نجاحاً لإنشاء مؤسسات عالمية لتشكيل الأسواق الجنوبية العالمية لتلبية احتياجات التنمية العاجلة. إذ يعمل (Gavi) عبر 73 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل، وتم من خلاله تلقيح أكثر من مليار طفل عن طريق استخدام التزامات السوق المسبقة كحل تمويلي مبتكر. ويتم دعم (Gavi) من قبل دول الشمال المتقدم والمؤسسات الخيرية. وبالمثل، لا يمكن حل أزمة تغير المناخ في الكوكب عن طريق الأسواق وحدها، فهناك حاجة إلى تدخلات السياسة لتشكيل الأسواق. ويُطلب من البنك الأخضر العالمي التوجه نحو القطاع الخاص للتغلب على فجوات السوق التي تمنع تدفق رؤوس الأموال إلى الجنوب. كما يمكن لهذا البنك استيعاب أنواع معينة من المخاطر ونشر أدوات التمويل التي تحمي المستثمرين وشركات الشمال. 

المصدر:

Jayant Sinha, A Green Bank for Global South Climate Finance, Observer Research Foundation, 2023.