النموذج الأمريكي:

آثار دمج كلفة وعائد سياسة المناخ على الموازنات الحكومية

13 December 2023


عرض: هند سمير

يؤدي تغير المناخ إلى أخطار شديدة ومتكررة بشكل متزايد، مثل موجات الحر، وحرائق الغابات، والجفاف، والفيضانات. في الوقت نفسه، تزيد هذه المخاطر الإنفاق في مجالات مثل الإغاثة في حالات الكوارث، والرعاية الصحية، وبرامج التأمين. ومن المرجح أيضاً أن ينعكس تغير المناخ في انخفاض صافي الإيرادات من خلال التأثير في الإنتاجية وساعات العمل وإجمالي القوى العاملة. وعند الجمع بين هذه العوامل، فإنها سوف تؤدي إلى خسارة كبيرة للميزانية الفدرالية الأمريكية. 

إلا أن هذه الخسائر لا يتم تمثيلها حالياً بشكلٍ كافٍ في المنهجية المستخدمة لتحديد تكاليف وعوائد سياسة المناخ. في هذا الإطار، يتناول تقرير بعنوان "آثار تغير المناخ على الميزانية وتأثيرها المحتمل على التشريعات" الصادر عن مؤسسة راند للأبحاث في عام 2023 أبرز الطرق التي يؤثر بها تغير المناخ في الميزانية الفدرالية للولايات المتحدة الأمريكية، وكيفية التخفيف من هذه الآثار عبر تحسين نمذجة هذه التأثيرات وتطوير التشريعات.

نطاق التحدي:

على الرغم من أن المخاطر المرتبطة بتغير المناخ تم تنظيرها والتنبؤ بها لعقود من الزمن، فإننا نشهد على نحو متزايد العواقب في العالم الحقيقي. فموجات الحر والجفاف والفيضانات غير المسبوقة التي تؤثر في عشرات الملايين من الأمريكيين كل عام تكلف الحكومة الفدرالية مليارات الدولارات. علاوة على ذلك، تنفق الحكومة الفدرالية مليارات الدولارات كل عام على جهود الحماية والوقاية والتخفيف المرتبطة بالمخاطر المناخية. وعلى نحوٍ مماثل، سوف تتطلب الجهود الرامية إلى إزالة الكربون من قطاعات الطاقة والنقل والبناء والزراعة وغيرها إنفاقاً فدرالياً كبيراً يصل إلى تريليونات الدولارات. 

مع ذلك، فإن تحليل الميزانية يقوم فقط بتقييم التكاليف التي تتحملها الميزانية الفدرالية بناءً على السياسات المتبعة، أي كيفية تأثير السياسة في الإنفاق والإيرادات التقديرية والإلزامية دون دمج فوائدها غير المالية المحتملة، مثل انخفاض الوفيات بسبب الهواء النظيف. وفي حين تقوم معظم الوكالات الفدرالية بإجراء تحليلات التكلفة والعائد للسياسات المقترحة، فإن الافتراض الأساسي لتحليل الميزانية هو أن المشرعين سوف يحددون الفوائد المحتملة للسياسات في حين يتم تحديد التكاليف كمياً وإبلاغها كنتائج. 

تعطي هذه المنهجية صورة غير كاملة لتأثيرات السياسة ويمكن أن تتحيز ضد الظواهر التي تعمل خارج أفق الميزانية التقليدي الذي يمتد إلى 10 سنوات أو 30 سنة، مثل تغير المناخ. وأظهرت وكالات مثل: مكتب الميزانية التابع للكونغرس (CBO) ومكتب الإدارة والميزانية (OMB) التزاماً قوياً بفهم تأثيرات تغير المناخ في تقديرات ميزانيتها. مع ذلك، فإن كلا الوكالتين مقيدتان بالوقت والموارد المتاحة وتفويضات الكونغرس. 

مأزق سوء الفهم:

إن العلاقات بين الاقتصاد وتغير المناخ وسياسات التخفيف والتكيف الفدرالية معقدة للغاية وغير مفهومة إلا جزئياً. بالإضافة إلى ذلك، فإنه قد لا يعرف أو لا يتفق الخبراء وأصحاب المصلحة على العديد من النماذج المفاهيمية التي تصف النظام محل الاهتمام (مثل المناخ)، وكيفية تقدير النتائج البديلة وتقييمها، مثل مقارنة تكاليف التخفيف مع الأضرار التي تم تجنبها في الأجيال القادمة. ولأن عواقب تغير المناخ والاستجابات المصاحبة له سوف تتكشف على مدى يتراوح بين عقود إلى آلاف السنين، فإن الافتراضات حول كيفية تقييم التكاليف التي سيتم تحملها في المستقبل يمكن أن تغير نتائج التحليل. ولهذا السبب، فإن الأساليب الشائعة الاستخدام، مثل تحليلات التكاليف والفوائد، ليست كافية لمعالجة تغير المناخ.

ونظراً للتعقيد وعدم اليقين والأهمية المتزايدة للعلاقات بين تغير المناخ والاقتصاد، فمن المهم أن يتمكن صناع السياسات من الوصول إلى أدوات تحليل السياسات القوية. في هذا التقرير، يصف الباحثون الاعتبارات الرئيسية لتطوير نموذج مناسب، والمتمثلة في: (1) تجسيد العلاقات المتبادلة الرئيسية بين تغير المناخ والاقتصاد والسياسة. (2) استكشاف نطاق المسارات المحتملة للمخاطر المناخية الرئيسية. (3) اختبار الافتراضات المختلفة المتعلقة بالمعتقدات حول معايير السياسة الرئيسية، على سبيل المثال، الاستجابات من البلدان الأخرى أو التقدم التكنولوجي المتعلق بالكفاءة. ومن ثمّ توفير خارطة طريق لنموذج يمكن أن يمثل بشكل مناسب تكاليف وفوائد سياسة تغير المناخ والأساليب المناسبة لاستخدام النموذج لتوجيه تحليلات الميزانية من خلال التسجيل الديناميكي.

تغير المناخ والميزانية: 

نظراً لأن مكتب الميزانية التابع للكونغرس (CBO) ومكتب الإدارة والميزانية (OMB) هما مكتبان فدراليان رئيسيان مسؤولان عن دراسة السياسة المالية ووضع نماذج لها، فمن المهم فهم عملهما الحالي بشأن التفاعلات بين تغير المناخ والميزانية. مع ذلك، من المهم أيضاً الاعتراف بأن كلا الجهتين لديهما قيود في صلاحياتهما مما يحد من نطاق تحليلاتهما. في السنوات الأخيرة، أضاف مكتب الميزانية التابع للكونغرس تأثيرات تغير المناخ إلى توقعات ميزانيته طويلة الأجل من خلال تخفيضات في إجمالي إنتاجية العامل. ويتبع حساب هذه التخفيضات إجراءً من خمس خطوات. 

أولاً، يستخدم مكتب الميزانية في الكونغرس تقديرات اقتصادية قياسية مختلفة للأثر الاقتصادي للتغيرات في درجات الحرارة وهطول الأمطار جنباً إلى جنب مع توقعات مناخية مختلفة لإنتاج سلسلة من تقديرات التأثير الاقتصادي في عام 2050. ثانياً، يجمع مكتب الميزانية في الكونغرس هذه التقديرات مع توقعات مناخية واحدة ومتوسط مرجح للأثر الاقتصادي لتغير المناخ. ثالثاً، يقوم مكتب الميزانية التابع للكونغرس بتقدير الأضرار الناجمة عن تزايد تواتر وشدة الأعاصير بناءً على تقديراته السابقة. رابعاً، يتم جمع آثار الأضرار الناجمة عن الأعاصير والمتغيرات المناخية المائية معاً.

 أما الخطوة الخامسة والأخيرة، فيضمن فيها مكتب الميزانية التابع للكونغرس أن آثار تغير المناخ لا يتم حسابها مرتين عن طريق تعديل تقديرات الأضرار وفقاً لتأثيرات المناخ الموجودة بالفعل في خط الأساس. وبالإضافة إلى تعديل خط الأساس طويل المدى ليشمل الأضرار الناجمة عن تغير المناخ في مجلد يشرح خيارات السياسة بالتفصيل، قام مكتب الميزانية التابع للكونغرس بتقييم تأثيرات حرائق الغابات على الميزانية والتخفيضات المقدرة للعجز من ضريبة قدرها 25 دولاراً للطن على انبعاثات الغازات الدفيئة لتقليل العجز.

كما بدأ مكتب الإدارة والميزانية مؤخراً في النظر في تأثير تغير المناخ في الميزانية الفدرالية بصفة رسمية. ففي إبريل 2022، أصدر مكتب الإدارة والميزانية ورقة بيضاء تحدد حجم الأضرار الناجمة عن تغير المناخ على التأمين على المحاصيل، وإخماد حرائق الغابات، والصحة، والكوارث الساحلية. وأدرج مكتب الإدارة والميزانية أيضاً سيناريو مخاطر المناخ بناءً على السيناريو المئوي الخامس والتسعين الذي طورته شبكة تخضير النظام المالي (NGFS) والذي يتوقع خسارة بنسبة 4.5% في الناتج المحلي الإجمالي على مدى السنوات الخمس والعشرين المقبلة. 

وفي إبريل 2022 أيضاً، أصدر مكتب الإدارة والميزانية ورقة بيضاء بالتعاون مع مجلس المستشارين الاقتصاديين ناقشت ضرورة تحليل المناخ والاقتصاد الكلي للحكومة الفدرالية، وقدمت نظرة عامة على العمل السابق الذي دمج المخاطر المادية لتغير المناخ على الاقتصاد جنباً إلى جنب مع المخاطر المرتبطة بالانتقال إلى اقتصاد أكثر خضرة، وفهرسة مجموعات البيانات والنماذج المتاحة للاستخدام في تحليلات المناخ والاقتصاد الكلي. وكلتا الوكالتان مكلفتان بتزويد الحكومة الفدرالية بالقدرات اللازمة لإجراء عمليات محاكاة المناخ والاقتصاد الكلي من خلال الأمر التنفيذي رقم 14030 (2021). ولمساعدة مجلس المستشارين الاقتصاديين ومكتب الإدارة والميزانية في تحليلاتهم، أنشأت الأكاديمية الوطنية للعلوم مجموعة عمل فنية مشتركة بين الوكالات (ITWG) بشأن المناخ والاقتصاد الكلي.

لقد أظهر كل من مكتب الميزانية التابع للكونغرس ومكتب الإدارة والميزانية التزاماً قوياً بفهم تأثيرات تغير المناخ على تقديرات ميزانيتهما. ومع ذلك، فإن كلا الوكالتين مقيدتان بما هو مطلوب منهما من قبل الكونغرس والسلطة التنفيذية، على التوالي، ويجب عليهما استكمال هذه المتطلبات في ضوء الوقت والموارد المتاحة. على سبيل المثال، تم تكليف مكتب الميزانية في الكونغرس بمهمة تقديم درجات لكل تشريع يمر عبر لجان الكونغرس، وهذا يعني أنه يتعين عليهم إجراء مئات التقديرات كل عام. 

وبرغم الخطوات الخمس – سالفة الذكر- لتقدير تأثيرات تغير المناخ في الميزانية الفدرالية، يشير مكتب الميزانية في الكونغرس إلى أنه ليس لديه أساس لتقدير المدخرات المستقبلية للاستثمارات في التكيف مع تغير المناخ والتخفيف من آثاره (أي أن المنظمات المجتمعية تفتقر إلى المدخلات والمعلومات الضرورية اللازمة لإنجاز هذه المهمة). وهذا يعني أن العشرات من التشريعات المقترحة لا تتضمن الأضرار التي يمكن تجنبها، والتي يمكن أن توفرها سياسات المناخ. وبدلاً من ذلك، يتم تضمين التكاليف النقدية المباشرة فقط.

 وكجزء من جهوده المستمرة لتقييم منهجيات دمج المخاطر المناخية في تخطيط الاقتصاد الكلي للميزانية الفدرالية، أوصى مكتب الإدارة والميزانية باستخدام النماذج ذات السمات التالية: إخراج المتغيرات ذات الصلة بالاقتصاد الكلي، تمثيل سياسات المناخ الأمريكية، إدراج معلومات إضافية حول الأضرار المناخية، التشغيل على المستوى دون الوطني، تمثيل الاحتكاكات بين رأس المال والعمالة، تكون مفتوحة المصدر وتخضع لمراجعة النظراء.

نتائج أساسية:

توصل التقرير إلى عدة نتائج أساسية من أبرزها، أنه سيكون لتغير المناخ تأثير كبير في الإنفاق والإيرادات الفدرالية. على سبيل المثال، ستؤدي الزيادات في درجات الحرارة الشديدة إلى زيادة معدلات الإصابة بالأمراض والوفيات. وهذا بدوره سيؤثر في ساعات العمل والإنتاجية والقوى العاملة بشكل عام، ومن ثم زيادة الإنفاق على برامج الرعاية الصحية في نفس الوقت الذي تنخفض فيه الإيرادات، مما يؤدي إلى خسائر صافية أكبر بشكل عام.

وستوفر سياسات التخفيف من آثار تغير المناخ الفرص والمخاطر على حد سواء لمختلف القطاعات. على سبيل المثال، يمكن للسياسة التي تدعم الطاقة المتجددة أن تعزز فرص العمل الجديدة في قطاع الطاقة المتجددة، لكنها تؤدي إلى فقدان الوظائف في صناعة الوقود الأحفوري. واعتماداً على توقيت وشدة التنفيذ، يمكن أن تؤدي مثل هذه السياسة إلى ضياع الأصول وخسائر اقتصادية إجمالية. وتعتمد التأثيرات البيئية والاقتصادية لسياسات التخفيف من تغير المناخ بشكل كبير على الخصائص التي تختلف بين السكان، مثل الدخل والمخاطر، أضف لذلك العامل التكنولوجي. 

وتختلف الآثار البيئية والاقتصادية لتغير المناخ عن العديد من النظم الاقتصادية والمادية الأخرى لأن الظواهر المتطرفة أكثر احتمالاً وأعلى حجماً من الأحداث الأخرى التي تحدث طبيعياً. وعادة ما تتم نمذجة الآثار الاقتصادية لتغير المناخ باستخدام نماذج التوازن، لكن هذه النماذج ليست مناسبة تماماً لتمثيل هذه الخصائص. فاستخدام وسيلة التوزيع كثيف الأطراف للآثار يمكن أن يمثل تمثيلاً ناقصاً لكل من المخاطر والفرص التي تنطوي عليها سياسة المناخ.

المصدر:

Flannery Dolan, Carter C. Price, Robert J. Lempert, Karishma V. Patel, Tobias Sytsma, Hye Min Park, Felipe De Leon, Craig A. Bond, Michelle E. Miro, and Andrew Lauland, “The Budgetary Effects of Climate Change and Their Potential Influence on Legislation... Recommendations for a Model of the Federal Budget”, RAND Corporation, 2023.